الأحد ٧ نيسان (أبريل) ٢٠٢٤
بقلم عبد القادر ياسين

الوجيز الكافي في تاريخ فلسطين السياسي

بين النكبة والنكسة، القسم الثاني من ثلاثة

القسم الأول

 القسم الثاني
بين النكبة والنكسة
ما أن وضعت الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى (1948م) أوزارها، حتى تفرَّق الشعب العربي الفلسطيني على أربعة أركان المعمورة، وإن ظلت غالبيته العظمى على مقربة من وطنها المحتل. وهبطت نسبتهم الأكبر إلى ما تحت خط الجوع، وأقامت في خيام بالية، وفَّرتها "الكويكرز"، ومن بعدها "وكالة الغوث"، التابعة للأمم المتحدة.
لكن هذا كله لم يمنع الشعب الفلسطيني من مواصلة نضاله الوطني، رغم انفراط عقد كل الأحزاب السياسية العربية الفلسطينية، عدا "عصبة التحرُّر الوطني" اليسارية.
ضُم القسم الشرقي من فلسطين إلى شرقي الأردن، وحمل اسم الضفة الغربية (أيار/ مايو 1950م). وبعد نحو العام، اتحد القسم الذي بقي هناك من "العصبة" مع الحلقات الماركسية في شرقي الأردن، فوُلد "الحزب الشيوعي الأردني"، بينما كان "البعث” تمكَّن من تأسيس فرع له في الأردن، الأمر الذي احتاج 6 سنوات أخرى، ليتأسس فرع آخر في قطاع غزة، الذي غدا تحت الإدارة المصرية، بمسمى "المناطق الخاضغة لرقابة القوات المصرية"! وإذا كانت "حركة القوميين العرب" قد مدَّت نشاطها إلى الأردن، مبكراً، فإن وصول الحركة إلى القطاع تأخر، إلى نهايات 1957م. وحالت الأحزاب الوطنية والتقدمية في الأردن، دون الانضمام إلى "حلف بغداد" (كانون الأول/ ديسمبر 1955م)، ثم نجحت في طرد الجنرال البريطاني، جون باجوت جلوب، من قمة الجيش الأردني (آذار/ مارس 1956م)، ومن ثم إلغاء "المعاهدة الأردنية – البريطانية".
لم تعرف إسرائيل الهدوء على حدودها، حسب جولدا مائير؛ فحتى "العدوان الثلاثي" (نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 1956م)، نجح نحو 8500 رجل من دخول وطنهم المحتل، آتين من الضفة الغربية، ونحو 3000 من قطاع غزة، ومن سوريا نحو 600، ومن لبنان نحو 200. بينما أصدرت المحاكم الأردنية، فيما بين العامين 1954 – 1956م، أحكاماً مختلفة على نحو ألف فلسطيني، بتلك "التهمة"!
هنا كان لقوة القضية الوطنية الفضل في تلك الجسارة، حيث عوَّضتهم تلك القضية عن تقوُّض شتى البنى الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية العربية الفلسطينية.
حاولت الحكومة الأردنية، عبثاً، احتواء الغضب الوطني لشباب قرى المواجهة مع إسرائيل، فاستحدثت لهم "الحرس الوطني"، وإن بدون رواتب! وببنادق تقليدية، حُجزت ذخيرتها في مقار مجالسهم القروية؛ ما جعل المعتدين الإسرائيليين يبدأون هجماتهم المسلحة بنسف مقار تلك المجالس؛ كما حدث في الاعتداء على قرية قبية، في الضفة الغربية (14/10/1954م).
مراكمة فصحوة
استعاد الاقتصاد العربي الفلسطيني، معظم عافيته، بعد نحو عقد من النكبة؛ بعد أن تدفق أبناء هذا الشعب إلى دول الخليج، وأنعشت تحويلاتهم النقدية إلى ذويهم، في الضفة والقطاع، هذا الاقتصاد. ونشأت في الخليج فئات وسطى فلسطينية، اكتسبت نفوذاً اقتصادياً مطرداً؛ فرنت إلى نفوذ سياسي مواز، بينما كانت سُدَّة قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية تنتظر من يشغلها. ولم تكن الكويت تحظى بعضوية "نادي المنتفعين بالقضية الفلسطينية"، كما تمتعت بهامش ديمقراطي، سمح للفلسطينيين بحرية الحركة، وفي الكويت كانت جالية فلسطينية كبيرة، في مواقع اقتصادية مهمة، حيث انتقل إليها معظم الكوادر القيادية في "رابطة الطلبة الفلسطينيين" بالقاهرة.
بينما تحقَّق، حينذاك، نهوض قومي عربي، بعد إقدام عبد الناصر على استحداث "الكتيبة 141 فدائيون" (نيسان / أبريل 1955م)، التي أنزلت بإسرائيل نحو 1400 قتيل، في بضعة أسابيع. ثم كان عقد الرئيس المصري "صفقة الأسلحة التشيكية"، خريف العام نفسه، وأتبعها بصفقة أخرى، غير عابئ بالتهديد الأميركي، هنا عمدت واشنطن إلى تكتيك الاحتواء، فعرضت على عبد الناصر تمويل بناء السد العالي، وتبعتها لندن، و"البنك الدولي"، لكن اعتراف عبد الناصر بالصين الشعبية (أيار/ مايو 1956م)- وكان أمراً مُؤثماً عند واشنطن- جعل الأخيرة تسحب عرضها، وفي أذيالها، وعلى منوالها، تصرفت لندن، والبنك الدولي؛ فرد عبد الناصر بتأميم قناة السويس (26/7/1956م)، هنا عمدت بريطانيا، وفرنسا، وإسرائيل إلى شن "العدوان الثلاثي" على مصر، وقطاع غزة، خريف العام نفسه، وإن أخفق هذا العدوان في تحقيق أيٌ من أهدافه السياسية، بصمود الشعب المصري، والتفافه حول قيادة عبد الناصر، وبقوة "الإنذار السوفييتي" بضرب عواصم العدوان بالصواريخ العابرة للقارات، إن لم تُسارع إلى سحب قواتها من الأراضي المصرية.
لم تدع واشنطن الفرصة تفوتها؛ فسارع الرئيس الأميركي، دوايت أيزنهاور، إلى التقدم بالمشروع الذي حمل اسمه (5/1/1957م)؛ بهدف "ملء الفراغ في الشرق الأوسط"! الذي ترتَّب على خروج النفوذين، البريطاني والفرنسي، من هذا الشرق.
بعد اندحار قوات العدوان عن بورسعيد، وجزء من سيناء (23/12/1956م)، وعن قطاع غزة (7/3/1957م)، أخذ النهوض القومي في التعاظم؛ فتحقَّقت الوحدة المصرية – السورية (22/2/1958م)، وعصفت ثورة وطنية بالحكم الملكي المستبد في العراق (14/7/1958م)، بعد أن كانت الحركة الوطنية اللبنانية نجحت في كبح جماح الثورة المضادة، في وقت سابق من السنة ذاتها. بينما كانت ثورة وطنية مسلحة اندلعت في الجزائر (1/11/1954م)، وتُوِّجت، بعد نحو ثمان سنوات بالانتصار (آذار/ مارس 1962م).
في وقت أكدت استراتيجية "حرب التحرير الشعبية" مضاءها، في دحر الإمبريالية في الصين، وكوريا، وفيتنام، وكوبا، وإلى حد ما في الجزائر.
بذا، اكتملت شروط ظهور الفصائل الفدائية الفلسطينية، في انتظار تراخي قبضة النظام السياسي العربي؛ الأمر الذي تحقق، بانفراط عقد الوحدة المصرية – السورية (28/9/1961م)، واشتداد الصراع غير المبرر بين الثورتين، المصرية والعراقية. في وقت تلاحقت انتصارات حركات التحرر الوطني في العالم، واتسع نطاق الدول المستقلة حديثاً، وعاش العالم "عصر انتصار الاشتراكية"، ثم جاء التأثير الإيجابي لوصول الفئات الوسطى إلى سُدة الحكم في أقطار عربية شتى (مصر، سوريا، العراق، والجزائر).

الفصائل والمنظمة

بانتصار ثورة الجزائر، غصَّت الساحة بنحو أربعين "جبهة" فلسطينية، على غِرار جبهة الجزائر، التي انتصرت، بعد أن قلب انفصال سوريا عن مصر شعار "الوحدة طريق التحرير"، إلى "التحرير طريق الوحدة"، خاصة بعد أن حثَّ عبد الناصر الشعب الفلسطيني على أخذ قضيته الوطنية بين يديه، ما كرَّره الملك سعود، ورئيس وزراء سوريا، بشير العظمة، وختمها الرئيس الجزائري أحمد بن بيلا.
فزع النظام العربي من مغبة العمل الفدائي الفلسطيني؛ فدعا عبد الناصر إلى مؤتمر القمة العربية، بدعوى مواجهة خطط إسرائيل بتحويل مجرى نهر الاردن، وانعقد المؤتمر، في القاهرة (13 - 17/1/1964م)، وكان أحمد الشقيري يمثل الشعب الفلسطيني في هذه القمة، وهو الموقع الذي اختاره له عبد الناصر، صيف 1963م، ليخلف أحمد حلمي عبد الباقي باشا. وكلفت القمة الشقيري استمزاج رأي مختلف التجمعات الفلسطينية، حول الشكل الذي ترتأيه هذه التجمعات للكيان الفلسطيني، وإن كان الشقيري فاجأ القمة العربية الثانية (الاسكندرية، أيلول/ سبتمبر 1964م) بالأمر المقضي، إذ وُلِدت "منظمة التحرير الفلسطينية" عن المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول (القدس، 28/5-4/6/1964م). واكتشفت قيادة المنظمة بأنها في مواجهة مع أكثر من طرف، بما فيها الفصائل الفدائية الفلسطينية.

المنسيُّون

اختار نحو 150 ألف فلسطيني البقاء في مسقط رؤوسهم، على الرغم من كل ما اقترفته العصابات الصهيونية من مذابح في 37 بلدة، وقرية عربية فلسطينية، خلال حرب 1948م. وتحوَّل العرب الفلسطينيون في إسرائيل ، من أكثرية إلى أقلية مضطهَدة، وغدا "الحزب الشيوعي" معبِّرًا عن هذه الأقلية، التي صادرت إسرائيل نحو ثلاثة أرباع أراضيها (300 ألف دونم)، الأمر الذي هبط بحجم العمال الزراعيين العرب الفلسطينيين، هناك، لحساب التوجُّه نحو سوق العمل الإسرائيلية، خارج مناطق سكناهم، في الأغلب الأعم، ما أسهم في خلخلة العلاقات التقليدية بالريف العربي الفلسطيني ، داخل إسرائيل. وعبَّر تشوُّه البنية الاجتماعية العربية الفلسطينية ، هناك، عن نفسه، في التراجع المطَّرد للمنخرطين في العمل المنتج، لحساب العمل الأسود المضني، ذي الأجر المتدني، في خدمات، بعيدًا عن الأعمال التي تتطلب عمالاً مهرة.

في مجال الاضطهاد، أيضًا، نقص أجر العامل العربي الفلسطيني، نحو الربع، عن نظيره اليهودي، وعلى الأوائل وقع العبء الأكبر من البطالة، ما دفع بنسبتهم الأكبر إلى تحت خط الفقر، معانية من الضائقة السكنية، خاصة وقد انتُزِع نحو ربع مليون عربي في إسرائيل من مسقط رأسهم، عنوة، إلى أماكن أخرى.
بينما بالكاد وصل دخل الأسرة العربية، هناك، إلى نحو نصف نظيرتها اليهودية.

في غياب الأرض، غدا التعليم سلاحا، ورأسمالا، في آن؛ فنصبت إسرائيل العقبات في وجه الأقلية العربية؛ ما رفع نسبة تسرُّب التلاميذ إلى حوالي النصف، بينما استبدت البطالة بنحو ثلث خريجي الجامعات من عرب 48.
عزَّز هذا كله إصرارهم على الصمود، وعمَّق إحساسهم بهويتهم القومية، وتوْقهم إلى الديمقراطية والمساواة، ما دام تحرير فلسطين قد اختفى من الأفق؛ فمع النهوض القومي العربي (1955 – 1958م)، إئتلف التياران، اليساري والقومي، في "الجبهة الشعبية"، العام 1958م، ضد جوْر الحكم العسكري، ومصادرة أراضي العرب الفلسطينيين، ومن أجل تعليم العربية. على أن هذا التحالف سرعان ما انفرط، في موازاة انفراطه في الوطن العربي. وحاول التيار القومي العربي في إسرائيل استحداث حركة "الأرض". وإن أدى ظهور "منظمة التحرير"، وفصائل المقاومة الفلسطينية، إلى إنعاش أمل عرب 48 باقتراب التحرير. لكن هزيمة ساحقة حاقت بالجيوش العربية، في حرب 1967م، فعاد عرب 48 إلى الصفر، من جديد.

ذهب الأحمديْن ( أحمد الشقيري، وأحمد سعيد[مدير إذاعة صوت العرب]) ضحية تلك الهزيمة؛ وكأنهما من صنعها!

بين النكبة والنكسة، القسم الثاني من ثلاثة

حين انتصرت الثورة الوطنية في العراق (14/7/1958)، ألحَّ عبد الناصر على دمج العراق في "الجمهورية العربية المتحدة"، فوراً، وإن فضَّل الرئيس العراقي، عبد الكريم قاسم، البدء باتحاد كونفدرالي، يعالج الاختلافات، في شتى المجالات، الأمر الذي خوَّنه عبد الناصر! والمستهجن أن "البعث"، حين وصل إلى الحكم، في العراق، لم ينجز هذه الوحدة، على حين تمكَّن عبد السلام عارف (الناصري القُح) من الحلول محل البعث، بعد نحو تسعة أشهر، لكنه لم ينجز هذه الوحدة! بينما كان عبد الناصر أودع مئات الشيوعيين المصريين، و31 فلسطيني من قطاع غزة المعتقلات، لنحو خمس سنوات متصلة، خلال هذه العداوة المُفتعلة.
أعاد عبد الناصر انفصال سوريا عن مصر إلى أخطاء وقع فيها نظام حكمه، في مقدمها ضربه القوى التقدمية، وإهماله تحقيق وحدة القوى الوطنية، وتجاهله خطر الرجعية. وإن تغافل عبد الناصر عن دور غياب الديمقراطية في سيادة القمع، والاستبداد، داخل دولة الوحدة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى