السبت ١٤ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
سلمان ناطور
بقلم عادل الأسطة

"ذاكرة" ومرآة الإنجليز

للإنجليز في "ذاكرة" حضور لافت، وليس هذا بغريب، فهي في قسمها الأكبر تروي أحداث العام 1948، ولم يكن هؤلاء الذين انتدبوا فلسطين في العام 1918 قد غادروها قبل أيار من العام 1948.

والإنجليز الذين عبدوا الطرق في فلسطين وافتتحوا المدارس وأقاموا المشافي، الإنجليز هؤلاء هم الذين أعطوا الحركة الصهيونية، من خلال وعد بلفور، حق إقامة وطن قومي لهم في فلسطين. لقد أعطوا أرض من يملك إلى من لا أرض له، ولم يكتفوا بذلك، بل سهلوا له الهجرات، وغضوا الطرف عن تهريب السلاح، حتى جاء يوم غدا فيه سكان فلسطين العرب لاجئين، يقيمون في الشتات، ويعانون قسوة الحياة وشظف العيش. وما زالوا.
ومن المؤكد أن صورة الإنجليز في الذاكرة الفلسطينية ليست على ما يرام، الذاكرة الأدبية الرسمية والشعبية أيضا، في أثناء ثورة العام 1936 كتب عبد الكريم الكرمي قصيدته المشهورة:

انشر على لهب القصيد شكوى العبيد إلى العبيد.

وأبرز فيها الصورة التالية لهم: إنهم خصم لدود، يدنسون الصحراء. وتوصل الكرمي إلى الرأي التالي:

لو كان ربي إنجليزيا دعوت إلى الجحود.

ولم يكن الكرمي الوحيد الذي أبرز لهم هذه الصورة. اسكندر الخوري البيتجالي، الذي رحب بالإنجليز في العام 1918، سرعان ما غير رأيه ورأى فيهم غزاة لا يختلفون عن العثمانيين الظلمة. وأما إبراهيم طوقان فذهب إلى أن الحجارة أقل، من قلوب الإنجليز، قسوة، على الرغم من أن (شكسبير) العظيم إنجليزي. الإنجليز الذين منعوا في بريطانيا الرق حللوه في فلسطين، ونادوا فيها على الأحرار: يا من يشتري.
ولم يكن النثر الفلسطيني الذي كتب قبل العام 1948 يبرز للإنجليز صورة مختلفة عن تلك التي أبرزها الشعر. في رواية محمد العدناني "في السرير" (1946) إتيان على نماذج إنجليزية بشرية لا تنتمي إلى القوات البريطانية. هناك الممرضة والطبيب، وهناك أيضا الشرطي. تتعالى الممرضة على المرضى وتحتقرهم، وترى في حسن معاملتهم لها، ضعفا فيهم، ولا يخيفها إلا صوت طريف الشخصية المحورية في الرواية. طريف الذي هو محمد العدناني نفسه، هذا الذي يعتز بعروبته ويرفض الذل. والشرطي الإنجليزي يسرق الكعك ويلقي جزاءه وأما الطبيب فهو وكيل (عزرائيل) على الأرض يحقن مرضاه بالمخدر حتى يموتوا. ولم يكتب العدناني في روايته عما فعلته بريطانيا بفلسطين. لقد كتب عن نماذج التقى بها، في المشفى، حين كان مريضا.

قبل صدور "الشجرة التي تمتد جذورها إلى صدري" (1979) و"ما نسينا" لسلمان ناطور كانت صدرت أعمال شعرية وقصصية وروائية في فلسطين المحتلة ذكر فيها الإنجليز، ولم تكن صورتهم إيجابية. لقد كانت سلبية بشكل عام. في أشعار راشد حسين وفي قصص توفيق فياض "الكلب سمور" وفي رواية توفيق معمر: "مذكرات لاجئ أو حيفا في المعركة" وفي رواية محمود عباسي "حب بلا غد" وفي قصة مصطفى مرار "حمارنا وبريطانيا" وفي قصة محمد علي طه "عاصفة في عش"، في هذه الأعمال كلها كان الإنجليز مسؤولين عن ضياع فلسطين، بل كانوا المفسدين في أرضها، وقفوا إلى جانب اليهود ضد العرب في أشعار راشد وقصة توفيق فياض، ورواية توفيق معمر، وأفسدوا بين العرب واليهود في بقية الأعمال. لقد كان العرب في نصوص مرار وعباس وطه يعيشون بهدوء وسلام جنبا إلى جنب، والذي أفسد عليهم حياتهم هم الإنجليز. وربما بدا هذا الرأي على قدر من السذاجة، وربما ما جرؤ الكتاب، يوم كتبوا نصوصهم يقولون غير ما قالوا، فقد كانوا موظفين في مؤسسات السلطة الإسرائيلية الحاكمة، وكان بعضهم من أنصار القبول بالأمر الواقع والتعايش مع اليهود.

ولم تبرز صورة إيجابية للإنجليز في الأدب الفلسطيني إلا في سيرة جبرا "شارع الأميرات" وسيرة فدوى طوقان "رحلة صعبة... رحلة جبلية". كان هذان أقاما في بريطانيا، وتعرفا هناك إلى إنجليز أقاموا معهم علاقة ودية، فكتبا عن الإنجليز هؤلاء، وجاءت صورتهم مغايرة لصورة الإنجليز الذين عرفهم أهل فلسطين فيها.

في "ذاكرة" هناك قص عن أحداث العام 1948، عام النكبة وضياع الوطن. والذي يقص هو ابن فلسطين الذي رأى وعاش. رأى ما يقوم به الإنجليز وعاش نتائج سياستهم التي أدت في النهاية إلى ضياع الوطن، وتَحَوّلِ أبنائه إلى لاجئين في وطنهم، وإلى أقلية فقدت أهم ما كانت تملك: الأرض. ومن هنا تبدو صورة الإنجليز في "ذاكرة" سلبية إلى حد بعيد، وليس هذا بمستغرب. وسأقف الآن على تفاصيل هذه الصورة.

يبدو الإنجليز، كما يقص عنهم الشيخ المشقق الوجه، مغرورين متعجرفين. في فقرة تحت عنوان "راع" نقرأ الأسطر التالية:

"وعشرات، عشرات من هذي القرى الممسوحة تظل ملامحها بارزة تتحرك.. تنطق وتصرخ في تجاعيد ذلك الوجه الذي شققته أيام السفر- سفر برلك، وأيام الثورة، وأيام الهجيج، والأيام التي كان يدخل فيها ضابط "جنجي"، وخلفه حاشية، وأدناهم فيها: شاويش، وأصغرهم: كلب يلبس جارزة من الصوف الإنجليزي، في فصل الشتاء.. وفي الصيف كان يأبى إلا أن يرفع رجله عند مدخل بيت المختار ويبول والحاشية كلها في انتظار". (ص29)
وفي مقطع عنوانه "المفكرة" يتواطأ الإنجليز مع اليهود من اجل تسليمهم فلسطين. يلاحق الإنجليز الثوار، ويظلمون الناس (ص53)، وفي العام 1948 يلعبون لعبتهم من اجل ترحيل العرب. في ص62 وص63 نقرأ ما يلي:
"كان الإنجليز يدخلون على البيوت ويسألونا:

بعدكم قاعدين؟ اليهود راح يدبحوكم إذا بقيتم في بيوتكم! احملوا أغراضكم ويالله عالبور ...

الإنجليز لعبوا اللعبة القذرة.. من جهة، يصرحوا أنهم يدعموا الملك ضد اليهود، ومن جهة ثانية ما تركوا قطعة سلاح إلا وسلموا إياها. وكانوا يساعدوهم على تهجيرنا. كل ما شافوا عربي كانوا يسوقوه للجمارك. جمعوا العرب عند المينا وأغلقوا عليهم خط الرجعة". (61، 62).
يتكرر الكلام عن الإنجليز ودورهم في التفريق بين العرب واليهود، ولكن مع تبيان انحيازهم للأخيرين، يتكرر مرارا.
في قطعة عنوانها "المستر" (ص118) يروي الشيخ المشقق الوجه عن عمله في معسكرات الإنجليز. يعطي المستر ورقة إلى الشيخ الذي كان شابا، فيذهب بها إلى الخواجة يعقوب، ولكن هذا يرفضها ويمزقها، ولا يحترم (المستر) والدولة البريطانية. وتشتعل المعارك بين العرب واليهود:
" ومن يومها ما عرفنا يوم راحة.. كل يوم انفجار" ولما يكون الوضع هادي كان الإنجليز يحطوا مدفع وين بناية "السي. آي. دي" القديمة ويطلقوا طلقة على أبو كبير وطلقة على تل أبيب.. يولع الطخ طول الليل. مرة سألت ضابط إنجليزي، كان يشرب قهوة في الكانتين:

