الخميس ٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٣
بقلم محمد زكريا توفيق

الفن التأثيري

في هذا المقال، سوف أحكي حكاية الفن التأثيري بأسلوب مبسط، لعلي أوفق في اقناع الكثير من السادة القراء، بتغيير موقفهم من الفن بصفة عامة، والفن التشكيلي بصفة خاصة، وجعلهم يعشقون هذا النوع من التعبير الإنساني الراقي، الذي يسمو بأرواحنا ويروي ظمأ قلوبنا للحب والجمال.

قبل الحديث عن الفن التأثيري، اسمحوا لي بمقدمة، وأعدكم أن لا تكون طويلة مملة.

عدوى الثورة الصناعية في إنجلترا، بدأت في الانتشار في فرنسا وباقي دول أوروبا وأمريكا. جاء معها التمدن والتحضر. في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، نمت المدن الصناعية، بسبب الهجرة من الريف للمدينة للعمل في المصانع والشركات الكبيرة.

تعاظم عدد طبقة العمال في أوروبا، وتعاظم الغبن الشديد الواقع عليهم. مما أوحى لكارل ماركس (1818-1883م)، بأفكاره الاشتراكية.

في مدينة باريس، قابل ماركس زميلا ألمانيا، هو فريدريك إنجيلز (1820-1895م). معا، قاما بكتابة المنافستو الشيوعي (1848م)، الذي يدعو الطبقة العاملة للنهوض والثورة على النظام الرأسمالي.

مثل الفكر التجريبي، اعتقد ماركس أن القوانين العلمية التي تحكم الطبيعة، هي أيضا تحكم حركة التاريخ. بالنسبة لماركس، القوة الاقتصادية المبنية على صراع الطبقات، هي التي تحدد مجرى التاريخ.

أحداث التاريخ، تبين لنا أنه، من يمتلك وسائل الإنتاج (المصانع مثلا)، دائما في تضارب مصالح مع من يقومون بالعمل فيها. قوة التعارض هذه الدائمة، هي قوة ديناميكية أسماها " الجدلية المادية".

هدف ماركس الأساسي، هو خلق دولة أو مجتمع اشتراكي، تتولي فيه القوى العاملة مقاليد الأمور. بالطبع بعد أن تكون قد دمرت الرأسمالية. أفكار ماركس هذه، لاقت قبولا كبيرا بين العمال والمثقفين على حد سواء.

عالم آخر، تأثيره لا يقل عن تأثير ماركس، هو تشارلز داروين (1809-1882). داروين، يقول أن خلق وتطور الكائنات، يتبع قوانين طبيعية ثابتة، لا معجزات سماوية.

هذه القوانين، تجعل الأنسب فقط هو القادر على البقاء والتناسل. الغير قادر على البقاء، مآله الفناء. هذا يتعارض بشدة مع نظرية الخلق التي جاءت بكتبنا المقدسة. داروين، هو أحد المساهمين الرئيسيين في الفكر العلماني.

الفيلسوف البريطاني، هيربرت سبنسر (1820-1903م)، قام بتطبيق نظرية داروين في التطور، على الاقتصاد الاجتماعي. كما هو الحال في عالم الأحياء، تؤدي المنافسة الصناعية إلى بقاء ونجاح، الشركات والمؤسسات والدول، الأقوى والأقدر على مواجهة الصعاب.

الدارونية الاجتماعية، قد أمدت قادة العالم الغربي في الماضي، بالمبررات الأخلاقية اللازمة، لاحتلال واستعمار الدول الأقل حضارة وتقدما. مع نهاية القرن التاسع عشر، قامت القوى السياسية والاقتصادية، بتقسيم العالم فيما بينها.

الفرنسيون، قاموا باستعمار شمال أفريقيا والهند الصينية. البريطانيون، استعمروا الهند، إستراليا، ودول كثيرة في أفريقيا. منها نيجيريا ومصر والسودان وروديسيا وجنوب أفريقيا. الهولنديون، كانوا متواجدين في المحيط الهادي. ألمانيا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا، كانت لهم مساحات واسعة في أفريقيا.

التغير التكنولوجي الكبير في المدن الأوروبية، مع زيادة التحضر وسرعته، أديا إلى وعي أكثر حدة وفهم أوضح للواقع. أفكار ماركس الاشتراكية، وداروين في التطور، أدتا إلى تقوية الإحساس بالذات والوعي بمشكلات المجتمع وأسبابها الحقيقية.

محصلة هذه التغيرات الاجتماعية، نتجت عنها أساليب جديدة متعددة في الفنون. أسماها المؤرخون "الحداثة". الفن، في العادة، يسعى إلى اقتناص صورة وروح العصر الذي يمثله. بينما الحداثة، تتعدى ذلك بالنسبة للفن، والقيم الجمالية التي يمثلها. وأصبح الفن يستخدم في نقد الفن نفسه. لا لشئ، وإنما لكي يسمو ويعلو.

القيود التي تعتري فن الرسم، مثل مسطح اللوحة ثنائي الأبعاد، وكذلك شكل المساحة ومقدارها، ونوع الألوان ودرجاتها والتقيد بها، وتطابق الرسم مع الواقع، إلخ.

هذه القيود والقواعد، كان يعتبرها الفنانون الكبار القدامى، مجرد معوقات يجب التحايل عليها ومعالجتها بمهارة. لكن الفنانون الحداثيون، يعتبرونها عوامل إيجابية يمكن توظيفها لخدمة العمل الفني.

الفن التأثيري (الإنطباعية)، هو فن باريسي. جاء عندما أصبحت باريس مدينة صناعية حضرية. جاء نتيجة التحول المباغت الوحشي الهوجائي، في حياة الفرنسيين، في النصف الأخير من القرن التاسع عشر.

في أول معرض للفنانين التأثيريين عام 1874م، عرض كلود مونيه (1840-1926م)، لوحة بعنوان "تأثير، شروق الشمس".

لم تنل اللوحة رضاء النقاد. أحدهم قال في سخرية أنها تمثل "الفن التأثيري"، وهى مدرسة فنية لم تكن قد تكونت في ذلك الوقت بعد. في العرض الثالث للوحة عام 1878م، لاقت قبول النقاد. بعد ذلك، أطلق الفنانون على أنفسهم، نكاية في النقاد، اسم "التأثيريون". من هنا، ولد الفن التأثيري.

الحداثة في الفن، تعتبر مدرسة جديدة بالنسبة للفنون المتعارف عليها. بدأ فنا غريبا بالنسبة للقواعد والفنون التي تعرضها وتعترف بها كلا من الأكاديمية الفرنسية، والأكاديمية الملكية البريطانية.

المعرض السنوي الذي يسمى الصالون في فرنسا، معرض هام، يتنافس فيه فنانون كبار. ترعاه الحكومة، ويضع شروطا صارمة على اللوحات التي تقبل للعرض. يهتم فقط بالأسلوب والموضوعات التقليدية. ويرفض، بالطبع، عرض الموضوعات والأسلوب الجديد.

بدأ عدم الرضا والغضب يجتاح الفنانين الجدد، بسبب رفض عرض لوحاتهم في الصالون الملكي. لكي يخفف من هذا الغضب، أسس نابليون الثالث عام 1863م، صالونا جديدا لعرض اللوحات المرفوضة من الصالون الملكي. (يعني حاجة كدة تشبه الخبز المرتجع). لوحة مانيه بعنوان "مأدبة غداء على الأعشاب"، كانت من اللوحات المرفوضة.

http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/f/f1/Manet%2C_Edouard_-_Le_D%C3%A9jeuner_sur_l%27Herbe_%28The_Picnic%29_%281%29.jpg

في عام 1867م، وبعد رفض الكثير من لوحاته، قام مانية بعرض خاص ل 50 لوحة من أعماله. بعد ست سنوات، قام الفنانون التأثيريون، بإنشاء جمعية خاصة بهم، وأنشأوا معرضا للوحاتهم في باريس، يقام مرة كل عام أو كل عامين . هذا القرار، أعطى التأثيريون الحرية والتحرر من القيود التي وضعها الأكاديميون على أعمالهم.

مجموعة أخرى من الفنانين، كانوا غير سعداء بقرارات الصالون المحافظة، فأقاموا "جمعية الفنانين المستقلين". كانت تقوم بعرض سنوي لأعمالها. من هذه الأعمال، لوحة للفنان سيرات بعنوان "يوم أحد على جزيرة لاجراند جاتي".

http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/7/7d/A_Sunday_on_La_Grande_Jatte%2C_Georges_Seurat%2C_1884.jpg

مع ازدياد سوق اللوحات الفنية، ازداد عدد أماكن العرض. من ثم، زادت فرص الفنانين الجدد في عرض لوحاتهم وتطبيق أساليبهم الحديثة، بعيدا عن قيود الصالون الملكي وشروطه المجحفة.

في لوحة "شروق الشمس"، لم يحاول مونيه إخفاء علامات الفرشة، ولم يقم بمزج الأصباغ، لخلق تدرج أملس سلس، بين درجات الألوان المختلفة. حتى تصبح اللوحة، مثل المشهد في الطبيعة. اللوحة هي أشبه برسم إسكتش سريع بالفرشة. أو لوحة غير مكتملة.

http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/5/5c/Claude_Monet%2C_Impression%2C_soleil_levant%2C_1872.jpg

لكن لوحة "شروق الشمس"، وكذلك الفن التأثيري بصفة عامة، يعبر عن رؤية الفنان، ممزوجة بشعوره وإحساسه. بمعنى آخر، الفنان التأثيري، لا يصف العالم الخارجي فقط، أو إحساسه فقط، ولكن خليط ومزج بين الإثنين.

كان مونيه يرسم في العراء والهواء الطلق. هذا جعله يركز على دور الضوء والألوان في صبغ الأشياء الموجودة بالمشهد. كل الفنانين التأثيريين، علموا أهمية الضوء والألوان، وعرفوا كيف يوظفانهما في أعمالهم، لكن مونيه، كان أقدرهم وأكثرهم جرأة. كانت هذه نصيحته لإحدى تلميذاته:

"عندما تخرجين للرسم، إنسي الشئ الذي أمامك. شجرة، بيت، حقل، أو أي شئ آخر. لكن تأملي، هنا مربع صغير أزرق، وهناك مستطيل وردي، هذا شعاع أصفر، ثم قومي برسم ما يبدو لكي بكل أمانة. حتى ينتقل انطباعك إلى اللوحة التي أمامك."

دراسة علم الضوء، وكيمياء خلط الألوان، نبهت الفنانين إلى كثرة الألوان الموجودة في الطبيعة. الضوء ليس مجرد ضياء. ولكنه ضوء مكون من عدة ألوان.

دافئ يميل للألوان الدافئة، مثل ضوء شروق الشمس وغروب الشمس، ولون ضوء المصباح الكهربائي (التانجستون). أو ضوء بارد، مثل ضوء القمر أو ضوء المصباح النيون.

عندما يسقط الضوء على جسم ما، يغير الضوء من لون الجسم. لكن العين الغير مدربة، لا ترى هذا الفرق. فورقة الشجر الخضراء، هي نفسها ورقة الشجر الخضراء، وقت الظهيرة، أو عند الغروب. في الظل، أو تحت أشعة الشمس.

كذلك الظلال، هي ليست مناطق رمادية وسوداء، كما كانت تظهر للرسامين الأوائل، ولكنها هي أيضا تتكون من ألوان مختلطة، تتشكل وفقا لانعكاسات وانكسارات الضوء المختلفة.

الألوان، لو وضعت جنبا إلى جنب في مساحات كبيرة، تقوي بعضها البعض، أو يضعف كل منها اللون الآخر. وإذا وضعت متجاورة بكميات صغيرة، تمتزج مع بعضها وتكون لون آخر هو المحصلة.

في الواقع، وضع الألوان متجاورة بكميات صغيرة على سطح اللوحة، له تأثير أقوي من مزج نفس الأصباغ على لوحة الألوان. مثلا: اللونان الأزرق والأصفر المتجاوران في مساحة صغيرة، ينتجان اللون الأخضر.

الفنانون التأثيريون، لا يستخدمون هذا الأسلوب فقط، في خلط الألون بالنسبة لعين المشاهد، بدلا من خلطها قبل الرسم. لكنهم، بجانب ذلك، يستخدمون أسلوبا إضافيا له تأثير رائع على المشاهد.

هو استخدام الفرشاة في ضربات متقطعة، مثل كوانتا الضوء. فالضوء يسير أيضا في تدفقات مثل المطر، ولا يسيل مثل ماء الصنبور. (الضوء عبارة عن موجات وكرات في نفس الوقت، هذا يعرف بالطبيعة المزدوجة للضوء)

الاقتراب والتأمل في لوحات التأثيريين، يجعل المشاهد في حيرة، ولا يجعل اللوحة تبوح بأسرارها. الطريقة السليمة لمشاهدة لوحات التأثيريين، هي الابتعاد مسافة كافية، تجعل الألوان تمتزج خلال العين في مخ المشاهد.

قام مونيه بدراسة الضوء والألوان بكثافة في عدة لوحات لنفس الموضوع. كاثيدرائية "روين"، قام مونيه برسمها، في أحد دراساته، 40 مرة. كل لوحة، كان يراقب الكاثيدرائية من نفس الموقع، ولكن في وقت مختلف من النهار، وتحت ظرف مناخ مختلف.

لقد ترك مونية تسجيلا علميا ليس له مثيل عن تأثير الضوء بأنواعه المختلفة على نفس الموضوع. إنه لا يهتم بالكاثيدرائية نفسها، ولكن بالضوء الساقط عليها، وكيف تبدو ألوانها للعين.

في لوحة "محطة سانت لازار" في باريس، يبين مونيه محطة السكة الحديد وهي في كامل نشاطها وحيويتها، كأسلوب حديث للمواصلات. القطار يخترق سحابة البخار والدخان التي تنتشر في المحطة.

http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/f/fb/Claude_Monet_004.jpg

بين المروج.

http://uploads5.wikipaintings.org/images/claude-monet/in-the-meadow.jpg

المنتزه، إمرأة ومظلة. لوحة رائعة من الصعب وصف جمالها.

http://uploads8.wikipaintings.org/images/claude-monet/the-promenade-woman-with-a-parasol.jpg

جبال إستريل. بساطة متناهية.

http://uploads4.wikipaintings.org/images/claude-monet/the-esterel-mountains.jpg

أشجار الحور. موسيقى لا أكثر ولا أقل.

http://uploads8.wikipaintings.org/images/claude-monet/poplars.jpg

الزنبق الأبيض. وداعة وهدوء وتأمل.

http://uploads7.wikipaintings.org/images/claude-monet/water-lilies-29.jpg

جوستاف كيليبوت (1849-1893م)، فنان تأثيري آخر مشهور برسم أحياء المدينة. بالرغم من أنه لا يستخدم دائما، ضربات فرشة "مانية".

لوحة جوستاف بعنوان "باريس: يوم ممطر"، عبارة عن منظر لتقاطع شوارع عريضة بالمدرينة، بعد إعادة تصميمها عام 1852م، بأمر من الامبراطور نابليون الثالث. الخديو إسماعيل، فيما بعد، فعل نفس الشئ بمنطقة وسط البلد بالقاهرة. إذ كان هدفه، بناء قاهرة جديدة، أو باريس جديدة على النيل، وقد نجح في ذلك.

http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/1/17/Gustave_Caillebotte_-_Paris_Street%3B_Rainy_Day_-_Google_Art_Project.jpg

لم يستخدم كيليبوت ضربات الفرشة المتقطعة المعروفة في الفن التأثيري. كما أنه لم يستخدم قواعد التكوين الفني. لكنه رتب المشهد بحيث يبدو عشوائي بدون ترتيب. حافة الصورة تقطع الأشخاص كما تفعل الصور الفوتوغرافية في اللقطات العشوائية.

هنا، نجح الرسام في نقل انطباعه عن حياة الحضر في المدينة الجديدة. الفن التأثيري يسمى في بعض الأحيان، الفن الإنطباعي. هذه لوحة أخرى ل "كيليبوت" أقرب لأسلوب مونيه من اللوحة السابقة، بعنوان "ريتشارد جالو وكلبه".

http://uploads2.wikipaintings.org/images/gustave-caillebotte/richard-gallo-and-his-dog-at-petit-gennevilliers.jpg

كميل بيسارو (1830-1903م)، هو فنان تأثيري. وجد هو الآخر شوارع باريس الفسيحة، مواضيع جذابة للوحاته. لوحته البانورامية بعنوان "قصر المسرح الفرنسي"، تصور أحد ميادين باريس المزدحمة بالمارة.

http://upload.wikimedia.org/wikipedia/en/7/75/Camille_pissaro_place_du_theatre_francais.jpg

لا يبين بيزارو هنا تأثير الضوء والألوان. ولكنه كان مهتما بترتيب الأشكال وحركة الناس في يومها العادي. لكي يحقق ذلك، كان بيزارو يستخدم الفوتوغرافيا لتسجيل مواقع الأشخاص والعربات.

نجد هنا أيضا، أن حواف اللوحة تقطع المشهد وخصوصا من الجانبين عن قصد، لكي يقول لنا أن الحكاية لها بقية، وما تشاهدوه ليس كل شئ.

شوارع باريس في وقت الثلج.

http://uploads8.wikipaintings.org/images/camille-pissarro/the-boulevards-under-snow-1879.jpg

الحصاد.

http://uploads3.wikipaintings.org/images/camille-pissarro/the-harvest-1882.jpg

الأب ميلون يشعل غليونه.

http://uploads8.wikipaintings.org/images/camille-pissarro/father-melon-lighting-his-pipe.jpg

بيير أوغسط رينوار (1841-1919م)، هو فنان تأثيري جذبه أيضا، الوجه الجديد لمدينة باريس. مناظر المطاعم المكشوفة وحلبات الرقص في الخلاء والمقاهي والأوبرا والباليه وغيرها من مظاهر التمدن.

الرقص في مولان دو لا جاليت.

http://uploads5.wikipaintings.org/images/pierre-auguste-renoir/ball-at-the-moulin-de-la-galette-1876%281%29.jpg

لوحة رينوار تعود لعام 1876م، هي معروضة الآن في متحف أورسيه في باريس. تعتبر أشهر اللوحات التأثيرية التي تصور الحفلات العامة في باريس. المشهد يصور حفلة هامة في صالة "مولان دو لاجاليت" شمال باريس.

في أواخر القرن التاسع عشر كان الباريسيون من الطبقة العاملة يتأنقون في ثيابهم في أوقات العطلة الرسمية أو عطلة نهاية الأسبوع، يقضون أوقاتهم في الرقص والشرب وتناول الحلويات في المساء. تمثل اللوحة لقطة من الواقع. مليئة بالضوء والألوان الزاهية البراقة.

المشهد يتدفق بالحيوية والبهجة. المشاهد يكاد يسمع صوت الموسيقى، وسط قهقهات الضحك ورنين الكؤوس. زين رينوار اللوحة كلها ببقع من ضوء الشمس والظلال، باهتة طافية عابرة. تذكرنا بقول المتنبي، وكأنه يصف هذا المشهد، في القصيدة التي مطلعها "مغاني الشعب طيبا في المغاني"، إلى أن يقول:

"غدونا تنفض الأغصان فيه ... على أعرافها مثل الجمان
فسرت وقد حجبن الشمس عني ... وجئن من الضياء بما كفاني
وألقى الشرق منها في ثيابي ... دنانير تفر من البنان
لها ثمر تشير إليك منه ... بأشربة وقفن بلا أواني
وأمواه يصل بها حصاها ... صليل الحلي في أيدي الغواني"

أختان في التراس. وداعة وبراءة متناهية.

http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/7/77/Pierre-Auguste_Renoir_-_Two_Sisters_%28On_the_Terrace%29_-_Google_Art_Project.jpg

يقول رينوار عن أسلوبه التأثيري في الرسم:

"أنا أرتب الأشكال في لوحتي كما أحب. ثم أقوم بالرسم كالطفل. أنا أريد الأحمر فاقعا، يرن كالجرس. إذا لم يأت اللون كذلك، أضيف الكثير من الأحمر.

وأظل أضيف وأضيف،إلى أن آتي بما أريد. أنا لست أذكى من ذلك. ليست لدي قاعدة أو طريقة. وليس لدي أيضا سرا أبوح به. أنظر إلى الجسم العاري، وعندي صبغات عديدة. أبحث بينها إلى أن أجد الصبغة التي تجعل لون الجسم حي ينبض بالحياة.

إذا استطاع المشاهد شرح معنى اللوحة، فهذا يعني أنها ليست عملا فنيا. الفن في جملتين: يجب أن يكون فريدا، لا يمكن شرحه. العمل الفني، يجب أن يستحوزك، ويلتف حولك، ويحملك ويطير بك بعيدا. الفن، هو الأسلوب الذي به، ينقل الفنان إليك مشاعره وخلجاته. أنا لا أريد أن يشعر المشاهد، عندما يرى لوحتى، أنها مملة لا حياة فيها"

إيدوارد مانيه، قام هو أيضا برسم الحياة الليلية في مدينة باريس. يعتبر مانية حلقة وصل بين المدرسة الواقعية والمدرسة التأثيرية. أحد لوحاته التأثيرية الأخيرة، بعنوان "بار في فولي-بيجير".

http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/0/0d/Edouard_Manet%2C_A_Bar_at_the_Folies-Berg%C3%A8re.jpg

فولي بيجير (تنطق "فولي بيجيه")، هو "كوفي شوب" به قاعة موسيقى كبيرة، يعتبر أشهر مكان احتفالي لتجمع الباريسيين. يتردد عليه الكثير من الفنانين التأثيريين.

اللوحة رسمها مانيه عام 1882م. يضع في المقدمة، فتاة بار تقوم بإعداد كؤوس الشراب للمدعوين. هي موجود داخل اللوحة وبالتالي داخل البار، لكنها تسرح بذهنها إلى العالم الخارجي.

الفتاة والبار وكل ما عليه من زجاجات وأواني، نجدها واضحة جلية (in focus). بينما الخلفية والزوار والثريا الكبيرة المتدلية من السقف، نجدها غير واضحة (out of focus). ضربات الفرشاه التأثيرية لا تخطئها العين. هذا يحول انتباه المشاهد للفتاة وذهنها الشارد.

الزمار.

http://uploads7.wikipaintings.org/images/edouard-manet/the-fifer-1866.jpg

محطة سكة حديد. في انتظار القطار.

http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/7/74/Edouard_Manet_-_Le_Chemin_de_fer_-_Google_Art_Project.jpg

مونيه وعائلته في حديقة منزله.

http://uploads2.wikipaintings.org/images/edouard-manet/the-monet-family-in-their-garden-at-argenteuil-1874%281%29.jpg

إيدجار ديجاز (1834-1917م)، فنان تأثيري آخر، قام برسم مشاهد الحفلات والتمتع بأوقات الفراغ في باريس. لكنه كان مهتما بصفة خاصة بحركة راقصي الباليه والأوبرا. أحد لوحاته بعنوان البروفة.

http://www.ibiblio.org/wm/paint/auth/degas/ballet/degas.rehearsal.jpg

ليس هناك توازن بالنسبة لأشكال اللوحة. ديجاز، قام بترتيب الأشكال بشكل عشوائي. المساحة الفارغة باللوحة، تدعوا مجموعة الفتيات في الخلف، إلى الاشتراك في البروفة مع أنغام الموسيقى. الراقصات تبدون كالفراشات المضيئة بالنوافذ الكبيرة.الأسلوب التأثيري واضح.

سباق خيل في لونجتشامب.

http://uploads1.wikipaintings.org/images/edgar-degas/racehorses-at-longchamp-1875.jpg

مشهد رائع من الباليه. لا يقل عن كونه سيمفونية موسيقية.

http://uploads3.wikipaintings.org/images/edgar-degas/ballet-scene.jpg

وللحديث عن الفن والفنانين بقية، فإلى اللقاء إن شاء الله.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى