آفاق تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
إن لجنس السيرة الذاتية أنفاسا فنية، تتردد في كل الأعمال الأدبية: الشعرية والنثرية، فهو جنس يمثل الخفاء الذاتي في عمق الخطاب الأدبي، بينما تعيش "الذات" في أدب السيرة الذاتية أقوى تجلياتها، وذلك من خلال إعلان الكاتب عن نفسه بكشف (أناه) الساردة، وإبرام عقد مصارحة مع القراء، وبناء على هذا الطرح، فإن السيرة الذاتية تمثل النص الغائب في مجموع الكتابات الأدبية، المندرجة في باقي الأجناس الأدبية، أو الخطاب المتواري الذي لم يجسد أصحابه مادته اللغوية بعد.
وعلى الرغم من غياب هذا التجسيد الأدبي لدى أكثر الكتاب، فإن إنتاجاتهم النثرية والشعرية تحمل منه قليلا أو كثيرا، وهذا واقع بالإمكان أن نهتدي به إلى الإقرار بأن ثمة عملية تناص بين الأعمال الأدبية الحاضرة، سواء كانت قصة، أم رواية، أم قصيدة، أم غيرها والأعمال الأدبية الغائبة، وعلى رأسها السيرة الذاتية، ولكي يمسك الكاتب سيرته، نراه يلجأ إلى التأليف في دائرة مختلف الأجناس الأدبية، فيتخذ منها مركبا وجسرا يعبر على متنه إلى حيث يلقى حقيقة وجوده وماهيته في هذه الحياة.
ولا شك أن السيرة الذاتية من أعقد وأصعب الأجناس الأدبية، بحكم أنها نشاط إبداعي ليس من السهل القيام به، لأن أكبر تحد يواجهه مؤلف السيرة الذاتية، هو كيفية الإحاطة بذاته كتابة على الرغم من اتصاله الوثيق بها، ولعل ما يسم مفهوم السيرة الذاتية من اختلاف محكوم بتنوع القراء ـ ومنهم أهل الاختصاص ـ وتشعب نظرتهم إلى هذا الجنس الأدبي، لمن أدل مظاهر الصعوبة التي تكتنف الجهاز المفاهيمي الخاص بأدب السيرة الذاتية.
إن إمعان الأدباء، والمفكرين، والمؤرخين وغيرهم في الكتابة، ما هو إلا دليل على سعيهم الدائب إلى الإمساك بحقيقة وجوهر ذواتهم، خاصة إذا ما علمنا أن الباعث على كتابة السيرة الذاتية كثيرا ما تتم تلبيته في عمل أدبي آخر ينفرد بأهمية متميزة لدى الكاتب.
وعلى أساس هذا المبدإ، تتحول ذات المبدع إلى أفق انتظار، وملمح يصل بين الحلم والحقيقة، بحيث أن للكاتب قناعة بكونه سيتمكن يوما من إدراك سر الذات الإنسانية و لغز الحياة، ثم إن المسافة الإبداعية التي يقطعها من يكتب سيرته الذاتية بحثا عن حقيقة ذاته ووجوده، ما هي في واقع الأمر إلا تجربة معرفية، يقدم عليها ليكتسب وعيا بذاته والعالم الذي ينتمي إليه، فهو في ترحال دائم بقصد البحث عن توازنه واستقراره، ولاكتشاف مجاهله، ورفع الحجاب عما خفي من حقيقته البشرية.
إن جدلية الخفاء والتجلي، التي تسم فضاءات الذات الساردة لتاريخها الفردي، تثير ـ على ما يبدو ـ مسألة الحدود الفاصلة بين الأجناس وتدعو الناقد، والباحث، والمهتم عموما بأدب السيرة الذاتية إلى إعمال النظر في مدى مصداقية هذه المسألة، ذلك لأن القول بالقطيعة في ما بين الأجناس الأدبية لا أساس له من الصحة، إذا ما تفحصنا جيدا واقع الكتابة الأدبية قديمها وحديثها.
ونحن نعلم أن القدماء لم ينظروا إلى إنتاجهم الأدبي نظرة تصنيفية، تقوم على مفهوم الجنس الأدبي؛ وإنما نظروا إليه مصنفا إلى نثر وشعر أما مسألة الأجناس الأدبية، التي صارت متداولة حديثا، فهي إجراء منهجي خاص بالدراسات النقدية، يستعين به ناقد الأدب في البحث العلمي المنظم، وهذه الرؤية المزدوجة: التصنيفية والمنهجية لم تكن من قيم الأدب والنقد العربي الإسلامي القديم.
لا شك في كون مختلف الأجناس الأدبية ـ شعرية كانت أم نثرية ـ تلامس جنس السيرة الذاتية، فهي تحمل من هويتها وملامحها، ومن روحها وظلالها الشيء الكثير، فكاتب القصة مثلا، أو المقالة، أو الرواية، أو القصيدة، يتمثل ذاته من خلال ما ينتجه بشكل أو بآخر، وهذا دليل راسخ الأركان، يزكي تأكيدنا على أن جميع الأجناس الأدبية ما هي إلا فضاءات تحايلية، وتجليات إبداعية، يحاور بها الكاتب ذاته ليعيها حق الوعي، ومن ثم تتسع دائرة التعبير الخاصة بأدب السيرة الذاتية.
أمام هذه المعطيات والحقائق، لا يمكن للباحث إلا أن يتساءل بشأن أمور كثيرة، ولا يسعه إلا أن يحاول الإجابة على ما يصادفه من أسئلة اجتهادا منه، وذلك إسهاما منه في التنظير لأدب السيرة الذاتية، وإغناء الحوار الثقافي حول هذا اللون من التعبير المميز، على أمل أن تتكامل جهود الباحثين والمهتمين بدراسته في سبيل التوصل مستقبلا إلى إجابات مبنية على أساس علمي دقيق، لأن الوقوف على حقيقة جنس السيرة الذاتية وحدوده الإبداعية غاية لا بد منها.
ومن هذا المنطلق نؤكد على ضرورة إعادة النظر في الجهاز المفاهيمي الخاص بأدب السيرة الذاتية، لا سيما إذا علمنا بوجود من حاول مجتهدا ـ بين المحدثين من نقاد هذا الأدب ـ وضع تعريف لهذا الضرب من الإبداع، بينما تجنب البعض الخوض في مسألة التعريف، وانصرف يدرس جملة من القضايا المرتبطة بأدب السيرة الذاتية.
إن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يشكل مظهرا من مظاهر التعبير الحكائي، فهو ليس كيانا غريبا عن أدب الرواية، خاصة وأن الخطاب الروائي في العالم العربي الإسلامي يقدم لنا تاريخا للذات العربية المسلمة، مما يجعل من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث سمة ملازمة للسرد الروائي الحديث.
والملاحظ أن الكاتب العربيالمسلم هو في حاجة بالغة اليوم، وأكثر من أي زمن مضى، إلى كتابة تاريخه الخاص، وتدوين سيرة الأمة أو تاريخ الذات الجماعية من خلال ذلك التاريخ، وبسبب هذا النزوع الواعي يلامس ـ في الغالب ـ منحى أدب السيرة الذاتية المنحى التاريخي.
وعلى الأرجح يتضح جليا ذلك التجاذب القائم بين الخطاب الروائي وخطاب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي، الذي يوحي في بعض الأحيان ببلوغه درجة التماهي، التي تصير معها الكتابة الروائية وكأنها وسيلة للتأريخ الضمني لما هو ذاتي، وجماعي، وموضوعي.
وبإلقاء نظرة على تاريخ الظواهر الأدبية في العالم العربي الإسلامي، سنجزم بكون أدب السيرة الذاتية متأصل فيه منذ زمن بعيد، بخلاف الفن الروائي الذي عرف نهضته القوية وتطوره السريع في العالم الغربي، مع صعود الطبقة البورجوازية، التي عبرت به عن كيانها، وذلك قبل أن يتحول إلى أدب مطروق لدى مختلف الطبقات الاجتماعية.
وعلى الرغم من التأثير الغربي، فإن الكتابات الروائية العربية ظلت موسومة بروح السيرة الذاتية، وهذا لا يعني أن هذا التوجه في الكتابة الأدبية ينفرد به المؤلفون العرب وحدهم في العصر الحديث؛ بل حتى كتاب الرواية الأجانب نهجوا هذا المنحى في التأليف.
إن المثير حقا في أمر التجربتين السرديتين: العربية والأجنبية ـ خاصة الغربية ـ هي هذه العودة إلى قراءة الذات واقتفاء أثر التجارب الفردية الماضية، إذ في الوقت الذي نجد فيه الرواية العربية ما تزال من النمط الذاتي الشخصي، نرى الكثير من الكتاب الغربيين يستهلون مسيرتهم الإبداعية بكتابة الرواية، وبعد ذلك ينصرفون إلى تأليف سيرتهم الذاتية.
ثم إن هذه الظاهرة تبعث على الاعتقاد في كون الكتابة الروائية لم تعد تستجيب لطموح الكاتب الغربي وقوة رغبته في التعبير، ربما لأن الذات الغربية الكاتبة أدركت بأن هذا اللون من الإنتاج الأدبي ليس بإمكانه استيعاب حياتها الفردية، وأهم ما تريد أن تفضي به إلى الآخرين، مما جعلها تعمد إلى كتابة السيرة الذاتية، بهدف إشباع رغبتها في الإفصاح أكثر، وتحقيق تواصل مكثف وفاعل مع القراء.
ولعل أهم الأخطاء التي أوقعت عددا من المؤلفين العرب، اختزلته الكتابة انطلاقا من أفق غريب عن الذات العربية المسلمة، والذي تجسد في هاجس الكونية أو العالمية، خاصة عندما صار بؤرة اهتمام لدى طائفة من الكتاب في العالم العربي الإسلامي، الذين حاولوا تهميش أدب السيرة الذاتية لصالح الكتابة الروائية، اعتقادا منهم في سلامة هذا النهج، وطمعا في أن يرقى أدبهم إلى مستوى العالمية، وأن يتخذ سمة إنسانية كونية، فأضاعوا باختيارهم هذا المنحى الطريق إلى المحلية والعالمية معا، في حين كان عليهم أن يحققوا ويحفظوا لأدبهم هاتين الخاصيتين من خلال الاهتمام بأدب السيرة الذاتية.
فهل عرفت الرواية العربية شكلا واحدا هو شكل السيرة الذاتية؟ ثم هل ما نلاحظه من تصوير الكتاب العرب حديثا لحياتهم باعتماد الصياغة الروائية دليل على اقتدائهم بالكتاب الغربيين في هذا النهج؟
ثم هل الرواية العربية الإسلامية ـ كما الرواية المغربية ـ مرشحة للبحث والدرس النظري والتطبيقي من زاوية أدب السيرة الذاتية، الذي يسود فيها حيزا كبيرا؟ أم أنها بلغت سن الرشد حقا، والمتمثل من جهة في تقلص درجة التطابق والتماهي ما بين الكاتب وأبطاله في الرواية، وفي تراجع المكون الواقعي الذاتي من جهة ثانية؟
ثم إننا نطرح سؤالا آخر حول مدى صحة الاعتقاد في كون الكتاب العرب المسلمين يستهلون مسيرة كتاباتهم الأدبية بتأليف سيرهم الذاتية، التي يتخذونها جسرا يبلغون به كتابة الرواية، بخلاف الكتاب الغربيين، الذين يبدؤون بالكتابة الروائية ليعبروا من خلالها إلى كتابة سيرتهم الذاتية؟
إن ظاهرة التحول من كتابة السيرة الذاتية إلى الكتابة الروائية في العالم العربي الإسلامي، سجلت حضورها ابتداء من منتصف القرن العشرين، لكن هذا التحول لم يعرفه جميع الكتاب؛ بل إن عددا منهم هو الذي خاض هذه التجربة، وتحديدا أولئك الذين مارسوا الكتابة الروائية تقليدا، واتخذوا من تجاربهم الذاتية، ومن التقاليد الخاصة بكتابة السيرة الذاتية أو التي تسم أحد مكوناتها الكبرى: مذكرات، أو ذكريات، أو اعترافات مادة وصياغة روائية، وهذه إشارة دالة تجعلنا نتساءل من جهة حول مستقبل الكتابة الروائية العربية الإسلامية؟ وعن مدى إمكانية تحولها إلى قناع يتستر خلفه وجه السيرة الذاتية؟
ومن جهة ثانية تبعثنا الإشارة ذاتها على السؤال عما إذا كان عمق الجدلية القائمة بين الرواية والسيرة الذاتية دليل على عودة قوية ومرتقبة لأدب السيرة الذاتية إلى الواجهة الإبداعية والنقدية؟ ثم ألا يستحق أدب السيرة الذاتية أن يكون الجنس الأدبي الأكثر قدرة على التعبير الإنساني في العصر الحديث؟
إن ما نراه في أفق الإبداع الأدبي على صعيد العالم العربي الإسلامي الحديث، هو تلك العودة المرتقبة والقوية لأدب السيرة الذاتية عموما والإسلامية بوجه خاص، ورؤيتنا هذه ليست نابعة من فراغ؛ بل هي مبنية على معطيات جد هامة وجلية، نستطيع إجمالها في كون تاريخ أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية سجل انبعاثا قويا في عدة ظروف ومحطات تاريخية متأزمة ومضطربة، وإن كانت متقطعة وغير متواصلة.
ونحن نعتقد أن هذا اللون من التعبير الأدبي في العصر الحديث قد سجل منذ زمن بوادر عودته القوية، التي واكبت الضربات الأولى المتوالية على العالم العربي الإسلامي، والتي كان من أبرز نتائجها ومظاهرها انهيار الخلافة الإسلامية العثمانية، وإذا كان معظم النقاد اليوم يجمعون على ندرة السير الذاتية العربية الإسلامية، فذلك لأنهم قليلا ما يصادفون سيرا ذاتية صريحة وغير مقنعة، يبرم فيها أصحابها مواثيق واضحة مع القراء.
لكن هذا لا يعني في شيء ريادة الشعر أو غلبة الرواية في العصر الحديث، وإنما الريادة الحـقة والغلبة المؤكـدة ـ تبعا لما نعتقده ونذهب إليه من اجتهاد في الرؤية ـ هي لأدب السيرة الذاتية، وإن كان يحتفل بنفسه بين التجلي حينا والخفاء في كثير من الأحيان، وذلك على امتداد الكتابة الإبداعية شعرها ونثرها، وهذه حقيقة قليلا ما ينتبه إليها دارسو الأدب العربي الإسلامي والباحثون فيه.
إن العصر الأدبي الحديث ـ خاصة في البلاد العربية الإسلامية ـ هو عصر أدب السيرة الذاتية بامتياز كبير، إذ أن ما يميز هذا العصر من نماء الروح العلمية، التي لا تخلو في الغالب من أي دراسة، يجعل السيرة الذاتية أقرب الأجناس الأدبية إلى هذه الروح من حيث قوة النزوع إلى البحث عن الحقيقة الإنسانية والتاريخية.
فهل نستطيع القول بأن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة صار يمثل ديوان العرب وغير العرب المسلمين؟ وأن أدب السيرة الذاتية بوجه عام أضحى ذلك الأفق المفتوح، الذي يحتضن كل ضروب الإبداع الأدبي، ويستقي منها الكثير من الخصائص والسمات؟
هذا مقال آخر أو حلقة أدبية نقدية أخرى من سلسلة مقالات جد مركزة حول أدب السيرة الذاتية الإسلامية بوجه خاص، وحول جنس أدب السيرة الذاتية بوجه عام، وما هي في البدء والمنتهى إلا جملة من الكتابات النقدية الهادفة إلى دعوة ذوي العناية الأدبية والاهتمام النقدي بقصد إسهامهم في إعادة تمام الاعتبار لأدب السيرة الذاتية، ومنح هذا الضرب من الأدب نثره وشعره حق قدره، فهل ثمة في الأفق القريب من أقلام إبداعية نقدية وثابة متحمسة لما ندعو إليه صادقين؟