  ليش هيك بتعملوا؟
قال لي: إذا بدّك تشتغل وتعيش لا تسأل هذا السؤال!"
ويواصل الشيخ قص القصة:
"كنت أرجع للبيت في ساعة متأخرة، على الطريق ألتقي بجنود إنجليز لابسين لباس عربي. أسألهم:
  وين كنتوا.
  نعطي سلاح للعرب!
الضباط الكبار يفرغوا بواخر أسلحة لليهود، وعلشان يضحكوا علينا يبعثوا أكم جندي مع أكم قطعة سلاح يعطوها للزعما حتى يصدقوا أنها بريطانيا بتساعدهم. كله كان ضحك على الذقون". (ص120).
ثمة قصة أخرى تظهر الدور القذر الذي كان الإنجليز يقومون به. يروي الشيخ المشقق الوجه القصة التالية عما كانوا يقومون به:
" في الأربعة وثلاثين، الإنجليز ذبحوا بقرة ولفوها بكيس خيش، وحملوها في "الداليجانس" (حنطور)، وكان الدم ينقط منها.. وبعثوا ناس يقولوا: اليهود ذبحوا حرمة.. وهاي جثتها مقطعة في الكيس والدم ينقط منها". (ص122).

ويتابع:

"كانوا يعتقلوا اليهود في الليل ويطلقوا سراحهم في أحياء العرب.. أو يعتقلوا عرب ويرموهم في شارع فلورنتين في حي أبو كبير.. ليلة يطخوا على اليهود وليلة يطخوا على العرب" (ص123).

في المقطع الثالث من "ذاكرة" المقطع المستل من كتاب "هل قتلتم أحدا هناك؟" (1999) تعود الذاكرة بسلمان نفسه إلى ما قبل العام 1948 ليروي شيئا عن حياة الناس إبان فترة الانتداب. إن ما يرويه هنا هو إعادة للرواية، فهو لم يكن في تلك الأيام مولودا. تماما كما نكرر نحن عبارة "فرق تسد" التي سمعناها من آبائنا، العبارة التي تكشف كثيرا من روايات الشيخ المشقق الوجه.
في مقطعين متتاليين عنوانهما "عبد الحسن" و"كامل الضرير" نقرأ عن الإنجليزي الداهية والعربي الساذج أيضا. تبدو من خلال القصة الواحدة صورة الذات وصورة الآخر أيضا. كأن هذه لا تظهر إلا من خلال تلك.

عبد الحسن ثائر فلسطيني يبحث الإنجليز المستعمرون عنه، لأنه يقاومهم. ويلقي هؤلاء القبض على مجموعة من الشباب يكون عبد الحسن واحدا منهم، ويطلب الضابط الإنجليزي منهم أن يعترفوا عليه دونما نجاح، فالكل يصر على انه ليس موجودا بينهم، وتأتي والدة عبد الحسن تبحث عن ابنها، ومعها الماء والطعام، حريصة على حياته، فيتركها الضابط تسير، ولا تجدي تحذيرات الشباب لها بأن تعود، وهكذا تشير إلى ابنها الذي يقتاده الضابط ويطلق الرصاص عليه، بلا رحمة وبلا مشاعر، ودون مراعاة لوجود أمه. الضابط الإنجليزي هنا قاس لا يرحم يقتل الابن أمام أمه. الأم الفلسطينية الحريصة على ابنها تكون سببا في موته.

في المقطع الثاني نقرأ عن كامل الضرير والضابط الإنجليزي عن سذاجتنا ومكر الإنجليز واختلافهم في تفكيرهم عنا. "في أحد الأيام طوق الإنجليز البلد وأمروا الناس بالخروج من بيوتهم، ولم يبق في البيت سوى كامل الضرير، وكان يكره الإنجليز، كما كره عماه، ويبحث عن طريق لينتقم منهم، فاعتلى سطح البيت، ولما أمره الضابط بالنزول، رفض وقال:
  أنا أعمي وأخشى السقوط، اقترب لأنزل على كتفيك".
وهنا يقترب الضابط ويسحل الضرير بجسده ويستقر كامل على منكبي الإنجليزي ويلوح بعكازه صائحا بأعلى صوته:
  يا أهل البلد! والله ركبناهم.. ركبنا بريطانيا العظمى زي الحمير" (ص154).
ولم يفهم الضابط لماذا صار أهل البعد يصفقون ويهتفون ويضحكون "إلى أن أوقفهما جندي يبدو أنه عرف اللغة العربية، وبأعصاب باردة كالثلج سحب من جيبه علبة سجائر وناولها للضرير وقال له:
  هذا أجارك، انزل!"
ويفتح الضرير العلبة ويتحسسها، ثم يجعلكها بين أصابعه ويقول للجندي:
  الباكيت فاضي يا خواجة"
فيرد عليه:
  وكلامك فاضي! (ص154)

كأنما الجندي يريد أن يقول لكامل وللعرب، أنتم ظاهرة صوتية. وربما تذكر المرء هنا مصطفى سعيد بطل رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، هذا الذي كان، حين يضاجع امرأة بريطانية، يشعر أنه يضاجع أوروبا، أوروبا التي أراد أن يغزوها بصغيره.
وربما توقف المرء، وهو يقرأ المقطع السابق، أمام عبارة السارد "وبأعصاب باردة كالثلج.."، إذ يرى كثيرون أن الإنجليز ذوو أعصاب باردة.
ما يلفت النظر في الجزء الأول من "ذاكرة"، المستل من مجموعة "الشجرة التي تمتد جذورها إلى صدري" مقطع عنوانه "القروط"، والقروط شاب في الخامسة والعشرين من عمره جاء من بلاد بعيدة، وادعى أنه ينتمي لعائلة الحنتريش. كان شابا ابن حرام.. فنان سرقة.. ولكنه كان شريفا! لم يسرق من الفقراء، ولم يسرق كل ليلة إلا غنمة واحدة" (ص21).

كان يذبح الغنمة ويبيع لحمها للضباط الإنجليز وكان عمله صعبا ويتعرف إلى المسز بروكر ويصل إلى زوجها المستر بروكر، وحين يزوره في مكتبه يغلق المستر بروكر عليه الباب لمدة ساعتين. ماذا فعل القروط والمستر بروكر في هذه الأثناء؟ هل كان بروكر شاذا؟ لم تقل القصة أنه إنجليزي، إذ ذكرت أن أمه إنجليزية. فهل كان يعد على أخواله؟

لا تقول القصة هذه كل شيء، إذ تترك مجالا للتأويل والاجتهاد، ولكنها في المقابل تبرز صورة للذات الفلسطينية التي اقتربت من الإنجليز، هذه الذات التي شعرت بتضاؤل وقزامة أمام كل ما هو إنجليزي حتى اللغة. يحتقر الريفي ابن قريته، ولكنه يحترمه حين يحدثه بالإنجليزي ويشعر انه على صلة مع إنجليزي، وقد برز هذا في روايات فلسطينية سابقة أبرزها رواية عطا الله منصور "وبقيت سميرة". لكن الذات الفلسطينية ليست ذاتا واحدة، وليس لها الموقف نفسه من اليهود ومن الإنجليز، وهي ليست ذاتا سلبية في المطلق، أو إيجابية في المطلق. هناك الثائر، وهناك السمسار، وهناك الخائن، وهناك الأزعر أيضا.

وعلى العموم فإن صورة الإنجليز في "ذاكرة" تبدو صورة سلبية في مجملها. هل يبدو الأمر غريبا؟ أن ما قام به الإنجليز في فلسطين، وما خلفوه لا يسر البال، فما زال الفلسطينيون يحصدون ثمار ما زرعه الإنجليز، هؤلاء الذين لم يزرعوا إلا الشر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى