الخميس ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم وئام عصام ربيع

أنفاس لا تعرف الهوى

شددتُها كالعادة ولا جديد؛ مكبلة بالقيد لا تتحرر، حتى ترك القيد حفره عليها، واستوطنها، لكن لم تألفه يدي.

الجفن أثقل من جبل على وجهي، تحاول عيني التعرف على العالم خلاله في لحظات خاطفة من الرؤية، حلقي صحراء محتلة مُنع عنها المطر، ومعدتي خاوية من دبيب الأكل، لساني يدور في أرجاء فمي الجاف مصطدمًا بموضع أسناني الأمامية المكسورة بفعل ضربهم بالعصيّ، حين أجبروني على الركوع تحت أشعة الشمس الحارقة، وواصلوا شتمي وضربي وأنا مكبل اليدين، ثم ضغطوا على عنقي بأصابعهم المستعمرة لمجرى الهواء في حلقي، وأحاطوا وجهي بكيس ليلهم المعتم، الذي جعل أنفاسي تضيق على وجهي، وزاد من ضيقها حبسي في زنزانة تحت الأرض، لا يزورها الهواء إلا شحيحًا، مع عدد كبير من الأسرى.

أتحسس جسدي بكفٍ يمر على ندبات جروحي وآثار الحروق الشاهدة على ما كان منهم، أسبح في عرقي بأنفاس هرمة بلا وصول لمرفأ، أزمات الربو تعاودني بشراسة من فرط استنشاقي للغازات المسيلة للدموع، وزاد على ذلك إجبارهم إياي على الاستحمام بالماء البارد الذي يزرع الشوك في جسدي، مع مماطلة متعمدة كي لا يصل إليّ الطبيب المتخصص لعلاجي، ولا وجود لدواء، أو مُنع عني.

رموني للاستجواب من جديد، الغرفة نفسها، محكمة الغلق، لا هرب ولا مرور، جدارها الرابع هو الزجاج الكاشف لمرورها خلفه، توقفت لتظهر جلية أمام الميكروفون. هي من ستقوم بالاستجواب هذه المرة، تسألني عن اسمي وسني وهويتي، وهي أعلم بي مني؛ أجيب بلا اكتراث لأنتهي من كل هذا.

محاولات متكررة لمعرفة تفاصيل أكثر عن رفاقي ومن يشتبهون فيهم ويخافون منهم لتهديد أمنهم، كما يدّعون. ولو تأكدوا أن جميع البشر على هذه الأرض لا يمثلون خطرًا عليهم لقبضوا على الحجارة يستجوبونها شكًا فيها لرفضها لوجودهم.
قربت وجهها من الزجاج أكثر، لا أنكر عند رؤيتي لها تحرك شيء في قلبي؛ فربما لم أشف بعد. نظرت إليّ بنظرات يخالطها مشاعر جمّة، لم أستطع تفسيرها وفك شفرتها، لكن سحرها وقع في قلبي، ولم يمنع مروره الزجاج الحاجز بيننا.

السحر ذاته الذي أسرني عندما تقابلنا أول مرة، كانت ترقص على الشاطئ، وقعت في قلبي خطواتها أشد من وقعها على ساحة الرقص، أنفاسها الراقصة كأنها تلهم أنفاسي الهواء، النظرات ذاتها سُددت نحوي، لم أكن أعرف هويتها ولا عملها، ولا أدري أكان لقاؤنا صدفة أم خطة مرتبة.

كنتُ أُسحب نحوها بسلسلة حديدية لا يراها أحد غيرها، مع ذلك لم تستطع الإيقاع بي قبل اكتشافي لها، لكنها أوقعت جزءًا من قلبي لم يعد لمكانه بعد.

وحين سُجنتُ كانت في استقبالي؛ تستجوب بالعنف تارة، وبالسياسة تارة، تقهر مرة، وتحن مرة، تضرب أحيانًا وترق بعدها.
متقلبة كباقي النساء، أو كباقي أفراد قبيلتها.

 ألم تملّ من الإنكار؟
 أنا لا أملّ ولا أستسلم.
 أما زالتَ مؤمنًا بتلك الأفكار؟
 كإيمانكم بما تؤمنون به.
 إيمانك هذا رماك في بئر الجوع والعطش، فلم يعد لك حق سوى النوم في زنزانتك.
 يكفيني أني أملك زنزانتي.
 أنت لا تملكها؛ فقط نسمح لك بالمكوث فيها، وبإمكاننا ألا نجعلك تذوق طعم النوم، لكن بإمكانك أن تجعل لك شريكًا فيها إن شئتَ.

أشحتُ بوجهي عندما قدمت عرضها بمشاركتي الزنزانة؛ فازداد حنقها وغضبها عليّ، وأسرت صعقة الكهرباء عبر القيد في يدي فانتفضتُ عن الأرض.

 أرأيتَ؟ إنك أحيانًا تنتفض عن الأرض وتتخلى عنها.
 أنا لا أتخلى؛ أنتم من تسحبونني منها وتتعمدون...
لم أستطع أن أكمل الجملة؛ فقد عاودتني الأزمة، فأُغرقتُ في موج من السعال كبّ وجهي على الأرض؛ فخرج الدم من فمي وسال عليها.

 الأرض التي تخشى عليها لا تعطيك شيئًا، بل تشرب دماءك.
 ولتأخذ جسدي كله إن أرادت؛ فهو منها وإليها.
 لقد فعلتْ شيئًا مشابهًا؛ فقد محونا اسمك وهويتك من السجلات، كأنك لم تكن، وصار خروجك من هنا مستحيلًا، فلم يعد لك وجود لتخرج إليه.
عادت لتطلق سهام نظراتها، سهامًا أعرف هدفها وإغراءها؛ فذلك سلاحها حين لا تستطيع فتح صندوق أسراري.
 أستطيع استغلال الوضع لأنقذك من كل هذا، إن تصالحتَ معنا. وتبدأ معي حياة أخرى، باسم مختلف وهوية جديدة، ألا ترى أن قصتنا تستحق أن تكتمل؟

 سأطرح عليكِ سؤالك الأول، ألم تملي؟

انقلبت نظراتها للنظرات التي يألفها وجهها جيدًا، وقالت في غضب:-

 لمَ كل هذا؟ ألا يتسع العالم لكلينا حتى تجعله يضيق بقصتنا؟
 تطرحين دومًا عليّ أسئلة لا تطرحينها على نفسك أولًا، هل ضاق العالم بنا ليستمر صراعنا، هل ضاقت الأرض عليكم؟
 اعتقدتُ أنك تحبني..
قالتها بدمعة كاذبة في عينها اليسرى؛ فعدلتُ بوجهي ناحية اليمين أحدّث قلبي بألا يستسلم ويتحصن بالأرض من تحته حتى لا يسقط في بئر هواها؛ لعله يُشفى منها.
أطلقت الكهرباء في قيدي مرة أخرى لينتفض جسدي عن الأرض وتقطع اتصال قلبي بها، كأنها سمعت إسراري معه.

بغضب فرعون قالت:-

 لن تخرج من هنا حتى تموت، وإن متَ فلن تُدفن في تلك الأرض، وسأرمي بجثتك للكلاب، فلا يكون لك قبر، ويضيع جسدك ووجودك كما ضاع اسمك وهويتك.
 لا أحتاج قبرًا أو سجلات لأثبت وجودي وهويتي؛ فكل شيء يشهد بوجودي، وإن ملكتِ الأرض والجدران، فسيشهد الهواء.
 كلهم ملكي وسينكرون وجودك، حتى الهواء سيتخلى عنك.
حاولتُ استيعاب جملتها، لكنها كانت أسرع، فضغطت على الزر وعادت للوراء واضعة ذراعًا فوق الأخرى.
بالتدريج شعرتُ بالاختناق وتسارعت أنفاسي تلتمس الهواء، أحتمي بالأرض بصراخ مكتوم، دوار برأسي كاد يمزقها، وانعدام تدريجي للرؤية، وانتظار للموت.
شمّت أنفي رائحة منبعثة من الأرض، كان غريبًا أن تشم أنفي ولا تتنفس، وفي انهيار قواي سرت الرائحة بي كسريان الدم في الوريد؛ تدريجيًا فتحتُ عينيّ وهدأ الدوار برأسي وعادت أنفاسي مستقرة، وتنفستُ هواءً نقيًا لم أعرفه منذ سجني.
توقعتُ أنها فشلت بتخويفي بمنع الهواء عني؛ فرمتني من حافة الموت ثم التقطتني قبل سقوطي في السفح، وقلتُ ستبدأ لعبة جديدة باستغلال مشاعري نحوها، فوقفتُ أمامها بأنفاسي الراسخة من جديد.
لكن عندما نظرتُ ناحية الزجاج، وجدتُ علامات الجنون على وجهها، تضرب الأزرار أمامها وعيناها غير مصدّقتين، فعلى عكس ما توقعتُ كانت تعيش حالة من الرعب والجنون لا من الرقة المصطنعة.

لم أستوعب جنونها في البداية حتى قالت:-

 من أين لك بالهواء؟! أنا لم أطلق الهواء في الغرفة.
تحسستُ جسدي بعد كلامها فربما أكون ميتًا، لكني أتنفس.
تركت مكانها خلف الزجاج وجرت ودخلت عليّ الغرفة، الذي أُقفل بابها خلفها دون أن تشعر، ضربتني بالعصا فأسقطتني أرضًا، ثم شدتني نحو جسدها في لحظة ضعف لكلينا، قربت وجهها لوجهي لتتلاقى أنفاسنا، لكني أزحتُها برجلي دون أن أفكر، فعادت وأخرجت سكينًا وطعنتني في كتفي؛ فأطلقتُ صراخي، ثم رفعت السكين لتطعنني ثانية، لكن تلاحقت أنفاسها تلهث خلف الهواء الذي خلت منه الغرفة. رفعت ذراعها بالسكين مرتعشة في اللحظة التي اقتحموا فيها الغرفة وأزالوها عني وأخرجوها وخرجوا قبل أن يختنقوا جميعًا.

بأنفاس هادئة طلع عليّ الفجر، ولا تزال الرائحة التي شممتُها من الأرض في أنفي.

لا يقلقني طيفها إن مر من هنا، ولم يعد يؤثر فيّ وقع خطواتها، ولا يهمني إن كان المحيط حولي يملأه الهواء أم لا؛ فقد صرتُ أتنفس من دون هوى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى