الاثنين ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥
بقلم الشيماء عاطف عبد المولى اسماعيل

أمى لكنه حكيم..متعلم لكنه لا يفهم!

في زمنٍ صار فيه التعليم مظهرًا يُتفاخر به، لا وسيلةً للارتقاء بالروح والفكر، أصبح من المألوف أن ترى أميًّا يملك بصيرةً نافذةً وحكمةً فطرية، تقوده إلى الصواب في مواقف الحياة، بينما يقف إلى جواره متعلّمٌ مُثقّل بالشهادات، عاجزٌ عن فهم ذاته أو الناس من حوله. وهنا تتجلّى المفارقة المؤلمة: فليس كل من قرأ كتابًا فهِم الحياة، ولا كل من لم يقرأ جَهِلها.

فقد اصبحنا في زمنٍ ازدادت فيه الجامعات، وتضاعفت فيه الشهادات، ضاعت الحقيقة الكبرى بين الألقاب والمظاهر، وغاب عن كثيرين أن الإنسان لا يُقاس بما يحفظه من معلومات، بل بما يترجمه من سلوكٍ ووعيٍ وقيم. فكم من حامل شهادة عليا لا يحسن أدب الحوار، وكم من بسيطٍ في التعليم، يسبق بخُلقه ووعيه أصحاب الألقاب العليا.

لقد صار التعليم عند البعض وسيلة تفاخر اجتماعي لا وسيلة إصلاح وبناء، فغابت الغاية الأصلية من العلم وهي تهذيب النفس والعقل معًا. إن من يظن أن الجامعة تصنع إنسانًا صالحًا لمجرّد أنها تُخرّج حملة شهادات، كمن يظن أن الكتاب يجعل القارئ حكيمًا دون أن يُعمل فكره فيه. فالعلم لا يسكن العقول فقط، بل يسكن الضمير فالعلم لا يصنع انساناً راقياً، لكنه يُجمّل إنسانيتة ان كانت موجودة بالفعل

لقد خلق الله الإنسان مزوّدًا بعقلٍ فطريٍّ وضميرٍ نقيٍّ قادرٍ على إدراك الخير دون معلم، ولكن هذا العقل يحتاج إلى من يغذّيه بالقيم والرحمة،لا بالمعلومات فقط.

قال تعالى في كتابه العزيز: "وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا" البقرة (31)فكانت أول نعمةٍ من الله على الإنسان هي التعليم، لا بالكتب، بل بالفهم والإدراك والقدرة على التمييز. والحكمة في جوهرها ليست علمًا يُلقَّن، بل نورٌ يقذفه الله في القلب، يهدي به صاحبه إلى الحق حتى لو لم يحمل شهادةً واحدة.

فقال الله تعالى في كتابه العزيز:: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ" المجادلة (11)ولم يقل سبحانه “الذين نالوا الشهادات”، بل “أوتوا العلم”، لأن العلم الحقيقي هو وعيٌ يُورِث العمل، لا ورقٌ يُعلَّق على الجدران.

وفي الحديث الشريف قال النبي (ص)": إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق "فجعل الله الأخلاق غاية الرسالة والتعليم، لأن العلم بلا خلقٍ لا يزيد الإنسان إلا غفلةً وغرورًا.ولذلك قال أيضًا: "خيرُ الناس أنفعهم للناس"فالقيمة الحقيقية ليست في الحفظ أو التنظير، بل في أثر الإنسان وسلوكه فيمن حوله.

فالمجتمعات لا ترتقي بعدد الجامعيين، بل بعدد الحكماء فيها. الذي يُصلح بين الناس دون مقابل، والذي يزرع الكلمة الطيبة في قلوبهم، هو المتعلم الحقيقي وإن كان لا يقرأ ولا يكتب. أما الذي يتحدث عن الأخلاق في قاعةٍ فخمة ثم يُهين الآخرين، فهو في الحقيقة جاهل بثوب علم. قال تعالى: (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" (الصف 3 ))

تُقاس قيمة الإنسان بقدر ما يظهر من أفعاله لا من أقواله. فقد ترى رجلًا بسيطًا، أميًّا، لكنه يوقّر الكبير، ويرحم الصغير، ويؤدي الأمانة بإخلاص، فتشعر أن الله علّمه ما لم تُعلّمه الكتب. وقد ترى آخرَ حاصلًا على أعلى الدرجات، لكنه يسيء الظن، ويتعالى على الناس، فينقص من قدر نفسه وإن ظنّ أنه ارتفع.

الحكمة إذًا ليست حكرًا على المتعلمين، بل هي ثمرة الإيمان والتجربة والتواضع. قال النبي ﷺ: "الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها." أي أن المؤمن يبحث عنها في كل مكان، عند العالم وعند الأمي، عند الغني والفقير،لأنها لا تقاس بالعلم الدنيوى، بل بالقلب الذي يطلب الحق .وفي الحقيقة، كم من أمّيٍّ علّم من حوله الصبر والكرامة والرضا، وكم من متعلمٍ نشر الكبر والجدال والغرور إن الحكمة لا تحتاج قاعة محاضرات، بل قلبًا نقيًا وتجربةً صادقة. فربّ دروس الحياة أعمق من أي منهج، وربّ عابرٍ بسيطٍ مرّ بكلمةٍ، ترك فيك أثرًا لم يتركه أستاذٌ في أعوام.

في النهاية، إن الأميّ الحكيم قد لا يملك قلمًا، لكنه يملك ضميرًا؛ والمتعلم الذي لا يفهم قد يحفظ كل شيء، إلا جوهر الإنسان. فالعبرة ليست بما تعلّمت، بل بما صرت عليه بعد أن تعلّمت. إنها معادلة الوعي التي لا تُكتب في الشهادات، بل تُقرأ في القلوب. لقد آن لنا أن نعيد تعريف المتعلم؛ فالمتعلم الحقيقي هو من يملك تواضع السؤال، لا غرور الإجابة. هو من يرى في علمه وسيلة لخدمة الناس، لا سلاحًا لاحتقارهم. هو الذي يربط بين فكره وقلبه، بين معرفته وسلوكه، بين علمه وإيمانه.

أمّيٌّ لكنه حكيم... ومتعلمٌ لم يتعلّم بعد" عنوانٌ لكل زمنٍ نحتاج فيه إلى أن نراجع أنفسنا: هل علمنا زادنا نورًا ام لا؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى