الجمعة ١٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم محمد أبو الفتوح غنيم

(احتراق الضفائر السوداء) شهادة ميلاد

الشاعر الجميل (عمرو صبحي) شاعر عاشق كما عرفته، جُلُّ قصائده عن العشق والوصل والجفاء وقليل منها عن الذات، ولعل هذا ما جعلني منجذب إلى قصيدته التي أتحدث عنها الآن إذ أنها لون جديد لم أعهده عنه، ولعل ما أسرني فيها ليس كونها عن قضية فحسب بل كون القضايا تخلق من الشاعر شاعرا آخر، فيقول الكلمة وليست كالكلمة، والمعروف أن الشعر إنما هو نتاج تقلب المشاعر واحتقانها، وليس ثمة شيء يأجج المشاعر ويخرج ليوث الكلمات من عرينها إلا الحديث عن وطن أو أمة، ولعل هذه القصيدة فاتحة خير على هذا الشاعر حتى نرى قريبا أخواتها يجاورنها في ديوان يحمل همومه تجاه وطنه وأمته.

كَذِبٌ ... كَذِبْ
هو .. لا يراهُ كما يجبْ
من قال أن حبيبتي السمراءَ قد ذُبحتْ أمام الناسِ
في وضحِ النهارِ .. فلم يُصِبْ
من قال أني قد ذرفتُ الدمعَ فوقَ الأرضِ ثم دعوتُ
أن ربي استجبْ ..
كَذِبٌ ... كَذِبْ

إن البدأ بالتكذيب أو الإنكار يعد في مجمله كالاستفهام، حيث يدفع القاريء إلى التساؤل عن حقيقة الأمر فهو تأكيد للنفي لا يخلو من التشويق، ونرى الشاعر يسخدم التأكيد اللفظي في أول المقطع وآخره زيادة وإمعانا منه في التكذيب وكأنه لا يقتصر على مجرد الإخبار بكذب فلان بل ويريد من السامع أن يدرك كذبه وألا يكون فريسة له، وهذا كله لينكر توهم البعض أنه قد فقد غاليته التي يكتب عنها، وأجدني لا أستسيغ قوله (من قال أن حبيبتي السمراءَ قد ذُبحتْ أمام الناسِ في وضحِ النهارِ .. فلم يُصِبْ) ليس كله بل تحديدا قوله (فلم يصب)، حيث أجد ركاكة ربما منبعها زيادة حرف الفاء والذي لا أجد له مكانا في هذه الجمله فأصلها (لم يصب من قال أن حبيبتي السمراء ..) أو (من قال أن حبيبتي السمراء .... لم يصب)، أي أن حاله أنه لم يصب، فلا وجه لاستخدام الفاء هنا لأن العطف يخرج الجملة عن هذا المعنى ويجعلها ناقصة، فلو أننا سلمنا بما قاله الشاعر لوجب أن يكون هناك بقية للحديث كمثال (من قال أن حبيبتي السمراءَ قد ذُبحتْ أمام الناسِ في وضحِ النهارِ .. فلم يُصِبْ حاله كذا)،أي أن (فلم يصب) تقع صفة للقائل ويتبقى ذكر حاله، وقد تصح إذا قلنا مثلا(كَذِبَ من قال أن حبيبتي السمراءَ قد ذُبحتْ أمام الناسِ في وضحِ النهارِ .. فلم يُصِبْ)، إلا أنها ومع اكتمال معناها على هذا الشكل لا تخلو من قصورة بلاغي وركاكة، ولعل هذا هو المقصود إذا قلنا بأن هذه الجملة كلها متعلقة بوصف حال من (لا يراه كما يجب).

سمراء .. إن زعيمَ طائفةِ النفاقِ
بحادثِ الإفكِ افترى ..
سمراء .. إن العين قد زاغت ..
وقد كَذِبَ الفؤادُ .. ولم يرى..
سمراء .. سمُ الخبثُ في دمكِ المطهرِّ
قد ســرى!
باعوا ..
وبعتُ .. رخيصَ قولٍ
لا يباعُ .. فيشترى!

وهنا أجد الشاعر يكرر النداء متحببا ومذكرا بقوله (سمراء) وكأن هذا النداء في طياته تغزل، وأجد التناص بين ما أراد قوله وبين حادثة الإفك جيدا لحصول الكذب و البهتان في كلاهيهما، كذا اقتباسه من في قوله "كذب الفؤاد ولم يرى" اقتبسه من قوله تعالى "ما كذب الفؤاد ما رأى" إلا أنه ليس اقتباسا محضا بل طرأ عليه تغيير فربما اعتبر اقتباس جزئي، أما نهاية مقطعه فينكر شراءه لكذبهم وبهتانهم، وقوله "لايباع فيشترى" إما أنه قصد أن هذا القول لا يباع أصلا وهذا يتنافى مع قوله باعوا وبعت، أو أنه يقصد أنه لا يشترى إذا بيع، ولعل هذا هو المقصد وهو الصواب وعندها تكون لا نافية للجمله وليس للفعل يباع بمعنى أنه إذا بيع لا يشترى، ولعلنا ننتبه للفرق بين "(لا يباع) فيشتري" و "(لا) يباع فيشترى".

سمراءُ .. وجه براءةٍ / ثوبٌ قصيرٌ
واشتباكُ ضفيرتين ..
سمراءُ فرحةُ غائبٍ
وشريطُ عمرٍ مرَّ في (اللا وقت واللا أين)
سمراءُ .. دمعة زوجةٍ ..
برقية الموت الأخيرةِ تلتقي مع شهقةٍ ..
أو شهقتين ..
سمراءُ تشنقُ كل يوم في برودٍ .. مرتينْ !

ولا زال الشاعر مع سمراءه يصفها بالبراءة والطفولة البهجة، وكأنها فرحة مسافر عاد إلى وطنه بعد اشتياق أو شريط عمر لا يلتفت لمكان أو زمان، فطالما كانت هي العمر فهذا يكفي ولا يشغله مكانه أو زمانه، ثم يصفها بأعذب شيء ممكن وأكثر شيء يدفع الرجل إلى اللين وهو دمع الزوجة، وإذا نظرنا نظرة أعمق قليلا لوجدناه يرمي إلى أنها طفلة من حيث هي صغيرة الحجم مسالمة منزوعة العنف، أما شريط العمر الذي يمر في الا وقت ولا أين فإننا قد ندرك أنه يتناول الاتفاقيات والأحداث التي مرت بها، واستعارة البرقية للموت رائع دلالة على سرعته واختطافه، أما قوله " سمراءُ تشنقُ كل يوم في برودٍ .. مرتينْ" فلا أدري لم اختار مرتين ولم لم تكن ثلاثة، فهذا والله أعلم إتيان بالقفية من أجل السجع وهو مما يعيب إلا أن يجد الشاعر لها مخرجا بشيء في تصوره.

ونقلبُ التلفازَ بحثاً عن بقايا بعض أشباحِ الكرامةِ..
نستفيقُ .. على الأناةْ
والموتُ يعرفُ صيدهُ ..
ينسابُ مثل الموجِ بعثرةً ويمسحُ بعض قطرات الدم
المنسيّ من نزف الحياةْ
فيسيلُ فيضُ دمائنا رخصاً
ويستعرُ الشجونُ على الشفاهْ

ونجد هنا مباشرة في وصفه حالنا في الجلوس أمام التلفاز والمتابعة لعلنا نجد الشجاعة والكرامة هنا أو هناك، ولكننا ما نلبث أن نفيق على أصوات الصارخين والمتوجعين، الهاربين من الموت، كم أجد قوله "ينسابُ مثل الموجِ بعثرةً"رائع التشبيه والتصوير فالموت هنا مبعثر لا يميز بين طفل وامرأة وشيخ، وكذا تشبيهه بالموج بديع لأن الموج يهجم بقوة على الانسان بينما أجد كلمة المساب تدل على عكس هذه الدلالة فالانسياب يكون بلطف وأظن الشاعر لم ينتبه إلى هذا، أما قوله "ويمسحُ بعض قطرات الدم المنسيّ من نزف الحياةْ" فإبداع آخر إذ جعل الموت هو الأصل وكأن الحياة شيء عارض يمسحه الموت وكأنها بعذاباتها نزف فيريحهم الموت من هذا العذاب، وهذا لا يتأتى إلا بأن يسيل دمه حقا.

سمراءُ .. تبكي صبرها ..
وتردُ جفنيها انتظارْ
والفجرُ يخرجُ من مآذنها
يجوبُ الأرضَ من تحتِ الحصارْ
ويلملم الموتى ويخرجُ من حقول الموتِ
يلعنُ ألفَ عارْ
يبكي ..
ويسندُ رأسهُ ويخطُ قصة ذُلهِ المسكوت عنه تعمداً
أنشودةً فوق الجدارْ

وسمراءه هنا تبكي صبرها الذي يكاد ينتهي، وتغمض عينيها في انتظار الفرج، وهنا استعارة بديعة بديعة، إذ يقول الشاعر "والفجرُ يخرجُ من مآذنها يجوبُ الأرضَ من تحتِ الحصارْ" فقد صور الحق يخرج من مآذنها كناية عن الدين كالفجر في نوره وإشراقه وهداه، لا يأبه بحصار أو غيره فهو دائما نبع الكرامة والعزة والإباء سواء كنا تحت حصار أو قصف، أما قوله "ويلملم الموتى ويخرجُ من حقول الموتِ يلعنُ ألفَ عارْ" فيا له من تصوير عجيب إن قصد به موتى القلوب حيث يخرجهم هذا الفجر من الظلمات إلى النور يخرجهم ليعلنوا انتفاضتهم وعودة ضمائرهم، ولعله هنا يتحدث عن الشعوب بخاصة إّا ما نظرنا إلى قوله "يبكي ..ويسندُ رأسهُ ويخطُ قصة ذُلهِ المسكوت عنه تعمداً أنشودةً فوق الجدارْ"، فربما كان يتحدث هن عن صمت الحكام وثورة الشعوب، مبدع هو.

نشجبْ..
ندينُ .. ونستعير الدمعَ زوراً
ثم يخرجُ من يقول معربداً ..
" فلتستريحوا! ماتت السمراءُ
سمُ الخبثِ قد طال البدن .."
قد ماتت السمراءُ
واحترقت ضفائرها ، وقد طويَ الكـفنْ !
فنشدُ أطرافَ السكوت ونسألُ الأحزانَ كيما نستبينْ
فتشيرُ أطرافُ الأصابعِ نحو طفلٍ طاعنٍ في البؤس
يجترُ الحنينْ
"من بين طيات الرفات وبين اكوام الرماد ونزف احزان السنينْ
من عمق أحضان الصمودِ سيخرجُ الآن ...
الجنــينْ "

ويكمل الشاعر بوصفه حال الحكام العرب من شجب وإدانة، وما أجمل قوله "ونستعير الدمعَ زورا" فهو يمثل حال حكامنا الحقيقي فكل يشج ويدين وتدمع عينه ولو صدقوا لما تركو غزة على هذا الحال، وهو يذكر الخدع السياسية وكلمات من يستخفون بشعوبهم فيطيعونهم فيقول " ثم يخرجُ من يقول معربداً .. " فلتستريحوا! ماتت السمراءُ سمُ الخبثِ قد طال البدن .." قد ماتت السمراءُ واحترقت ضفائرها ، وقد طويَ الكـفنْ"، ويكون نتاج هذا أن تلك الشعوب تعود فتلتحف السكوت وتجذب أطرافه لتعود إلى ما كانت عليه من صمت بعد، ويستفيقون على صور الدمار وبكاء الأطفال واجترارهم الحنين، وعندما تسكت هذه الشعوب وتركن إلى حكامها يخرج جنين المقاومة من جديد من بين الرفات وأشباح الموت يخرج وقد تحمل بأثقال من الهموم والواجبات تجاه وطنه يخرج وقد تعلم من آباءه وأجداده معنى الصمود وقد تعلم أن هناك من سيخذله فعليه ألا يأبه له.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى