الثلاثاء ٢٢ آب (أغسطس) ٢٠٢٣
بقلم صفاء أبو خضرة

قد تصبحُ الكتابةُ لغماً أيضا...

منذُ قراءتي الأولى لرواية "معبد الغريب" للأسير رائد الشافعي (351 صفحة، لوحة الغلاف: الفنان علاء أبو سيف، تصميم: "مجد" للتصميم والفنون – حيفا، مراجعة وتحرير: فراس حج محمد، الصادرة عن الرعاة للدراسات والنشر وجسور ثقافية للنشر والتوزيع) بدءاً بالعنوان دخلتُ في مُخيلة بصرية إن جازَ التعبير، وربما التصور الأول لكلمة المعبد نراها المكان الذي يتعبّد فيه المرء ويدخل في حالة هيام مع الإله ليُناجيه وربما ليطلب منه الرحمة والسماح والمغفرة، وربما التودد إليه للاستجابة إلى مطلبٍ ما أو أمنية، نتخيّل مباشرةً مكاناً خافتَ الاضاءة، جدرانهُ من الحجارة القديمة وصورة المسيح المصلوب وسط المكان، وربما في تصوّر آخر جدران مزركشة بآيات قرآنية ويتوسط سقف المكان قبة ملونة بألوان جميلة، لكني عندما تأمّلتُ الكتاب المعنون بــ"معبد الغريب" مع صورة الغلاف كوّنتُ تصوّراً آخر، تصوّراً شخصياً، وعرفتُ كوني روائية ولي من المخيلة ما يجعلني أرى غيمة لها فمٌ وعينين تغمزني بينما من حولي يعتقد بجنوني، فتضحكُ فاغرةً وساخرةً فتتلاشى كأنها لم تكن..

لم يكن مصطلح "معبد" يختلف كثيراً عن مضمون الكتاب، فقد أبدعَ "رائد الشافعي بتسمية الكتاب بهذا الاسم، فغريب بطل الرواية كان يستأنس في معبده والذي اختلفَ تماماً عن تصوّري الأول، فكان معبده شجرة وحجر ونسماتٌ تهبّ عليه من ريح بلاد أحبّها وأدماهُ حبّها.

وعندما اقتحمتُ عالمَ رائد، تصدّر الكتاب صفحاتٍ طويلة بقلم الروائي المعروف" واسيني الأعرج" لذلك طويتُ تلك الصفحات عامدة، وكذلك بتصدير من المحامي حسن عبادي، لأنني أخاف عندما أنوي الكتابة عن هذا العمل أحمل في طيات عقلي الباطني ما ذكراه، ومن ناحية أخرى أردت أن أشكل انطباعي الخاص ورؤيتي وتصوري الشخصي...بعيداً عن انطباعات أخرى.

إنّ من أبرز ما طرحهُ رائد الشافعي في روايته الاعتلال في جسد القيم الوطنية والثورية، تكوّنت لها أعضاء معاقة ومعيقة في آن، أما غريب بطل العمل فقد صوّر شكل الشعب الذي اجتزّت اتفاقية أسلو عشبهُ، وطرحتهُ في وحلٍ وطين يحتاج إلى ثورة وهبة جمعية للتخلص من كلّ ذلك...فغريب الذي اعتقل من قبل الكيان المحتل بسبب نشاطهِ الثوري لأنه من وجهة نظره إرهابي ومخرّب ليعاد اعتقاله بعد ذلك من قبل السلطة الفلسطينية فهذا دليل واضح على تشظي المنظومة الوطنية واختلالها، وكان لغريب من اسمه نصيب، ظلّ تائها بعد انتهاء مدة اعتقاله وغريباً في بلده التي يعيش تحت سقفها ويستظلّ بظلها.

لقد نجحَ رائد بتصوير شخصية غريب لنا كأننا نشاهد شريطاً سينمائياً تتضح فيه الصورة وتتسعُ على أبعادها البعيدة، فـ "غريب" الثوري المكتظ بالخيبات والخوف وبذات الوقت بالاحتجاج والرفض على عنجهية أوسلو وما خلّفته من خراب وفضائح تعثر فيها أبناء جلدتنا وطبطبوا عليها مؤازرين، وظهر ذلك جلياً في حوار غريب مع "أبو حسن".

الرواية بكلّ تفاصيلها بلغتها وشخصياتها، بأحداثها، بوصفها للأمكنة، للشجر، للتراب، ورائحة البلاد ووجوه المتعثرين بحب البلاد، ما هي إلا عصف داخلي في صدر رائد فجّرهُ كلغمٍ أرضي بل كونيّ على لسان غريب.

وما لفتني في معبد الغريب اعتماده على الحوارات مع اختلاف وجهات النظر فكان كثيراً في واحد وهذا يحسب له بجدّ، فابتعد عن السردية المملة وخلق حالة من الأخذ والردّ فكان يجلسنا معه على طاولة الحوار نتبادل أكواب الشاي والحسرة...والنقد اللاذع للواقع الأليم...فكان أسلوبهُ سلساً وقريباً إلى قلب القارئ.

أيضاً، سلط الضوء على نقطة مهمة جداً، وهي حالة الاحباط التي تصيب الأسرى المحررين والذي كان تحررهم بعد إجبارهم التوقيع على تجريم النضال والثورة مما يخلق حالة من العبثية، فأن يقضي أسير بضعة سنوات في السجن ليتم توقيعه ومعاملته أنه مجرم مثل السارق والمحتال، ونزع قدسية النضال والتضحية عنه، تماماً كالذي يؤمن طيلة حياته وعند الغرغرة يكفر...فيذهب كلّ ايمانه هباءً منثوراً...

أما وقد أجاد- وهو الذي عاصر الحزن في السجن-لغة الوجع سواء على لسان غريب وهواجسه أم على لسان الشخصيات الأخرى مثل شخصية "أبو حسن" وهو أب لشهيدين عندما تم التحقيق معه من قبل السلطة كأنهُ مجرم...وكأنه تحسس دمَ أبنائه الذي لا يزال ساخناً...ولم يبرد ولن يبرد طالما هناك احتلال من جانب، ومن جانب آخر تخاذل...وصولاً إلى حديثه عن فلسطين المحتلة عام (48) وتسمية السكان العرب بـ (عرب اسرائيل)، ثمة تنهيدة عميقة وجارحة صرخت من اللغة ونادت باسم الوطن الذي بات غريباً بأبنائه أيضاً، من هنا كان رائد الشافعي جريئاً في رصد التبدلات التي حصلت في المسميات: (الحرية هي حدود بيتك، الوفاء غباء لا حدود له، الكرامة أن تجد لقمة العيش...) وأكثر ما أوجعني جملة (السعادة: التخلي عن الأحلام الكبيرة)..لأنني مثلك يا غريب أحلم بفلسطين وهي حلمي الأكبر فأن نتخلى عن فلسطين ليس غربة، وليس نفياً، إنه موت...بل موت ساحق..

يتخلل الرواية حكايات وأوجاع كثيرة، رواية مكثفة تحتاج لقراءة واعية وتحمل لما تحمل في طياتها من ضغط يقع في النفس جراء الواقع المطروح الواقع القاهر، والمؤلم، فمن أوسلو والسلطة واختلال منظومة النضال وصولا الى مفهوم التعايش وهذا أمر خطير جداً، لكأن دماء الشهداء تسيل لتروي عطش الأرض فقط، ففي شخصية "هلا" وهي نتاج زواج يهودية من فلسطيني لتكون وسط صراع بين أم وأب يجد كلّ منهما أنه صاحب حق، فهل حقاً سيكون هناك تعايش؟ هل حقاً سنسلم بفكرة السلم لمجرد وجود أبناء من الجنسين...؟ وهل يكون الصراع إلا على ما يتم امتلاكه من طرفين متقابلين... فهنا نقف على المحك، على حافة السكين، كيفَ يكون صراع على ما لا يملك الأعداء...أي توازن هذا الذي يحدث على أرضٍ محتلة ومسلوبة وصاحب الحق وحده يقف على الطرف الحادّ من السكين...؟؟

من هنا يضعنا غريب على الحافة الحادة، فأسئلتهُ كبيرة، وسكين الاجابة مغروس في القلب، إن بقيت قتلت، وإن خرجت كذلك...، وثمة أسئلة كثيرة، وقفتُ عندها، وكانت ضمن الحوارات التي أطلق لها العنان: -لقد فجّر نفسهُ ومات...ماذا استفاد؟ على لسان هلا...

 ما هو أقسى، أن ترى ابنها مكسوراً ومهزوماً إن لم يناضل لاستعادة ما فقدنا سنخسر أنفسنا وحينها لن نختلف عمن باعوا القضية وأورثوا كلّ هذا اليأس والاحباط...؟) على لسان الأم...

والحديث يطول، ودرب الألم طويل وشائك...في الختام أقول إن رواية رائد الشافعي، هذه الرواية التي دخلنا فيها مع غريب إلى معبده، نبحث عن ذواتنا أيضاً، أقول شكرا لرائد الشافعي على هذا اللغم كما وصفه الاستاذ حسن عبادي، هذا اللغم الذي عرّى خيباتنا وتلاطُمنا لنعرف، ويعرفون...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى