الخميس ١٨ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم عبد الدائم السلامي

آسِفٌ، لا نُولدُ أحرارًا!

قلتَ "متى استعبدتُمُ الناسَ وقد ولدتهم أمَّهاتُهم أحرارًا"، وكان قولُك جميعَ الحكمةِ التي بحثَ عنها أخيارُ الأرضِ فلاسفةً وأنبياءَ، ولكنّه قول محكومٌ بأشراطِ وقتِه يا ابن الخطّابِ. لم تكن في زمنك أممٌ مُتّحدةٌ على الشَرّ تشكُمُ أفواهَ الحقِّ بحقِّ الفيتو، لم يكن في عهدِك زِفْتٌ في منطقتنا العربيةِ ولا جوعُ شركاتِ الغربِ. كان الناسُ يولدون أحرَارًا من كلِّ شيءٍ: من التشوُّهاتِ الكيميائيّة ومن الإيدز ومن الإِجْرام العالميّ الفضائيِّ في حقِّ عقولِهم الشفيفةِ ومن خوفِ الرُّعاةِ. الناسُ في وقتِكَ يا عمرُ يشربون الحليبَ الطبيعيَّ ويأكلون الرّغيفَ ويمارسون الحُبَّ تحتَ السَّماءِ بالمَجّانِ. هل ثمة فينا اليومَ مَنْ يخرجُ من بَطْنِ أمِّه مُعافَى من الأحزانِ؟ أشكُّ كثيرًا في تحرُّرِنا من عبوديّةِ أرواحنا بشهواتِها الجمّةِ وبانْهِزاماتِها المَرِيرةِ التي يُغطّيها سُكَّرُ السِّياسةِ. البيتزا، يا سيّدي، وأغاني الكليبات وعملياتُ التجميلِ والأجساد الطريّة العاريةُ والخِطاباتُ الملغومةُ كلُّها أغلالٌ تُكبِّلُ فينا تَوْقَنا إلى الحريّةِ. ولّى زمنُ الحريّةِ يا عمرُ، وجاءَ زمنُ الاتجارِ بالحرِّيات البشريّة من قبل سماسرةٍ سياسيّين وآخرين من المثقَّفين ونفرٍ من أبناءِ الحرامِ. هذا زمنُ الإجرامِ.

***

وُلِدْنا عبيدًا: نعبُدُ المالَ والجاهَ والشهوةَ والكراسيَ وخَنْقَ أرواحِ الأبرياءِ كلّما جلسوا بين كَفَّيْ أرواحِهم يكتبون أناشيدَ وطنيّةً. لا يمرُّ لنا يومٌ دون أن تثور فينا رِغبةُ قتلِ الآخرين وامتصاصِ دِمائهم بدَم بارِدٍ. أظنّك شاهدتَ يا سيّدي قنابلَ أمريكا لحظةَ اختراقِها أجسادَ أطفالٍ لم يبلغوا بعدُ سِِنَّ الكلامِ. ماذا سيقولون عنّا لتاريخِنا؟ تُفٍّ على تاريخِنا الهمجيِّ الجاهليِّ الذي مسختْ التِّقانةُ فيه كلَّ ملامِحِ الإنسانِ الراهنِ، تُفٍّ على الحضارةِ حين تفقدُ رُشْدَها "أو تلقاه" في غيرِ فضاءاتِنا، تُفٍّ على السياسةِ حين تفتحُ أبوابَ جحيمِها لأفكارِنا الورديّةِ، تُفٍّ على ما في أفكارنا من وردٍ وقرنفُل وياسمينٍ بَريٍّ نرشُّه بمدَادِ أقلامِنا حتى يتعَسْلَجَ فتَتَجاوزُ عَساليجُه حِيطانَ سجونِنا العاليةَ وتُحيّي الشمسَ بخَفَرٍ وحياءٍ.

***

نزعمُ أنّ الحريّةَ في أوطانِنا كذبةٌ كُبرى تحكمُها قدرةٌ كبيرةٌ لِمُرَوِّجيها على الإقناعِ بها، نحنُ نعرِفُ أنّنا لسنا أحرارًا منهم، ولكنّنا نصدِّقُهم بما بقيَ فينا من أملٍ. بل نحنُ أحرارٌ ما دُمنا نؤمنُ بكذبةِ الحريّة ونهتِفُ لأصحابِها ونهلِّلُ لهم صباحَ مساءَ. فإذا تحسَّسْنا خلايانا وجدناها مكبّلةً بقيودٍ جينيّةٍ خَفيّةٍ لا نستطيعُ معها إلاَّ أن نأكلَ الخبزَ ونشربَ الماءَ ونكتُبَ الأشعارَ ونحمدُ الخالِقَ على رِضَاءِ المخلوقِ علينا ونصمُتُ إلى حينٍ. الحريّة يا عمرُ لها زمنٌ، ونحنُ لنا زمنٌ، زمنُ الحريّة وجدانيٌّ قِيَميٌّ وزمنُ إنسانِ هذا العصرِ فيزيائيٌّ مَكْنَنَتْهُ الآلةُ وصيَّرَتْ أشياءَه باردةً في قلوبِنا، وحوّلت أجسادَنا مخابرَ لتجريبِ أسلحةِ الموتِ البطيءِ، نحن يا سيّدي نولدُ أمواتًا من الحُبِّ ومن الطهارةِ ومن الخيرِ ومن الجرأةِ. نولدُ وفينا آلاتُ موتِنا: وَهْمُ الحريّةِ "سنفتَكُّها بأيدينا العاريةِ حتى مِنْ بابِ الاستعارةِ" وهمجيّةُ الحضارةِ وجوعُ الإنسانِ إلى أكلِ حقوقِ الإنسانِ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى