الثلاثاء ١٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم عادل الأسطة

البيت قتيــلا

في ربيع 2002 دخلت القوات الإسرائيلية إلى مدينة نابلس، واجتاحت البلدة القديمة، ولم تترك المدينة، منذ ذلك الوقت إلا لتجتاحها من جديد. قد يتخلل ذلك بعض هدوء وقد لا يتخلله، فكلمة الاجتياح غدت كلمة تتناقلها الألسن، وترددها الإذاعات والفضائيات، ويكثر الكتاب في الصحف من إيرادها، وربما طغت على كلمة انتفاضة التي ذاع صيتها ودخلت إلى المعاجم اللغوية، وإن كتبت بحروف غير عربية. لقد غدت مفردة فلسطينية تسربت إلى لغات العالم كافة، وأصبحت مقترنة باسم فلسطين، كما الكنافة والصابون اقترنتا في العالم العربي باسم مدينة نابلس، وكما الموز باسم أريحا.

في ربيع العام المذكور كتبت قصة قصيرة عنوانها: "هنّ.. هنّ" سلمتها ابتداء للصحفي محمد دراغمة، ولا أدري أين نشرها، وأظن أنها كانت تستقبل، في حينه، استقبالا لافتا، لأنها نموذج لأدب الانتفاضة، إذ أتيت فيها على ما خلفه اجتياح مدينة نابلس، على السكان وعلى العمران أيضا. لقد استشهد، يومها، خمسة وسبعون مواطنا، ودمرت مبان عديدة في البلدة القديمة. وكما حزنت على الشهداء، حزنت لما أصاب البلدة القديمة من دمار ما زالت آثاره بادية حتى اللحظة، لم يرمم، ولا أدري متى يمكن أن يرمم، ويعود إلى ما كان عليه، هذا إذا عاد، وإذا كانت بلدية نابلس تمتلك أموالا لعملية الترميم.

وربما ما زلت أتذكر مدينة عكا القديمة التي لم أزرها منذ العام 1986، المدينة التي فرغت من أكثر سكانها العرب، ليحولها الإسرائيليون إلى متحف يسبغون عليه طابعا يهوديا، مدينة عكا التي قال عنها محمود درويش في جداريته إنها أجمل المدن القديمة. ولن أبدي، هنا، رأيي في رأيه، ولا أدري ماذا سيقول حين يزور مدنا مثل (هايدلبرغ) و(روتنبرغ) ومدنا عالمية قديمة أخرى. كم حزنت في العام 1986 لمنظر عكا القديمة: أكثر الحوانيت مغلقة، وأقلها مشغول يمارس فيه بعض العر ب مهنهم، متمسكين بالمكان، رافضين الإغراءات لتركه. ومع ذلك لم يحدث لها ما حدث لنابلس التي هدمت فيها مبان ومبان، وأصبحت بعضها أثرا بعد عين، كما كان القدماء يقولون.

مؤخرا قرأت يوميات محمود درويش "أثر الفراشة" وتوقفت مطولا أمام إحداها، وهي "البيت قتيلا"، وفيها يأتي على ما فعله الإسرائيليون بالمكان، لقد دمروه ولم يتركوا منه شيئا. طبعا لم يغفل درويش في يومياته الكتابة عما يفعله الإسرائيليون في البشر، هنا في فلسطين، في غزة والضفة، وهناك في لبنان، في قانا، في العام 2006. لقد لخص الأحداث بيومياته. لقد كتب عن هدى أبو غالية، وكتب عن مجزرة قانا في طبعتها الجديدة، طبعة 2006.

والتفات درويش إلى المكان في أشعاره واضح منذ خروجه من فلسطين، وتحديدا منذ ديوانه "محاولة رقم 7"، وتضاعف هذا الالتفات في أشعاره الأخيرة، وتحديدا في "لا تعتذر عما فعلت"، ما دفعني لأن أكتب مقالين مطولين، نشرا في مجلة الأسوار في عكا في العام 2005، ولا أدري إن كانا نشرا في مكان آخر دون علمي، قدمت فيهما أفضل ما كتب عن المكان في أشعار درويش، في حدود ما أعرف.

سيلفت نظري مؤخرا مقطوعته "البيت قتيلا". حقا إنه في إحدى قصائد "كزهر اللوز أو أبعد" (2005) أتى على ما تفعله الجرافات الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية، حيث تغير معالمها، إلا أنه في "البيت قتيلا" يختلف. هنا يأتي على تفاصيل البيت وما يحتويه، وعلى ما جرى له ولمحتوياته على يد الإسرائيليين. إنهم لا يغتالون البشر وحسب، وإنما يغتالون الطبيعة، وكانوا أيضا اغتالوا التراث حين سرقوه، وسوقوه في العالم على أنه تراث عبري: من الحمص إلى الفلافل إلى الثوب الفلسطيني. وإذا صحت الأقوال عن محمد الدرة، حيث وضعوا على رأسه القبة الإسرائيلية، ليجعلوا منه يهوديا، فقد سرقوا منا الشهداء أيضا، الشهداء، الذين قالوا عنهم إنهم إرهابيون.

هدم البيت هو قتل أيضا، حتى لو خلا من سكانه. إن فعل التدمير هو مقبرة جماعية، وهو بتر الأشياء عن علاقاتها وعن أسماء المشاعر. وفي فعل القتل كل شيء كائن يتوجع. إن البيوت تقتل كما يقتل أصحابها، سكانها، وتقتل أيضا ذاكرة الأشياء: الحجر والخشب والزجاج والحديد والاسمنت والقطن والحرير والكتان والدفاتر والكتب وتنكسر الصحون والملاعق والألعاب والاسطوانات والحنفيات والأنابيب والثلاجة والغسالة والمزهريات ومرطبانات الزيتون... الخ.
كل ما سبق وغيره ينتهي في لحظة واحدة، لكنها لا تدفن معنا. الإسرائيليون لا يقتلوننا، إنما يقتلون معنا بيوتنا ومدننا، فكيف يمكن أن نغفر؟

أضف إلى ذلك

الأحد 30/12/2007 زرت رام الله التي لم أزرها منذ أيار 2007. أنا أحب رام الله، وأحترم أصدقاء لي فيها، وحين أزور المدينة أرغب في زيارتهم. أزور بعضهم، وأتردد في زيارة آخرين، ربما لأنهم مشغولون، وربما لأنني شخص إشكالي، أسبب لمن أقترب منه حرجا هو في غنى عنه، بسبب منصبه. حتى محمود درويش الذي غدوت ناقده في الأرض المحتلة أتردد في زيارته، فلم أره منذ 14/8/2000 يوم دعيت من وزارة الثقافة لحضور حفل توقيع قصيدته الطويلة: "جدارية" التي خصصتها بكتاب نال إعجاب الشاعر الذي قلما يعجبه نقد، ولأنني خجول، إلى حد ما، ولا أحب أن أفرض نفسي على أحد، فلم أصعد مع الصديق محمود شقير إلى غرفة درويش في السكاكيني، مع أنه- أي شقير- دعاني. يومها حياني درويش وهو يهبط الدرج، ورددت على التحية بمثلها.

الأحد 30/12/2007 زرت رام الله المدينة التي كنت أزورها، مثل القدس، قبل 28/9/2000 باستمرار- القدس قبل 1987-. كنت أتسكع في شوارعها وأتردد على مكتباتها، وأزور مبنى وزارة الثقافة، فألتقي بالقاص محمود شقير والشاعر علي الخليلي والشاعر غسان زقطان، وأحيانا ألتقي كتابا آخرين، وأعود من رام الله بكتب عديدة تفيدني في تدريسي وكتابتي، فرام الله تبدو الآن وريثة القدس سابقا: حجة المثقفين. لقد حرمنا الاحتلال من زيارة القدس، كما حرمنا أيضا، منذ انتفاضة الأقصى، من زيارة رام الله بأريحية. لماذا؟ بسبب الحواجز طبعا. كم هي مقيتة هذه الحواجز! كم! مع أنها اليوم أقل أذى. ربما لي، لأنني غالبا ما أسافر في أيام إجازات.

الأحد 30/12/2007 زرت رام الله وزرت وزارة الثقافة وزرت مكتبة شروق واقتنيت منها كتبا لم تتوفر في نابلس. لقد عدت بغنيمة جيدة. وفي مبنى وزارة الثقافة التقيت بالشاعرين غسان زقطان وعلي الخليلي، وأنفقت وقتا معهما ربما زاد عن الأربع ساعات. طبعا لم أكترث بعبارات وإشارات معينة يقولها ويمارسها كثيرون بحضوري، لأنني لا أريد أن أخسر المزيد من الأصدقاء حين أمنح هذه العبارات والإشارات دلالات معينة. لا بد من إهمالها كأنها لم تكن، ولا بد من تفريغها من مدلولاتها حتى لو نعت بأنني ساذج أو بسيط. أحيانا أثأر مِن ممارسيها بعبارة واحدة أرسلها عبر البلفون إلى صديق حتى يعممها، وكقاني الله شر القتال.

في حواري مع غسان زقطان أتينا على جيله الشعري وجيل محمود درويش الشعري. طبعا الخلاف في الذائقة لا يفسد للود قضية. أنا لم أكتب عن أشعار غسان أي مقال، حتى قصته الطويلة "وصف الماضي" لم أكتب عنها. هل هو غاضب مني؟ لا أظن. فأنا، ولا أدري لماذا، لا ألتفت إلى الشعر كثيرا، مع أنني كتبت نقدا في شعر شاعرين ربما يرتقي إلى مستوى شعرهما، ما جعلني مؤخرا مغرورا حيث رددت عبارة: أنا ناقدا للشعر بمستوى درويش شاعرا، وبمستوى النواب شاعرا. كما قلت: ربما يكون في هذا بعض غرور. ربما، وحين قارنت ما كتبته عن أشعار درويش الأخيرة بما كتبه عبده وازن الذي صدر كتابه عن دار رياض الريّس قلت: ليس هناك مجال للمقارنة، فما قدمته أفضل بكثير. بكثير جدا. لنقل: هذا غرور.

سيفاجئني الشاعر غسان زقطان صباح الاثنين 31/12/2007 بمقطع شعري في: "دفاتر الأيام" عنوانه: "أضف إلى ذلك" وهذا نصه لمن لم يقرأه:

"أضف إلى ذلك كله
الضجر
والنميمة
والضيق
وكوابيس الطفولة
لا أخذ
ولا عطاء
لا لين ولا شدة
هكذا يصلون إلى هنا
وكأنما ينقص رام الله
غواة
ومتبطلون"

لو لم يأت هذا الدفتر بعد زيارتي رام الله ولقاء الشاعر فيها، لما التفت إليه. أنا لا أعرف متى كتبه غسان وفي مَنْ كتبه- أي من المقصود بالذين يصلون إلى رام الله، بالغواة والمتبطلين. والمعنى في بطن غسان الشاعر على أية حال، هذا عدا أنني آخذ وأعطي، ولا أدري إن كنت لينا أو شديدا أو ما بين بين، ولكني أدري أنني لست غاويا ولا متبطلا، وأنني لا أبحث عن وظيفة ما، لأنني أمتلكها، ولأنني حتى لو تركت عملي، فلربما لن أبحث عن غيره، ذلك أنني أملك ما يكفيني من المال.

أدرك أنني لست واحدا ممن كتب عنهم غسان، حتى لو قصدني هو. ذاك تصوره، وفيه نسبة من الخطأ أكثر مما فيه نسبة من الصواب، عدا أنني كنت أقصد المدينة قبل أن يقصدها وآخرون، ولعله ينطبق عليه، ما قصد به غيره، لا على لسانه، بل على لسان كثيرين من أهل رام الله، ممن تضرروا من عودة العائدين، ورأوا فيهم عبئا على رام الله، وأنا لست منهم لأنني لم أتضرر، ولأنني أرحب بعودة الفلسطينيين كلهم، ففلسطين لهم ولنا معا.

لولا المساحة يا غسان لكتبت أكثر. لم أخصصك من قبل بمقالة نقدية آتي فيها على شعرك. لقد نجحت في استدراجي، قصدت ذلك أم لم تقصد، وأهلا بالعائدين في رام الله وفي غيرها، ولن أكون مثل (أولمرت) أنادي بدولة لليهود، فلا تكن يا غسان مثله، من حيث لا تدري!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى