

أرض الجذور
«1»
كَانَ المَطَرُ يَنْهَمِرُ بِرِقَّةٍ، يَرْسُمُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَلْحَانًا قَدِيمَةً تُغَنِّي لِلزَّيْتُونِ وَالجُذُورِ. فِي كُلِّ قَطْرَةٍ هَمْسَةُ تَجَدُّدٍ وَوَعْدٌ بِصُمُودٍ لَا يَنْكِسِرُ.
رَائِحَةُ التُّرَابِ المُبْتَلِّ تَمْتَزِجُ بِأَصْوَاتِ المَطَرِ، تُحَاكِي قَصَصًا دَفِينَةً تُخَبِّئُهَا الأَرْضُ. كَانَتْ أَشْجَارُ الزَّيْتُونِ تُرَاقِبُ المَشَاهِدَ، تَتَمايلُ بِلُطْفٍ وَثِقَةٍ، وَتُعْلِنُ بِلُغَةٍ صَامِتَةٍ: "لَا نُقْتَلَعُ."
فِي البَعِيدِ، يَنْسَابُ صَوْتُ فَيْرُوز، يُرَافِقُ قَطَرَاتِ المَطَرِ كَأَنَّهُ هَمْسٌ آخَرُ يُحَفِّزُ الجُذُورَ عَلَى التَّجَدُّدِ. تَظَلُّ القَرْيَةُ فِي حَالَةِ هُدُوءٍ مُمْتَزِجٍ بِالرَّهْبَةِ، تَحْمِلُ فِي أَعْمَاقِهَا ذَاكِرَةً تَتَجَذَّرُ كَشَجَرِ الزَّيْتُونِ.
«2»
دَاخِلَ بَيْتٍ حَجَرِيٍّ عَتِيقٍ، كَانَ سَامِرُ يَجْلِسُ وَهُوَ يَنْظُرُ خَلْفَ نَافِذَتِهِ المُشْرَعَةِ. المَطَرُ يَتَسَاقَطُ بِهُدُوءٍ عَلَى أَرْضِ قَرْيَتِهِ، وَمَعَ كُلِّ قَطْرَةٍ كَانَتْ تَتَسَرَّبُ إِلَى خَاطِرِهِ ذِكْرَيَاتٌ مُمْتَزِجَةٌ بِالأَمَلِ وَالتَّوْقِ.
أَمَامَهُ كَامِيرَا قَدِيمَةٌ أَهْدَاهَا لَهُ وَالِدُهُ الرَّاحِلُ، حَافِظَةٌ لِوَعْدٍ قَدِيمٍ. وَكَانَ صَوْتُ وَالِدِهِ، رَغْمَ غِيَابِهِ، يَعُودُ مُشْتَرَكًا مَعَ رَائِحَةِ المَطَرِ وَالأَرْضِ، يَتَكَرَّرُ فِي ذِهْنِهِ:
"الجُذُورُ، يَا بُنَيَّ، لَيْسَتْ فِي التُّرَابِ فَقَطْ؛ هِيَ فِي القَلْبِ. لَا تَدَعْهَا تَمُوتُ."
وَكَانَتْ الكَامِيرَا طَرِيقَتَهُ لِيَحْكِي حَكَايَاتِ الجُذُورِ وَيَنْقُلَ رِسَالَةَ الأَرْضِ. فِي أَيَّامِ دِرَاسَتِهِ فِي المَدِينَةِ، كَانَتْ صُوَرُ القَرْيَةِ وَمَشَاهِدُ الزَّيْتُونِ تَطَارِدُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. بِرُوحِ المُغْتَرِبِ كَانَ يَشْعُرُ أَنَّ صَوْتَ الأَرْضِ يُنَادِيهِ، يُوَصِّيَهُ أَلَّا يَكُونَ مُجَرَّدَ شَاهِدٍ، بَلْ رَاوٍ وَمُدَافِعٌ.
عِنْدَمَا عَادَ إِلَى قَرْيَتِهِ، كَانَ المَطَرُ يَتَسَاقَطُ بِغَزَارَةٍ. قَفَزَتْ كَامِيرَتُهُ إِلَى يَدَيْهِ بِلَا تَرَدُّدٍ، وَهُوَ يَقِفُ أَمَامَ شَجَرَةِ زَيْتُونٍ عَتِيقَةٍ تَتَمَسَّكُ بِالأَرْضِ مَعَ كُلِّ جَذْرٍ. اِلْتَفَتَ نَحْوَ صَوْتِ الأَمْطَارِ وَهَمَسَ:
"هَذِهِ لَحْظَةُ البِدَايَةِ. لَنُخْلِدَ الحَكَايَةَ."
«3»
فِي صَبَاحٍ يَحْمِلُ رُوحَ الرَّمَادِ، كَانَتِ القَرْيَةُ غَارِقَةً فِي هُدُوءٍ مُرْتَعِشٍ. تَتَدَاوَلُ نَسَائِمُ المَطَرِ بِلُطْفٍ بَيْنَ الأَشْجَارِ، كَأَنَّهَا تَطْمَئِنُ التُّرَابَ، وَتَحْفَظُ رَوْحَ الحَيَاةِ المُمْتَزِجَةِ بِالأَصْوَاتِ السَّاكِنَةِ. وَلَكِنَّ كُلَّ شَيْءٍ انْقَلَبَ مَعَ صَوْتِ الخَبَرِ الذِي قَطَعَ السُّكُونَ:
"الجَرَّافَاتُ قَادِمَةٌ لِاقْتِلاعِ الزَّيْتُونِ!"
تَوَقَّفَ الزَّمَنُ وَحُبِسَتْ الأنفاسُ. فِي كُلِّ بَيْتٍ، نَافِذَةٌ تُفْتَحُ بِصَرْخَةٍ، وَشَخْصٌ يَنْطَلِقُ نَحْوَ السَّاحَةِ الرَّئِيسِيَّةِ بِتَعَابِيرٍ تَجْمَعُ مَا بَيْنَ الذَّهُولِ وَالإِصْرَارِ. لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَقْتٌ لِلشَّكِّ؛ كُلُّ خُطُوَةٍ مَحْفُوفَةٌ بِإِرَادَةٍ تُوَاجِهُ الخَوْفَ.
السَّاحَةُ الرَّئِيسِيَّةُ تَحَوَّلَتْ إِلَى مَحْضَنٍ لِرُوحِ المَقَاوَمَةِ. الشَّيْخُ، الذِي يَحْمِلُ ذَاكِرَةً تَمْتَدُّ لِعَقُودٍ مِنَ الصُّمُودِ، تَقَدَّمَ بِخُطُوَاتٍ بَطِيئَةٍ وَحَازِمَةٍ. رَفَعَ عَصَاهُ بِرَمْزٍ قَاطِعٍ، وَنَطَقَ بِكَلِمَاتٍ أَشْبَهَ بِالوَعْدِ:
"لَا جَذْرَ يُقْتَلَعُ مَا دَامَتْ الأَرْضُ تَحْمِلُ مَنْ يَحْمِيهَا."
بَدَأَتْ الحُنَاجِرُ تُحَوِّلُ الكَلِمَاتِ إِلَى هُتَافٍ مَرْفُوعٍ فِي السَّمَاءِ، تَصَدَّرَتْ رِيمٌ الحَشْدَ بِعُيُونٍ تُشِعُّ بِرُوحِ التَّحَدِّي. وَفِي مَزِيجِ المَطَرِ وَالأَصْوَاتِ المُتَّحِدَةِ، بَدَتِ القَرْيَةُ كَأَنَّهَا جَذْرٌ مَزْرُوعٌ فِي التُّرَابِ لَا يَهْتَزُّ.
«4»
فِي وَسَطِ الحُشُودِ، بَرَزَتْ رِيمٌ كَشَجَرَةِ زَيْتُونٍ تَتَحَرَّكُ، تَعْكِسُ صَمُودَ الأَرْضِ بِكُلِّ شَمُوخِهَا. شَعْرُهَا المَبْلُولُ يَنْسَابُ عَلَى كَتِفَيْهَا، يُشْبِهُ غُصُونَ أَشْجَارٍ تَتَحَدَّى الرِّيَاحَ، وَعَيْنَاهَا تُشِعَّانِ بِتَصْمِيمٍ كَأَنَّهُمَا تَنْطِقَانِ بِرِسَالَةٍ لَا تُنْسَى.
تَقَدَّمَتْ بَخُطُوَاتٍ ثَابِتَةٍ، وَتَوَقَّفَتْ فِي وَسَطِ السَّاحَةِ، ثُمَّ رَفَعَتْ يَدَيْهَا بِحِزْمٍ وَنَطَقَتْ بِصَوْتٍ قَوِيٍّ أَحْتَضَنَ صَمْتَ الأَهَالِي:
"لَا تَخَافُوا! الزَّيْتُونُ هُوَ نَحْنُ، لَنْ تُقْطَعَ الجُذُورُ مَادَامَتْ تَتَنَفَّسُ فِي الأَرْضِ وَالقُلُوبِ."
لَمْ تَكُنْ كَلِمَاتُهَا مُجَرَّدَ حُروفٍ؛ بَلْ كَانَتْ صَوْتَ الأَرْضِ تَتَحَدَّثُ مِنْ خِلَالِهَا. فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ، التَفَّ الأَهَالِي حَوْلَهَا كَمَا تلتف الأَغْصَانُ حَوْلَ جِذْعِ الزَّيْتُونِ، يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ وَيُرَدِّدُونَ صَوْتَهَا.
تَحَوَّلَتِ السَّاحَةُ إِلَى مَلْحَمَةٍ مِنَ الأَصْوَاتِ المُتَّحِدَةِ، تُوَجِّهُ رِسَالَتَهَا إِلَى مَنْ قَدِمُوا لِلاِقْتِلاعِ: "لَنْ تُقْتَلَعَ شَجَرَةٌ، لَنْ تُقْتَلَعَ الجُذُورُ!"
«5»
عِنْدَمَا اقْتَرَبَتِ الجَرَّافَاتُ مِنْ أَطْرَافِ القَرْيَةِ، بَدَتْ كَأَنَّهَا وَحُوشٌ مَعْدَنِيَّةٌ تُزَاحِمُ السَّكُونَ بِأَصْوَاتِهَا الثَّقِيلَةِ. كَانَتِ الأَرْضُ تَرْتَجِفُ تَحْتَ وَطْأَةِ الحَدِيدِ، وَفِي ظِلِّ هَذَا المَشْهَدِ المَحْمُومِ، تَقَدَّمَ الأَهَالِي بِخُطُوَاتٍ ثَابِتَةٍ نَحْوَ المُوَاجَهَةِ. وَعَلَى وَجُوهِهِمْ، كَانَتْ تَظْهَرُ تَعَابِيرُ مَمْزُوجَةٌ بَيْنَ الغَضَبِ وَالإِصْرَارِ.
وَسَطَ الجُدْرَانِ البَشَرِيَّةِ، تَقَدَّمَتْ رِيمٌ بِنَفْسِ القُوَّةِ التِي تُعْكِسُهَا الشَّجَرَةُ المُتَجَذِّرَةُ، وَهِيَ تَقِفُ أَمَامَ أَوَّلِ جَرَّافَةٍ. رَفَعَتْ يَدَيْهَا، وَنَطَقَتْ بِصَوْتٍ مُمَتَلِئٍ بِالقُوَّةِ:
"إِذَا كَانَتِ الجَرَّافَاتُ تَرْغَبُ فِي اقْتِلاَعِ الزَّيْتُونِ، فَلْتَسْحَقْنَا أَوَّلًا! نَحْنُ الجُذُورُ، وَمَا دَامَتِ الجُذُورُ حَيَّةً، لَنْ تَمُوتَ."
رِيمٌ لَمْ تَكُنْ تَتَكَلَّمُ بِصَوْتِهَا فَقَطْ؛ كَانَتْ تُحَاوِرُ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ. وَمَعَ صَدَى كَلِمَاتِهَا، بَدَأَتْ الأَهَالِي يُرَدِّدُونَ، مُتَحَدِّينَ الجَرَّافَاتِ بِأَجْسَادِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ:
"لَنْ تُقْتَلَعَ الجُذُور!"
فِي الخَلْفِ، كَانَ سَامِرٌ يُوَثِّقُ كُلَّ لَحْظَةٍ بَعَدَسَتِهِ، مَشْهَدَ الأَرْضِ وَالصُّمُودِ. كَانَ المَطَرُ يُغَطِّي المَشْهَدَ كَأَنَّهُ يُغْسِلُ كُلَّ مَا تُحَاوِلُ الجَرَّافَاتُ تَشْوِيهَهُ، وَمَعَ كُلِّ زَخَّةٍ كَانَتْ الأَرْضُ تَتَجَدَّدُ.
أَصْبَحَتِ الأَصْوَاتُ المُتَّحِدَةُ أَقْوَى مِنْ الحَدِيدِ. لَحْظَةٌ صَمْتٍ، ثُمَّ تَحَرَّكَتِ الجَرَّافَاتُ إِلَى الوَرَاءِ. كَأَنَّ مَعْنَى الجُذُورِ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُ تَحْدِيدَهُ فِي حَرَكَةِ الحَدِيدِ، بَلْ فِي عُمُقِ الإِرَادَةِ.
«6»
تَوَقَّفَتِ الجَرَّافَاتُ فِي أَطْرَافِ القَرْيَةِ كَأَنَّهَا وَحُوشٌ ثَقِيلَةٌ تَتَرَقَّبُ، مَحْمُولَةً بِصَدَى الحَدِيدِ الذِي يَقْطَعُ صَمْتَ الأَرْضِ. الأَمْطَارُ تَسْتَمِرُّ بِعَزْمٍ، تُغَطِّي الطِّينَ الذِي تَحْتَ أَقْدَامِ الأَهَالِي كَأَنَّهُ يُخْبِرُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الحَرْبَ لَمْ تَنْتَهِ بَعْدُ.
وَسَطَ التَّرَقُّبِ، قَدَّمَتْ رِيمٌ خَطْوَاتِهَا. وَجْهُهَا المُبَلَّلُ بِالمَطَرِ يُشْعِرُ كُلَّ مَنْ رَآهَا بِحَقِّهَا فِي التَّرَابِ، وَشَعْرُهَا الذِي يتمايلُ مَعَ الرِّيَاحِ يُشْبِهُ غُصُونَ الزَّيْتُونِ التِي تَرْفُضُ التَّسْلِيمَ.
تَقَدَّمَتْ نَحْوَ أَوَّلِ جَرَّافَةٍ، ثُمَّ رَفَعَتْ يَدَيْهَا كَأَنَّهَا تَقِفُ حَاجِزًا بَيْنَ الأَرْضِ وَمَنْ يُحَاوِلُ اقْتِلاَعَهَا. نَطَقَتْ بِصَوْتٍ مِلْؤُهُ الثِّبَاتُ وَالإِصْرَارُ:
"إِنْ أَرَدْتُمْ قَطْعَ الجُذُورِ، فَاقْتَلُونَا أَوَّلًا! الجُذُورُ فِي التُّرَابِ، وَفِي القُلُوبِ، وَلَنْ تَمُوتَ."
كَانَتْ كَلِمَاتُهَا تُشْبِهُ عَاصِفَةً حَاسِمَةً. بَدَأَتِ الأَهَالِي يُرَدِّدُونَ كَلِمَاتِهَا، يُشَابِكُونَ أَيَادِيَهُمْ كَأَنَّهُمْ جِدَارٌ حَيٌّ. سَامِرٌ، الذِي كَانَ يُرَاقِبُ مَشَاهِدَ المُوَاجَهَةِ، عَرَفَ أَنَّ كُلَّ لَقْطَةٍ يَأْخُذُهَا لَنْ تَكُونَ صُورَةً وَحْدَهَا؛ بَلْ رِسَالَةٌ تُخْرَسُ الحَدِيدَ.
تَرَاجَعَتِ الجَرَّافَاتُ، مَحْمُولَةً بِهَزِيمَةِ رُوحٍ لَمْ تَسْتَطِعْ كَسْرَ جُدْرَانِ القَرْيَةِ. انْسَحَبَ صَدَى المَعْدَنِ، وَتَبَقَّى صَدَى الأَمَلِ يُتَرَجَّمُ فِي المَطَرِ الذِي لَمْ يَنْقَطِعْ.
«7»
بَعْدَ تَرَاجُعِ الجَرَّافَاتِ وَانْتِصَارِ الأَرْضِ، عَادَتِ القَرْيَةُ لِتَتَنَفَّسَ بِهُدُوءٍ جَدِيدٍ يُشْبِهُ وَعْدًا مَحْفُورًا فِي التُّرَابِ وَالجُذُورِ. لَمْ تَكُنْ اللَّحْظَةُ مُجَرَّدَ انْتِصَارٍ مَحَلِّيٍّ، بَلْ كَانَتْ رِسَالَةً تَمْتَدُّ إِلَى أَبْعَدِ الحُدُودِ.
سَامِرٌ، الذِي كَانَ يَحْمِلُ فِي يَدِهِ كَامِيرَتَهُ وَفِي قَلْبِهِ ذِكْرَيَاتِ الأَرْضِ، عَرَفَ أَنَّ المُهِمَّةَ لَمْ تَنْتَهِ. بَدَأَ العَمَلَ عَلَى فِيلْمِهِ الوَثَائِقِيِّ الَّذِي يَنْقُلُ صُوَرَ المُوَاجَهَةِ وَصَمْتَ الأَمْطَارِ إِلَى رُوحِ العَالَمِ. كَانَ كُلُّ مَشْهَدٍ يُوَثِّقُ أَلَمَ المَقَاوَمَةِ وَجَمَالَ الإِصْرَارِ، وَكُلُّ نَظْرَةٍ تُنَادِي بِصَوْتٍ خَفِيٍّ: "نَحْنُ الجُذُورُ."
عِنْدَمَا عُرِضَ الفِيلْمُ فِي مِهْرَجَانٍ عَالَمِيٍّ، تَدَافَعَ الجُمْهُورُ لِيَشَاهِدَ قِصَّةَ القَرْيَةِ التِي وَاجَهَتِ الحَدِيدَ بِصَمُودِهَا. عِنْدَمَا ظَهَرَتْ صُورَةُ رِيمٍ تَقِفُ أَمَامَ الجَرَّافَاتِ بِعَيْنَيْهَا الثَّابِتَتَيْنِ وَيَدَيْهَا المَرْفُوعَتَيْنِ، عَمَّ الصَّمْتُ. لَمْ يَكُنْ تَصْفِيقًا فَقَطْ، بَلْ احْتِرَامًا لِكُلِّ شَجَرَةٍ تَشَبَّثَتْ بِالأَرْضِ.
وَقَفَ سَامِرٌ عَلَى المَسْرَحِ لِيَتَسَلَّمَ جَائِزَتَهُ، وَقَالَ:
"هَذِهِ الحِكَايَةُ لَيْسَتْ قِصَّتِي وَحْدِي. بَلْ هِيَ قِصَّةُ كُلِّ أَرْضٍ تُقَاوِمُ مِنْ أَجْلِ البَقَاءِ، وَكُلِّ جُذْرٍ يُدَافِعُ عَنْ نَفْسِهِ فِي وَجْهِ النِّسْيَانِ."
عَادَ سَامِرٌ إِلَى قَرْيَتِهِ وَقَفَ أَمَامَ شَجَرَةِ زَيْتُونٍ لَمْ تَسْقُطْ. رَفَعَ كَامِيرَتَهُ ثُمَّ أَغْلَقَهَا، وَقَالَ بِهَدُوءٍ:
"حِينَ تُسْقَى الجُذُورُ بِالصُّمُودِ، تُصْبِحُ أَقْوَى مِنْ أَيِّ مُحَاوَلَةٍ لِلاِقْتِلاعِ."
هَكَذَا، أَصْبَحَتْ قِصَّةُ القَرْيَةِ لَيْسَتْ ذِكْرَى صَامِتَةً، بَلْ أُغْنِيَةً تُلْهِمُ الأَرْضَ بِرُوحِ الصَّمْدِ وَالأَمَلِ، وَتُعْلِنُ أَنَّ الجُذُورَ تَبْقَى مَتَجَذِّرَةً إِلَى الأَبَدِ.