الخميس ٢١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٩
قصة كوردية مترجمة
بقلم مكرم رشيد الطالباني

الرجل الذي أراد أن يتكلم

قصة: صلاح عمر

ترجل من السيارة، غرزتْ مطرٌ وابلٌ ورياحٌ جافة اظافرها في وجهه، لم يهتم للمطر ولا للرياح، انطلق بشكل غير إعتيادي، وصل إلى وسط الزحام، أختلط بهؤلاء الذين كانوا يستقلون السيارات ويترجلون منها، سقط عدة مرات ثم نهض وكان الوحل قد لطخ كلتا جانبي جسمه، لم يندم من التسابق، إمتلأت سيارة، فلم يجد هو وآخرون مكاناً لهم فيها، تراجعوا لكي تنبش أظافر الإنتظار أعماقهم في الليل الطويل. دون إنتظاره للجواب، قال الذي بجانبه:

ـ لن يتم نقلهم بعشر سيارات أخرى، ليس عشراً قل عشرون؟

أرسل نظره إلى الشرفة في الجانب الآخر من الشارع، جذبته جاذبية نور مصباح خافت. وضع قدمه على الشارع، سمع صوت بركة ماء، وحتى حان وصوله وقع عدة مرات في بعض البرك الراكدة بحذائه، دفعه هذا وذاك. حاشراً نفسه بين أفنديين. رمقه الأفندييان بنظرة تجهم، ومن ثم اغاضا الطرف عنه بغضب، ولم يدرك لِمَ رمقاه هكذا بغضب. جرح شعوره فبدأ يخاطب نفسه محللاً :

ـ (السبب أنني ضايقت عليهما المكان قليلاً، أنهم ناس عجيبٌ أمرهم ونحن في عالم عجيب أيضاً، حسناً إن لم نقف في هذا الجو الصافي فإلى أين أولي أمري؟!) أسند ظهره إلى الحائط، ومن شدة البرد لم يكن يعي ما يقوله الأثنان الواقفان جنبه ولم يكن ليفهم ما يقوله ويتحدث به حوله هؤلاء الواقفون الذين يحيطون به، فلماذا يكون على دراية بهم؟ ماذا يريد منهم؟ كلا كيف لا يريد منهم شيئاً ؟ هذه التخيلات والأفكار أنقذته مما هو فيه.

أرهف بسمعه إليهما، لكنه لم يكن يفقه ما يقولانه، إنهما لا يتدحثان عنه، وقبل وصوله كانا يتجاذبان أطراف الحديث، ألتفت إليهما، وجدهما غاضبين متشددين، لهذا تحركت لديه دواعي التدخل، طفق يتراجع، غدا في حال من التفكير بعمق ودقة لفهمهما، لأنه منذ أن عرف نفسه لم يكن سبباً في تعكير صفو احد؟حسناً إن كان هكذا فلماذا يرمقانه هكذا بغضب ويبدآن بالقهقهة. أطل برأسه ونبس ببضع كلمات قلقة. لم يتلق أي جواب، فأستغرب.

ـ ( إنهما لا يريدان حتى التكلم معهما، فلم لا يريدان؟ من الجائز إنهما لم يسمعاني، نعم هذا هو التحليل الصائب، ليس هناك اكثر من هذا، ماشاء الله حتى إن صفير الرياح وهدير الأمطار لن يسمحان لك بسماع صوتك، إذن كيف يسمعك الآخرون؟ نعم إنهما لم يسمعاني، وإلاّ فإنهما كانا يردان عليّ، يجوز أنه قد بح صوتي، مساءاً عندما جئت إلى هنا تناولت شيئاً رديئاً، وقد اصاب حنجرتي بالتورم، ها إنها أصيبت بالإلتهاب ثانية).

أراد ان يجرب ثانية التحدث بصوت عالٍ، وجه إليهما كلمات اخرى فلم يكن هناك من جواب أيضاً، أنتابه الشعور بالخجل.

ـ (كلا إنهما يسمعانني لكنهما تغافلا عني، يظهر من منظرهما، بإنهما رجلان بليدان ومتجهمان، إنهما لا يودان التحدث مع رجل ثمل مثلي، وهما من ذوي الكروش الكبيرة، الا تراهما يضحكان أحياناً مع الرجل الذي يقف بجنبهما؟ إنهما هكذا معي لا غير. إنني لا أشبههما، أين أنا وأين هما؟ إنهما مهندمان وأنا سمل، يا ليتني كنت اعرف لماذا يضحكان عليّ، أيجوز بأنهما يستهزئان بي؟! أيجوز بانني قد جذبت إنتباههما وكأنني شيء غريب؟! لا سامح ألله فإني لست مجنوناً، أتذكر وقد كنت عاقلاً قبل لحظات، تصرفاتي أعتيادية ولم يبدر مني شيء خلاف التقاليد، فإن لم يكن هكذا فكيف بي وقد تصرفت بصورة إعتيادية مع صاحب المحل والسائق؟! فلو كنت مجنوناً لكنت الفت إنتباه هؤلاء أيضاً؟ كلا لا أعتقد بانني جننت. فكل ما في الأمر إنهما لا يكادان يسمعانني، فمن الممكن أن يكون صوتي قد بح، لكن كيف لي أن أجرب صوتي؟ أأصرخ، أأتكلم مع نفسي؟ لكنني لا أحبذ الصراخ عندها يفضحانني وافقد زمام المبادرة، فلا أستطيع الرد، ولكن ليس في صوتي بحة ولا إلتهاب، فكيف أستطعت التحدث مع الرجل قبل لحظات؟) .

بدأ يكلم نفسه لم يكن يدري ما يقوله ولم يكن يعي ما يقوله وما لا يقوله، فقط كان يحرك شفتيه ولم يكن يجرأ على رفع صوته.

ـ سأتحدث معهما بالإشارة، سأستخدم كالآخرين يدي وعيني وفمي، فإن لم يفهماني صوتاً سافهمهما بالإشارة).

رفع إحدى يديه، فتح شفتيه، ومن ثم اطبقهما، وفتحهما ثانية، أخرج لسانه فلم يشاهدانه لذا فقد استولى هم ثقيل على فؤاده، فأستعطف نفسه.

ـ (أحياناً يختلسان نظرة مميتة لي ومن ثم يبدآن بالقهقهة، ماذا ينقصني عنهما؟ كلاهما إنسان وأنا إنسان، إنهما عابرا سبيل، وأنا عابر سبيل أيضاً، وها نحن ظاهران للعيان ، فماذا يعني هذا؟ كلا، هناك من سبب، فلابد لي التوصل إلى معرفته. وانا بدوري سارمقهما بتجهم، سأستهزء بهما ولكن لأصبر قليلاً فهل إن مظهر وجهي وجسدي وثيابي في وضع إعتيادي ؟)!
رفع يده تجاه وجهه، تلمسه، لم يشعر بشيء يذكر خفض رأسه ونظر بتفحص إلى سرواله، فأستقر نظره على بقعة بيضاء وبقع من الأوساخ فوق ركبته، كان هناك ثقبان بيضاوان فوق ركبته، يتلألآن، فالأشياء البيضاء تجذب الأنظار بسرعة، فالثلوج فوق قمم الجبال بيضاء أيضاً).

من شدة كمده ثارت ثائرته، رمقهما بغضب، ثم إبتسم لهما ما يشبه الإبتسامة واستقر أمامهما، دفع كتف الرجل الذي كان يقف على يمينه بكتفه، لم يكن يعرف كنه حقده ضد هذا، دفعه الأفندي بدوره دفعة قوية، فحدثت دمدمة ومن ثم قاما يشتبكان، وبدءا يوجهان اللكمات إلى بعضهما البعض ، أراد الرجل الآخر معاونة صاحبه ولكن البعض فرق بينهما ليذهب كل لحال سبيله، أما هو فقد أخذ بيده رجل رفيع البنية لينزوي به جانباً مبعداً إياه عن الآخرين، ومن شدة كمده قعد ارضاً، حتى تلاشت شدة غضبه.

ـ (يا ليتني لم أتحرك في وقت متأخر من هذه الليلة المشؤومة من الفندق يا له من حظ، فما كنت لأموت لو أنتظر حتى الصباح؟ لكنني لم اكد اتحمل، إنها زيارة واحدة في الشهر فقط فكيف لي التحمل؟ ولست وحدي فهناك من ينتظرونني ايضاً.).

سرى البرد من بين سترته الممزقة نحو ظهره، فكيف لا يفعل البرد فعله؟ لا يرتدي غير سترة خفيفة ليس إلاّ، وهناك من يرتدي في مثل هذه الليالي معاطف مشتراة بمائة دينار، وفوق ذلك فماذا يفعل امثال هؤلاء في هذا الوقت المتأخر ها هنا؟

بدأ يرتجف برداً، نهض ثانية، بحث عن ركن ما، أراد التثبت وقوفاً على قدميه، على بعد عدة امتار، كان هناك فراغ صغير ناحية اليسار فاخذ يخطو خطوات، ومن ثم تراجع خطوات اخرى، فتعثر بأحدهم.

ـ العفو.

ثم خطا ثانية، لم يدفأ، فأضطر لتحريك اصابعه، وقف أكثر ثباتاً، حيث انه لن يستمر في تحريك يديه هكذا حتى الصباح، أراد التحول إلى الساحة قبالة الشارع، كانت السماء تمطر، لكن عندما تحرك برز قبالته سور من المطر الخفيف، عوضاً عن ذلك نظر إلى الرصيف الآخر، فثبت نظره على مياه الأمطار المتراكمة أمامه، فتجمعت نظراته حول الدوائر الصغيرة والكبيرة التي كانت تتكون واحدة فأخرى، قطرة مطر، نقطة، نقطة اخرى، دوائر صغيرة تكبر رويداً رويداً تغدو أكبر، تتلاشى جميعاً، وهكذا كانت تسقط قطرة اخرى في مياه الأمطار الراكدة وتتكون دوائر اخرى، فبقدر ما كانت تتساقط قطرات المطر كان قلبه يخفق وينتعش ولكن بفعل صوت سيارة قادمة أختفت من أمام ناظريه صور الدوائر، فتجمع حول السيارة أولئك الواقفون تحت الشرفة.
بدوره اراد الجري نحو باب السيارة خلفهم لكن الزحام لم يسمح له بالتحرك من مكانه، إنه لن يجد مكاناً، بقي مكانه، أستقل البعض السيارة، وعاد البعض الآخر نحو أماكنهم، نظر إلى المكان الذي كان يقف فيه أول الأمر، حينما رأى إختفاء الأفنديين تنفس الصعداء، لكنه لا يمكن له ان يبقى هنا ويقوم بتوديع الآخرين؟ عندما سيصل ستنطفأ نيران عشقه وبعده وإنقطاعه عن أطفاله، لأن أطفاله وزوجته ينتظرونه منذ فترة.

ـ لقد تأخرت، لو كانت الأمور في يدي لكنت أصنع لنفسي جناحين أطير بهما لأهبط هناك!
تنفس حسرة ومن ثم إتجه نحو بركة مياه الأمطار الراكدة، كانت الدوائر لا تزال تتكون، ولكن بشكل آخر هذه المرة، كانت الدوائر ترتدي ألواناً جذابة وكانت لكل دائرة لون، اصفر، أحمر، أخضر، بني، أول الأمر على إنفراد ومن ثم مجتمعة، كانت تبرز أمام ناظريه اشياء جميلة وغريبة، الأنهار، السماء، لعب الأطفال، ومن ثم كان يشاهد إبنه (آزاد) يطل برأسه من بين تلك الأشياء ونفس هيئته وجسمه ونفس الشعر، ونفس الطول ناظراً لوالده للحظات وأختفى، مد يديه كي يخطو نحوه ليقوم بإحتضانه.

ـ يا بني لا تؤاخذني، أردت ان اشتري لك اللعبة لكن لم تكن تكفي نقودي، لا ضير في المرة القادمة.

ولكن بعد ماذا؟ بعد ان نظر إلى مياه الأمطار الراكدة، لم ير أي شيء عدا الدوائر، أنتفض من مكانه، سار نحو مياه الأمطار الراكدة، جلس ارضاً، دنى برأسه ناظراً إلى الدوائر، نظر بحدة فلم يجد (آزاد)، وضع أنمله في الماء مرره هنا وهناك لكن دون جدوى، في هذه اللحظات بالذات رغب في الأستحالة إلى قطرة من قطرات المطر ويسقط في الماء الراكد عندها سيغور بحرية في الاعماق، لكي يلتقي بإبنه ويسعد بلقائه في أتون واحدة من تلك الدوائر، ود لو يتقلص، غير أن رغبته كانت بعيدة المنال، كأن إبرة توخز كبده، ومن فرط حسرته سالت دمعتان ساخنتان من مقلتيه لتستقرا وسط الماء الراكد، ومن ثم أدار وجهه فلم يستطع النظر أكثر من هذا، شعر بغربته وغربة إبنه آزاد، غدت الغربة عزفاً مليئاً بالهموم حركت اوتار شعوره، فأنبعث لحن مزيج بالهموم ليطغى على صمت اللحظة هذه.

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى