الأربعاء ٣١ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم فاروق مواسي

القصيدة والأداء

يتلقى القارئ القصيدة – عادة – من خلال قراءة ومعاينة ، وذلك في وقت يختاره ، وبالطريقة التي يرتئيها . غير أن القدرة على الإلقاء المعبر المثير جزء لا يستهان به في الحكم على القصيدة وتقديمها . فالإلقاء من مقومات القصيدة وبنيتها ، وعلى الأداء يعتمد المتلقي في تجاوبه ، وهو السحر الذي يغير من صورة المضمون ، والذي قيل فيه ( إن من البيان لسحرا ) .

ولو عدنا إلى الشعر العربي القديم لوجدنا لفظة ( أنشد ) مصطلحًا أساسًا في الشعرية العربية . ويمكنكم أن تتصوروا المتنبي وهو ينشد شعره ، وخاصة وهو يشترط على كافور أن يقرأ قصائده راكبًا ، وكافور قبالته . ويمكنكم أن تتصوروا أحمد شوقي الذي لم يكن يجيد الإلقاء ، وهو يطلب من حافظ الجهوَري الصوت أن ينشد له شعره . ولعل اقتران اسم حافظ – وهو دون شوقي في منزلة الشعر – باسم شوقي يعود الفضل فيه إلى جودة الإلقاء لدى حافظ . وليعذرني الشاعر سميح القاسم إذا قلت إن بعض قصائد الانتفاضة التي كتبها لا ترقى إلى مستوى شعره – وهذه وجهة نظر ذاتية - ، لكنه عندما يلقي شعره هذا بأدائه الرائع الأخاذ ، وإيقاعه الموسيقي ، وحركاته وأحيانًا رقصه ، فإنه يجعل من هذه الكلمات - التي قرأناها عادية مألوفة - لحظات في الإبداع ، وسحرًا في التوصيل .

إذن هناك حكمان على عمل واحد . ومن ير غير ذلك فليقرأ ( عابرون في كلام عابر ) لمحمود درويش ، ثم يوازن ذلك وسماعه للقصيدة نفسها من قرص (كاسيت) مسجل .

ومن الشعراء الذين ينفعل المتلقي بأدائهم الشاعر الروسي يفجيني يفتشنكو ، فقد تيسر لي أن أستمع إليه مباشرة ، فوجدته مدهشًا يخلب الألباب ، ، فكان حالي كحال أبي تمام الذي وصف مغنية بالفارسية :

ولم أفهم معانيها ولكن

ورت كبدي فلم أجهل شجاها

فبت كأنني أعمى معنّى

يحب الغانيات ولا يراها

وبالطبع فليس المطلوب من كل شاعر أن يصل إلينا مباشرة ، فهناك إمكانات نجدها اليوم في الكاسيت وشريط الفيديو . أما الحرف المطبوع فهو لا يصل بدقة إلا إلى خاصة الخاصة ممن طبعوا على الصبر و مغالبة الكلمات والقراءة بين الحروف ..... ومع ذلك فلا يمكن أن يصل الشاعر إلى المتلقي كمن يصل بنبرات صوته وصدق انفعاله وملامح وجهه بالتعابير التي تكسب الصورة هالة من المعاني والإيحاءات .

قيل لأعرابي ما أحسن الشعر عندك ؟ أجاب : ( ما طبعه يملي علي ما لا يمل الاستماع إليه ) . وقد ذكر ابن قتيبة في مقدمة كتاب ( الشعر والشعراء ) ما يؤكد ضرورة السماع . إذن ، فالإلقاء فن ، وهو برأيي عصب القصيدة وحيويتها .

ومن هنا :

حبذا أن يهتم معلمونا بفن الإلقاء ، فلا يُقرأ بيت الشعر بصورة آلية : صدر.... عجز .....

ولا يقرأ برتابة ...أو بصوت ناعس...أو وبأخطاء ، بل بوقفات تتلاءم والمعنى ، وبنبرات تنسجم والمضمون ، فموسيقى ألفاظ شعر الغزل ليست كنغمة الرثاء أو الهجاء أو الحماسة ، وما هو هادئ رقيق ليس كما هو عنيف في وتائر الدم فيه ، وإذا قالوا قديمًا ( لكل مقال مقام ) فإنني أقول : لكل قصيدة أداء .


مشاركة منتدى

  • حزن بحجم اليتم
    الحزنُ خيَّم فوقَ الدَّارإذ ذهبا
    والهم عرَّس في جنبَيَّ واحتطبا
    وأُشعلَ الوجدُ ما بين الضلوعِ فإن
    كشفتُ عنه رأيتم في الحشا لهبا
    كيف استجابَ لداعي الموتِ فابتسمت
    فيه الأسارير لمَّا ذا الملاكُ نبا
    أستسلمت فيك روحٌ كلُّها هِممٌ
    لاقت كثيرًا ولم نُبصر بها تعبا
    أم أنَّ أغراك داعي الموتِ فانطفأت
    فيك الحياةُ فلبَّت نفسك الطَّلَبا
    أم أنَّ حزنَك والأحزانُ قاتلةٌ
    قد حطَّم الكأس حتى عمرك انسكبا
    هل ضقتَ ذرعًا وفضَّلتَ الرَّحيلَ ولم
    تُنْظِرْ صغيرًا بحكم الدَّهرِ صار أبا
    حرمتني يا أبي من أن أقول أبي
    منحتني اليُتمَ بئس المنحُ إذ جلبا
    خلَّفتنا بين أغرابٍ يُكادُ لنا
    وبين أعمامِ سوءٍ أتقنوا الكذبا
    بين الجموعِ كماء السلسبيلِ لنا
    وإن خلَوا غصةٌ تستوجبُ العجبا
    تركتنا دون ظلٍّ والشموس هنا
    تُصَعِّرُ الخدَّ للمسكينِ حيث حبا
    تركتنا وسهامُ القومِ تمطرنا
    (نرى العداوةَ لكن نجهلُ السَّببا)
    يا سيِّدي كنتَ أمهلني أراك غدًا
    تقرُّ عينُك بالطفل الذي نجُبا
    أيا أبي ضاقت الدنيا بما رحبت
    والهم أضحى بقلبي يتقن اللعبا
    تكالبت وتمادت في الضلال ولم
    تُسْعف سوى النذلِ، والدنيا لمن غلبا
    من بعد بينك يُتمي هدَّني ولكم
    لقيتُ منه ومن آثاره نصبا
    حملت حزني على ظهري فأثقلني
    حتَّى انحنيت فأضحى الحزنُ لي قتبا
    ولم أزلْ في ربيع العمر يا سندي
    شيَّبتني برحيلٍ للشبابِ سَبَا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى