الأحد ١٣ آب (أغسطس) ٢٠٢٣
بقلم صفاء أبو خضرة

أحكام عالية في حب فلسطين

استخدمَ الاحتلال لأي دولة على مرّ العصور أساليب عديدة للتعذيب، منها الجسدي والنفسي، مثل الضرب المبرح والجلد والشبح وغيرها من الأساليب القاسية، وعلى الصعيد النفسي فالعزل الانفرادي والحرمان من الزيارة ومنع استخدام وسائل التواصل مع الخارج وأشياء كثيرة، لكنّي في هذا الكتاب سألقي الضوء على وسيلة تُعدّ من الوسائل المحبطة والمدمرة لشخص الأسير، وهذه الوسيلة أشارَ إليها وتكلّم عنها الأسير "راتب حريبات" في كتابه "لماذا لا أرى الأبيض؟"(دوّن فيه قصصًا حقيقيّة لأسرى مرضى في سجون الاحتلال، 93 صفحة، تصميم الغلاف: رامي قبج، المونتاج الفني: دار البيرق العربي، إصدار دار الأمين للنشر والتوزيع).

حرصت بعض الدول الأوروبية على طلاء الزنازين باللون الوردي لتهدئة أعصاب السجناء، أما الاحتلال الإسرائيلي فقد حرص كلّ الحرص على تدمير أعصاب الأسرى بشتى الوسائل من ضمنها اختيار الألوان القاتمة والمعتمة كالبني والأزرق الداكن، كذلك الإنارة خافتة جداً، كما تم فرض اللون البرتقالي لتحويل الأسير المناضل إلى مجرم وإرهابي حسب التصوّر العام لمن يرتدي هذا اللون من السجناء، ولم يكن فرض اللون وحدهُ وسيلة التعذيب إنما تكرار اللون بحدّ ذاته لعشرات السنوات والمؤبدات وعدم السماح بتغييره هو عقوبة أخرى.

تكرار اللون بتلك الصورة حتى لو كان لوناَ محبباً للأسير سيخلق حالة من فقدان التوازن النفسي مع الزمن والأشياء في محيطه، حتماً سيصاب بالاكتئاب والعزلة والعصبية وسيؤدي كلّ ذلك إلى مشاكل تطال صحتهُ وجسدهُ خاصة وأن أغلب الأمراض ما هي إلا نتاج نفسي قبل كلّ شيء.

ولا أريد اعتبار الاحتلال كائناَ ذكياً، بل سأعتبرهُ دارس جيّد للانتهاكات التي يرتكبها بحق أبناء شعبنا ومدرك تماماً لما يفعل لمحاربتهم بشتى الوسائل، فمنعهم من ارتداء الألوان المفضلة ما هو إلا قمع من نوع تدميري، كذلك فرض الألوان القاتمة سيزيد من حدّية الأسر والزنزانة ولن يلطّف تلك المساحة الضيقة المكتظة بالرطوبة وأصوات المتعبين والمصابين.

في كتابه " لماذا لا أرى الأبيض؟" للأسير راتب حريبات، يقصّ علينا حكايات لأكثر من أسير ما بين أسرى أشبال وأطفال وشبّان وغير ذلك، ولن أقول إنه في هذا الكتاب فضحَ أفعال الاحتلال التي لا تنفي عنهُ بشريتهُ وقام بتعريتهِ تماماً حتى باتَ مكشوفاً بصورة لا نستطيع خلالها أن نتصور احتلالاً رحيماً، بل أكثر قسوة مما يتصوره أو يتخيّلهُ عقل.

نقلنا حريبات من معاناة الأسرى داخل الزنزانة وصولاً إلى المستشفى التي يتم نقل الأسير المصاب إليها لتلقي العلاج، فيرسل لنا صورة واضحة وجلية عن المسلخ كما أسماهُ فلا يجوز أبداً أن نسمي ما عرضهُ علينا من صورة مشوهة للمشفى قد يعين المصاب على البقاء بل حقاً هو مسلخ بل أكثر من ذلك، فمن الاهمال الطبي والتأخر في إسعاف المحتاج للعلاج ما استدعى إلى بتر قدم إحدى الأسرى بسبب عدم تلقيه العلاج في حينه لقدمه المصابة بستِة وثلاثين رصاصة إلى الأخطاء الطبية المتعمدة إلى عدم إخبار أسير بإصابته بسرطان المعدة وإعطائه المسكنات فقط دون العلاج لينهش جسده ويستشهد أخيراً بعد رحلة عذاب طويلة، إلى الطعام الذي يطهى في الخارج مما يجعلهُ ملاذاً للميكروبات والحشرات، إلى معاملة الأسير المقعد والمصاب بأشد الأمراض خطورة والأسير الطفل والأسير الكهل والأسير على شفا الموت كلّ على حدّ سواء دون رأفة أو رحمة أو منحه أدنى درجات العطف. كيف لا والطبيب ينظر إلى الأسير المريض أنه مخرب وإرهابي لذلك يتم تكبيله في سريره من قدميه ويديه ومنعه من الحركة بغضّ النظر عن وضعه الصحي.

يدخل الطبيب والممرض إلى المسلخ يرتديان الزيّ العسكري، مما يحدث علاقة غير آمنة بين الطبيب ومريضه، علاقة سجّان وسجينه، علاقة قاتل وضحية، مما يجعل الإحباط والخوف يتمركزان في قلب الأسير المصاب ما يزيد من حدّة ألمهِ.
فاللون الأبيض الذي يرتديه الطبيب عادةً ما يخلق حالة من السلام في قلب المريض، حالة من السكون والراحة والطمأنينة والاستسلام ليد أمينة ونفسٍ أخذت على عاتقها بقسمٍ غليظ تأدية الأمانة والحفاظ على سلامة الأرواح المؤتمنة عليها. لكنّ الاحتلال الذي أيقن مسبقاً أهمية البياض في رداء الطبيب ليتخذ من الرداء العسكري زياً للطبيب ما هو إلا وسيلة أخرى لقمع الأسير داخلياً وتحطيمه في أشد أوقاته حاجة للراحة النفسية والطمأنينة.

عرض حريبات في كتابه حالات مؤلمة جداً لمجموعة من أسرانا البواسل، من موقعه الذي تطوع للعناية بالأسرى المصابين وخدمتهم ولا أدري كيف احتمل كلّ تلك الأوجاع فوق وجعه. لكنهُ لم ينسَ أبداً في خضمّ أوجاعهم أن يظهر بسالتهم وهدفهم السامي لكلّ تلك التضحية والوجع، فمن الطفل إلى الشيخ اجتمعوا على حب فلسطين والتضحية من أجلها، وأن العيش دون كرامة لا معنى له، وأن الاحتلال لا بدّ سيزول مهما طالت العتمة. ورغم أنّ ما ذكر في الكتاب يفوق احتمالنا كبشر، خاصة وأننا نقرأ لا نعيش تلك الحالة، لكننا حتما سنشعر بالفخر بأبناء الوطن الذين رغم إحباطات العدو لهم وتعذيبه المستمر هم يرابطون ويصمدون، بل هم أساطير عملاقة وخالدة أمام كائن قزم ومحتل سيزول يوماً ما. وتبقى فلسطين حرة بأبنائها البواسل سواء كانوا أسرى أو شهداء أو مرابطين على حبها ولاجئين في كلّ أصقاع الأرض نكدحُ باسمها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى