

أغيثوا غزة
لم يعد يكترث بما يجب عليه من عادات الناس وبما لا بد منه في مناسباتهم؛ بل إنه ليعتب في - قرارة نفسه - على هؤلاء الذين يحتفلون لأي مناسبة سارة، ويعجب من أولئك الثكلى الذين قتلهم النواح وهم يودعون - بأنفسهم - فقيدا لهم قد تركوه مطمئنا في قبره! وقد يوسوس له شيطانه عن جدوى صلاته ودعواته والحرب الجائرة تحصد أرواح أهله في غزة!.. ما يغير مزاجه -فقط- أن يسمع خطابا لأبي عبيدة، أو يرى مشاهد المقاومة وهي تثأر من العدو وعتاده، أو يسمع تلك الشتائم الطفولية من ابنته الصغرى (جهاد) ذات السنوات الثلاث كلما رأت على شاشة التلفزيون أحدا من قادة العدو ممن أُرضعت كراهيتهم، إنه لاشك يحب (جهاد) وأختها الكبرى (سلمى)، لكن -ومنذ الحرب- قد صار حبه لهما ممزوجا بكثير من الخوف والقلق، فكلما رأى مشاهد الحرب المروعة التي تذبّح فيها الطفولة البريئة ازداد حنينه لصغيرتيه وقام إليهما يضمهما إلى صدره وهو يرتعد من الخوف عليهما، إنه يرى (جهاد) و (سلمى) صغيرتيه في مشاهد البؤس والجوع والخوف والشتات، فضلا عن تلك اللفائف البيضاء التي تحتضن كل يوم عشرات من الأجساد النحيلة وقد تراصت صفوفا لا يفرق بينها إلا ما تحمله كل لفافة من اسم صاحبها الشهيد!
إنه لم ينسَ (روح الروح) ولا (يوسف)"الأبيضاني"الحلو ذا الشعر"الكيرلي"، ولا (هند) الصغيرة التي ما أجدت لها استغاثاتها وهي محاصرة في سيارة ليس فيها إلا أشلاء أهلها، وغيرها من مئات القصص الحزينة لإخوة وأخوات (جهاد) و(سلمى)..
كان حلمه أن يأتي اليوم الذي يتحول فيه عن مسكنه الإيجار إلى شقة تمليك مهما كانت صغيرة عساه يستريح من عبء الإيجار الذي يزاحمه قوت أولاده، وإن كان حلمه هذا - فيما يعتقد - يشبه المستحيل، فهو يكابد طوال الشهر ليسدد إيجار الشقة وبالكاد يقضي حاجات بيته الرئيسة، وليس له من فضول العيش ما يلبي كل رغبات أسرته وبخاصة مع حالة الغلاء المتصاعدة في كل شيء!.
يبتسم ابتسامة المتعجب من حاله وهو يفكر في أمر الشقة! فيحدِّث نفسه أنّ الأَولى به أنْ يفكر كيف يشتري - أولا- هاتفا حديثا ببضعة آلاف لا شقة بمئات الآلاف! فما أبعد ما يحلم به!.. لكن ومع ذلك كيف سيشتري هذا الهاتف وهو إلى الفقراء أقرب ؛ أوليس المعنيون بقياس نسبة الفقراء قد عدُّوه وأمثاله تحت خط الفقر!
إنه ومنذ عطب الهاتف الذكي الذي اشتراه لزوجته هدية لها قبل زواجهما معزول تماما عن ذلكم العالم الموازي، إن هاتفه ذاك كان من تلك الأنواع الحديثة التي سمحت له ولزوجته أنْ يتبادلاه ليتابع كلٌّ منهماحساباته عبر وسائل التواصل الالكترونية، وكان من خلاله يواكب ما يجري في ذلكم العالم الصاخب الذي لا يحرمه من تفاصيل الأخبار في صورتها الكلية، والفرق شاسع بين مايعرضه التلفزيون وبين ما تضج به مواقع الأخبار ووسائل التواصل الالكترونية..
ومنذ مايزيد على السنتين ليس معه إلا ذلك الهاتف التقليدي القديم الذي طالما يكابر في التغني بحبه له وتفضيله إياه عن غيره من الهواتف الحديثة التي شغلت الناس- كما يدعي- بامكاناتها المتطورة عن كثير من الخير، ولا يفتأ يردد مقولات الذين يغالبون الزمان في تفضيل كلّ قديم! ولذلك لم تفلح معه كلُّ محاولات أصدقائه وزملائه الذين يلحّون عليه أن ينشِّط حساباته الإلكترونية التي يعرفونها له، لأنهم يفتقدونه بينهم كما يفتقد هو كثيرا من الأحداث والأخبار المهمة..
إنه يعرف أنّه يقول ما ليس في قلبه، وأنه يستغني استغناء من لاحيلة له، وإلا فما أسعده وأسرته بذلكم الهاتف؛ بل إن سعادة صغيرتيه أشد فما أكثر ما آلمه تعلقهما بهواتف من يزورونهم من أقاربهم ممن يسمحون لهم باللهو بها ما يحقق لهما من المتعة والسعادة مقدار مايشعر هو من العجز والضيق!
لقد شغلته غزة عن كلّ شيء فصار أغلب وقته الذي يقضيه في البيت أمام شاشة التلفزيون لا يترك متابعة الأخبار عن غزة في قناة إلا إلى أختها من القنوات المعنية بمتابعة الأحداث هناك، أو أن ينتقل من القناة انتقالا اضطراريا حتى لا يعرض مشاهدها القاسية على صغيرتيه.. وربما تركهما قليلا مع قناة مع قنوات الأطفال، لكن سرعان ما يستحوذ على ريموت التلفزيون فيعود إلى أخبار غزة، وقد أكسبته هذه المتابعة الدؤوبة ثقافة سياسية مرضية وفهما موضوعيا عن الأحداث، وباتت جغرافية غزة بمدنها وأحيائها وشوارعها ومساجدها ومشافيهاا ومدارسها حتى أسماء العائلات والقادة وفصائل المقاومة كلها حاضرة في عقله ووجدانه، وصار معنيا بالحديث عن غزة بين زملائه وأهله، ولشدة ما بلغت به المأساة في غزة ودّ لو انقطع عن عمله هذا الذي يبتلع حياته التي لم يعد لها قيمة في نظره، وقد صيرته لقمة العيش آلة تبدأ في حركة روتينية مع الصباح وتتوقف وليس في النهار إلا مايسعه للعودة إلى بيته!
إن واجب الوقت - فيما يرى - أن ينشغل الناس بغزة، أن ينصروها، ويؤازروها، أن يكفوا عنها هذه العصابات المتآمرة التي ليس فيها من الآدمية ذرة،أن يردوا عنها هذه الحملة المسعورة،
أن يوقفوا شلالت الدماء التي أغرقت الأخضر واليابس! فماذا بعد أن تأكل الكلاب أشلاء الأبرياء المبعثرة في الشوارع! ماذا بعد أن يقتل الجائع وفي يده فتات طعام عثر عليه بعد لأي وما أكله،! ماذا بعد أن تحرق المشافي على من فيها من المرضى العاجزين! إن مرارة القهر سكينها مغروسة في فؤاده لا تفارقه، وأنفاسه يحس فيها سخونة الهواء المغلي في صدره، وروحه أسيرة في سرداب مظلم! والسماء قد استحال لونها داكنا كئيبا، والأشجار والزروع كائنات بلاستيكية ليس فيها بهاؤها المعهود، والناس لم يعودوا هم الناس!.. في غزة - فقط- من يستحق الحياة، يكفي أولئك الصامدون من الشيوخ الذين أبوا إلا أن يضعوا معالم الطريق الشريف، وأولئك الأمهات اللاتي أبقين ذكر الخالدات من الرعيل الأول فليت الخنساء سمعت بصبرهن، وأولئك النساء العفيفات وهل في غزة غير العفاف؟ وهل سمعتم أحدا يتحدث عن نساء غزة بسوء حتى ولو كان من خصومهن؟!.. أبدا.. هكذا يجيب عن سؤاله..وقد تقزمت نفسه أمام نضال هؤلاء المستضعفين.
استيقظ ليوم جديد، وسردت عليه زوجته حاجات البيت ومقتضيات المعيشة الملحة، أومأ لها بالسمع والطاعة، وقد تزاحمت الهموم عليه.. إنه يخجل أن يعلن عجزه وما أعلنه الأبطال في القطاع الشريف!
ركب سيارة تقله إلى عمله، عادة السائقين أن يستفتحوا يومهم بالقرآن الكريم إما استبراكا واما استجلابا للرزق، يستوي في هذه العاده الصالح والطالح منهم.. مضت الآيات تخترق عليه عالمه، القارئ يتلو عبر أثير إذاعة القرآن المصرية من سورة التوبة-كما أُعلن- حتى وصل إلى قوله تعالى (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) أخذته الآية إلى معانيها الحكيمة وقد ملكت عليه لبه، فلماذا لا يؤازر إخوته المكروبين بجهده؟ إذا كان لايملك المال فإنه له متسع فيما يملك من الجهد.. وصل إلى محل عمله حدث زملائه عن قيمة التكافل وعن ضرورة إغاثة الأهل المنكوبين في غزة بما يستطيعون، وأنه سيتولى جمع ما يجودون به، ولما عاد من العمل تابع الحديث مع أصدقائه ومعارفه من غير زملائه يستحثهم على البذل، وأن ما ينفقونه هو أقل ما يمكن أن يقدمه المسلم لإخوته وقد جمعتهم روابط الدين والعروبة والجيرة ما يقتضي معه أن يكونوا كالجسد الواحد. لاشك أنهم جميعا واثقون فيه مطمئنون أنه سيبلغ بتبرعاتهم إلى غايتها المرادة، وهو جدير بهذه المهمة الجليلة.. لقد طفق الناس يهبونه من أموالهم بعد أن وهبوه ثقتهم، وظل هو وفيا لمهمته التي خففت عنه بعض أوجاعه عندما كان يشهد المأسأة ولا حول له ولاجدوى.. تدفقت الأموال إليه حتى وصلت بضعة آلآف من الجنيهات.. تأخر يوما عن ميعاده المعتاد الذي يصل فيه إلى بيته فقد عرج على مكان يود لو زاره منذ سنتين أو أكثر، عاد إلى البيت وفي يده شنطة من البلاستيك تحمل جهازا مطورا من الهواتف الذكية.. سرت زوجته وبنتاه بالوافد المنتظر.. وقال في نفسه لعله من خلاله يقترب أكثر من واقع المأساة ويتوسع في نشر الأخبار عنها وفي الدعوة إلى نصرة أهله هناك.. لم يكد الزمان يتجاوز ساعة من عمره حتى كان الناس على موعد مع صفحة صديقهم قد نشطت من رقادها ليقرأوا جميعا منشوره الأول"غزة تباد.. أغيثوا غزة"!