أنوثة تتجلّى في مرايا الألم
قراءة تأويلية في بنية مسرحية سالومي الدرامية والرمز
تبدو مسرحية «سالومي» للكاتب رمزي حلمي لوقا عملاً مسرحيًا ينتمي إلى ذلك النمط من الأدب الذي يستحضر الأسطورة ليجعل منها مرآةً تعكس قلق الإنسان وأسئلته الكبرى. فالنص لا يستعيد قصة سالومي كما وردت في التراث الديني أو التاريخي فحسب، بل يعيد إنتاجها من منظورٍ جماليّ وفلسفيّ جديد، تتقاطع فيه الدوافع النفسية بالرموز الوجودية، فيغدو الجسد لغةً للروح، والرقص فعلًا كاشفًا عن جوهر التمرد الإنساني.
يكتب رمزي حلمي لوقا بلغةٍ متقدة، مشحونةٍ بالشعرية والمفارقة. فسالومي لديه ليست مجرد امرأة أسكرتها الرغبة، بل كائنٌ ممزق بين غواية الجمال وسطوة الروح، بين صوت الجسد وصوت الضمير. ومن خلال حركتها بين النور والعتمة، بين الرقص والموت، تتجسد ثنائية الحياة والفناء، وكأن الكاتب أراد أن يجعل من الجمال لعنةً ومن اللذة طريقًا إلى الفناء، لا إلى الخلاص.
يستثمر لوقا البنية المسرحية بذكاءٍ رمزي، فيجعل المشهد ساحة صراعٍ بين الرغبة والقداسة، وبين السلطة الروحية والسياسية. يوحنا المعمدان – الذي يمثل النقاء والإيمان – يقف في مواجهة سالومي التي تمثل الجمال المتمرد، فيتخذ الصراع بينهما بعدًا فلسفيًا، إذ يتحول جسد المرأة إلى ميدانٍ للمعنى، وإلى نصٍّ ثانٍ يتجاوز حدود الكلمة. إنّ لوقا لا يدين سالومي، بل يكشف هشاشتها الإنسانية حين تُساق إلى مصيرها بدافعٍ من الغيرة والانتقام والسلطة الأبوية.
في حوارها الداخلي، نلمح سالومي وهي تتأرجح بين نشوة الخمر وارتعاش الخوف، بين الكبرياء والذنب. تبوح بعريها الجسدي لتخفي عريها الروحي، وتخضع للرقص بوصفه محاولةً للنجاة، لا وسيلةً للغواية. ومن هنا تتخذ الرقصة في النص دلالة رمزية عليا؛ فهي ليست حركة الجسد، بل اضطراب الوجدان، وإعلانٌ عن مأساة الأنثى حين تُختزل في جسدها.
يتميز النص بتعدد طبقاته التعبيرية: اللغة الشاعرة التي تنساب كالموسيقى، والمونولوجات التي تكشف عمق الذات، والمشاهد التي تتقاطع فيها الأصوات كأنها صراع داخل وعيٍ واحد. المسرح هنا لا يقدّم حدثًا فحسب، بل حالةً وجودية تتلبسها الرموز. في كل مشهدٍ من مشاهد المسرحية ثمة حضورٌ للقدر، لليد الخفية التي تدفع بالشخصيات نحو مصيرٍ محتوم لا خلاص منه إلا بالموت أو بالجنون.
تتحول سالومي في النهاية إلى رمزٍ للإنسان الذي يفتنه الجمال حتى الهلاك، وللمرأة التي تبحث عن ذاتها في عالمٍ يُحاكمها باسم الفضيلة. ينتهي النص على نغمةٍ مأساوية، لا لأن الدم أريق، بل لأن الحقيقة تهاوت بين الشهوة والسلطة. ومع ذلك يبقى في المسرحية بريق ضوءٍ خافت، يشير إلى إمكانية الخلاص عبر الاعتراف والوعي.
بهذا الأسلوب المتقن، استطاع رمزي حلمي لوقا أن يحوّل الأسطورة إلى نصٍّ معاصر يقرأ الإنسان في ضعفه وجبروته، ويعيد للغة المسرح بريقها الشاعري وعمقها الفلسفي.
إنها مسرحية لا تُقرأ بعين المشاهد فحسب، بل بقلب المتأمل، لأنها تفتح الجرح الإنساني على مصراعيه وتدع الضوء يتسلل منه ببطء، ليكشف أن الجمال – في النهاية – هو شكل آخر من أشكال المأساة.
ويمضي رمزي حلمي لوقا في مسرحيته سالومي ليجعل من الحكاية الأسطورية ساحةً لتأملٍ عميق في تناقضات النفس البشرية. فالنص يتجاوز الحدث التاريخي ليغوص في ما وراءه، حيث تتحوّل سالومي إلى رمزٍ للمرأة التي أرهقتها الأضواء وحاصرها الشغف من كل جانب، حتى باتت أسيرة صورتها، وعبدَة لجمالها الذي صار لعنتها. إنها لا تقتل يوحنا من نزوة عابرة، بل لأنها وجدت في موته توازنًا مأساويًا بين ما تشتهيه وما يرفضه ضميرها. فالدم هنا ليس نهاية بل اعتراف، والرقصة ليست غواية بل سقوط في الهاوية ببطءٍ متعمد.
وتتجلّى براعة الكاتب في قدرته على جعل الصراع دراميًا داخليًا بامتياز، إذ ينتقل من خارج الشخصية إلى أعماقها، فيغدو الحوار حوارًا بين الروح والجسد، بين الندم والرغبة، بين الله والإنسان. لغة المسرحية مشبعة بالإيقاع والرمز، تجمع بين الفصاحة القديمة والنَفَس الشعري الحديث، فتأتي الجمل مشدودة الإيقاع، مترعة بالصور، كأنها لوحات فنية تتحرك على الخشبة ببطءٍ شاعري. كل كلمة فيها تُنطق كأنها تذوب في الضوء، وكل مشهدٍ يتكئ على موسيقى صامتة تنبع من التوتر الداخلي للشخصيات.
إن رمزي حلمي لوقا يكتب مسرحه بعين فيلسوف وشاعر معًا؛ فهو لا يكتفي بأن يصف المأساة بل يفككها، يضع القارئ أمام مرآة يرى فيها نفسه. فحين تتأمل سالومي رأس يوحنا، لا نرى فقط نظرتها إليه، بل نظرة الإنسان إلى ضميره المقطوع، إلى صوته الذي أُسكت بفعل الخطيئة. تلك اللحظة التي تتقاطع فيها اللذة مع الذنب هي ذروة المأساة، إذ يلتقي النور بالعتمة في ومضةٍ خاطفة تكشف هشاشة الوجود كله.
لذا يُعيد الكاتب تشكيل مفهوم الجمال في المسرحية، فيراه قوة مزدوجة: فهو وسيلة للإشراق كما هو طريقٌ إلى الفناء. والجسد في رؤيته ليس مدانًا، بل كائنٌ يبحث عن معنى في عتمة الروح. ومن هنا تتجاوز سالومي كونها امرأة إلى أن تصبح رمزًا للإنسان المعاصر الذي يطارد المتعة ليهرب من خوائه الداخلي، فينتهي إلى مواجهة قَدَره وجهًا لوجه.
ولئن بدا المشهد الأخير مشبعًا بالموت، فإنّ الموت نفسه في النص لا يُقدَّم كفناء بل كتحوّل، كخلاصٍ من ثقل الوجود ومن لعنة الشهوة. سالومي لا تُعدم يوحنا وحده، بل تُعدم في داخله صورة الإنسان التي كانت تبحث عنها عبثًا. في لحظة سقوطها الأخير، حين تمتزج دموعها بالدم، يتحول الجسد إلى أيقونة للفداء، وكأنها – دون وعي منها – تُكفّر عن خطايا العالم الذي جعل منها أداة للغواية لا كائنًا للروح.
وهكذا ينجح رمزي حلمي لوقا في جعل سالومي مسرحية تتجاوز حدود الحكاية التاريخية لتصبح تأملاً في المصير الإنساني، في معنى الجمال، وفي صراع الإنسان مع رغباته وأوهامه.
إنها نصٌّ يتكئ على المأساة ليكشف عن نورٍ باهتٍ في آخر النفق، ويحوّل الحكاية إلى صلاةٍ فنية تنزف بالحيرة والحنين، كأن الكاتب أراد أن يقول: إن في داخل كلّ إنسان سالومي صغيرة، تبحث عن خلاصٍ لا يتحقق إلا بعد أن تكتشف أن أجمل الرقص هو رقص الروح لا الجسد، وأن أبهى الجمال ما لا يُرى بالعين، بل يُدرك بالقلب حين يضيئه الوعي والندم.
