الأحد ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٦
بقلم عادل الأسطة

الجواسيس في كل مكان ...!!

أينما كنت، في هذه الأيام، تصغي إلى كثيرين يقولون: الجواسيس في كل مكان. نصف شعبنا جواسيس. ينبغي أن يفرم هؤلاء فرما. تسمع هذا في الشارع، وتسمع هذا أيضاً في الحافلة، وقد تسمع هذا في بيوت الناس الذين تزورهم، وقلما تزور أحداً.

وتسأل نفسك: هل الجواسيس حقاً في كل مكان؟ وهل حقاً نصفُ شعبنا جواسيس؟ ومن هم الجواسيس؟ وكيف يكون شعبنا كله جواسيس ونحن نرى الآلاف من الشعب يقاومون الاحتلال؟ وتتذكر ما كتبه (جان بول سارتر) حول ظاهرة التعامل مع العدو، في أثناء احتلال ألمانيا لبلاده فرنسا في الحرب العالمية الثانية. ولا ترغب في قراءة المقالة ثانية لأنك يمكن أن تنهل من هذا الواقع الذي تحيا، ولأن ما تسمعه، من الناس هنا، يبلغ أضعاف أضعاف حجم المقالة. والناس هنا لها تفسيراتها المذهلة. تقول: لربما يجدر جمع قصص الجواسيس في كتاب مفصل ينشر ويوزع مجاناً على أهل فلسطين. لربما استفاد هؤلاء منه. وتسأل: كيف غدا هؤلاء جواسيس؟ ما الذي دفعهم إلى التعاون مع سلطات الاحتلال؟ ما الذي دفع محمد حماد إلى التعاون من أجل تفجير رأس يحيى عياش؟ ما الذي دفع شاب من طمون إلى أن يبلغ عن ابن عمه وابن قريته؟ بل وما الذي دفعه إلى أن يتمادى في سلوكه فيسلمه سيارته التي فخخها الإسرائيليون بمعرفته ليفجر رأس ابن عمه، وليموت هو خائناً تلعنه الأجيال، وكان يمكن أن يموت ميتة الأبطال لو أخبر ابن عمه بما يجري.

"الجواسيس في كل مكان" تهمس، وحين تقف، في نابلس، لتشاهد موكب جنازة الشهيد صلاح دروزه (26/7/2001) تسمع أصوات المتكلمين تطالب السلطة الوطنية بتسليم قتلة الشهيد محمود المدني حتى يتم إعدامهم.

وتسأل نفسك ثانية: ما الذي يدفع هؤلاء إلى أن يخونوا بلادهم؟ وتكرر ما ورد في قصيدة بدر شاكر السياب "المخبر":

" إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون

أيخون إنسان بلاده؟"

وتتمنى لو تطبع من هذه القصيدة مليون نسخة توزع على كل عائلة، لكي تلصقها هذه على جدار ما في منزلها، ولكي تقرأها صباح مساء:

قوتي وقوت بنيّ لحم آدمي أو عظام
فليحقدون عليّ؛ كالحمم المستعرة، الأنام
كي لا يكونوا إخوة لي آنذاك، ولا أكون
وريث قابيل اللعين.
.............
ساء المصير:
لم كنت أحقر ما يكون عليه إنسان حقير؟

والمخبر، حقاً، أحقر ما يكون عليه إنسان حقير. كقوله هذا، ويقول هذا الآخرون.

يفجر محمد حماد رأس يحيى عياش مقابل مليون دولار لم يحصل منها، كما تقول الشائعات، على شيء. لقد أدى مهمته وانتهى دوره، وتركه الإسرائيليون في شوارع تل أبيب يبحث عن محام يُحصِّل له ما وعد به، تركوه خائناً يحتقرونه كما يحتقره بنو جلدته، وربما أكثر.

ويفجر ابن قرية طمون رأس ابن عمه مقابل أربعة آلاف شيكل لا تسمن ولا تغني من جوع، وسرعان ما ييسر رجال المخابرات الإسرائيلية أمر القبض عليه حتى يقتل خائناً، وحتى يتخلصوا منه لأنه سيغدو عبئاً عليهم مثل عشرات المخبرين الذين أصبحوا مشكلة داخل المجتمع الإسرائيلي.

أينما سرت تصغي إلى الآخرين يتحدثون عن الجواسيس، لا عن ذكاء الاحتلال. الجواسيس هم الذين راقبوا ابن جنين وهو يتصل من هاتف عمومي مفخخ، وحين رأوه أعطوا إشارة للإسرائيليين ليفجروا رأسه، والشيء نفسه حدث أيضاً في نابلس، في البلدة القديمة، في حارة الأريون.

"أصبح الهاتف لعنة" تخاطب ذاتك. "أصبح الهاتف شبكة تصطاد الرؤوس: رأس يحيى عياش ورأس آخرين كثر، والجواسيس في كل مكان.
"هل كنت تبالغ وأنت تكتب روايتك "تداعيات ضمير المخاطب؟" لقد أبديت فيها دهشتك، لأن الألمان، يوم كنت في ألمانيا عرفوا عن حياتك تفاصيل كثيرة، وكنت تتساءل: أهو ذكاء الألمان أم ذكاء الموساد أم هم الجواسيس؟

"الجواسيس في كل مكان" تهمس. قد يخونون لأجل تصريح عمل، وقد يخونون لأجل وظيفة، وقد يخونون لأجل تصريح لمّ شمل، وقد يخونون لأجل منحة لمدة شهر أو شهرين، منحة تافهة لا تسمن ولا تغني من جوع.

"الجواسيس في كل مكان". "نصف شعبنا جواسيس" عبارات تتردد الآن بكثرة، وتكرر مع السياب:

إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون

أيخون إنسان بلاده؟

الجمعة 27/7/2001


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى