

إلى زمزم
نظرت خنساء إلى الوراء و النار تستعتر وتلتهم مخيم زمزم للنازحين، النساء يركضن حاسرات الرؤوس يمسكن بأطفالهن في محاولة بائسه للنجاة وكبار السن عاجزين تماما عن مجاراة مايحدث بينما الرجال حيارى مابين غريزة القتال و البقاء و على البعد لاحت سيارات العدو وطرقعات الرصاص تصطاد خبط عشواء.
لم يكن هنالك أي بارقة امل لاستعادة المعسكر أو انقاذ اي شيء بل لم يكن هنالك خيار غير الركض هربا من جحيم الهجوم لكنها في خضم ذلك وجدت نفسها تتحرك نحو النار تعتمر سلاحها و تساعد هذا على النهوض وتسند تلك للإستمرار وتوجه الفارين نحو اقرب القرى التي يمكن الاحتماء بها حتى اقتربت من خطوط الدفاع الأولى تحسست بندقيتها بينما كان الجنود يتحدثون عن نفاد السلاح وعن ضرورة تعطيل العدو حتى يغادر النازحين المعسكر على الاقل نحو اماكن اكثر امانا كانت القوة المدافعة قليلة العدد والعتاد اغلبهم أبناء المنطقة واللذين تعتبر اخطر معاركهم ضد اللصوص القادمين لسرقة الإغاثة وليس ضد عدو غاشم أراد ان يفرض سيطرته على أشلاء المدنيين
قالت تخاطب الفراغ
– لن ندعهم ينالون منا بسهولة اقسم بالله نحن "ارجل" منهم ان نقص العدد بأجسادنا سنكمله
كانت خنساء نازحة قدمت من قرى نيالا فقدت اسرتها جراء قصف مدفعي عنيف فجفت الدموع في مقلتيها وقدمت المعسكر ولا هدف لها سوى الدفاع عما تبقى من إقليم دارفور حتى النصر أو الشهادة وايمانها ان لم تكن نصلا في خاصرة العدو فلا تكن لقمه سائغه يشبع بها ساديته ويغذي بها روحه المعنويه زيفا وظلما وبهتان، فما كان منها إلا أن انخرطت في تدريبات قاسيه فور وصولها للمعسكر قبل عامين، كانت في التكايا طباخة ماهرة يحب طعامها الاطفال والنساء وفي ساحة التدريب لبوه شرسه تدربت على ضرب السلاح واستخدام الاسلحه الثقيله وفي المشفى تلقت اول دروس الاسعافات الاوليه ومن ثم اتقنت حتى إجراء العمليات الصغيرة وكانت المسؤوله الاولى عن مداوة جرحى المقاتلين والاعتناء بهم، فكانت اليد التي تداوي وتنقذ الأرواح البريئة هي نفسها اليد التي تطهو وتعد الطعام هي نفسها اليد التي تحمل السلاح وتقاتل في الخنادق لصد اي هجوم لكن هذه المرة الموجه الهجومية لم تكن كالمعتاد والصواريخ لا ترحم أحدا تبعثر المكان من الفوضى وتساقطت الجثث في كل مكان واوشكت خنساء على الانهيار من التعب وهي للمرة الثانيه تجد الموت يحاصرها والقاتل هو نفسه، كان الهرب خيار متاح لها حتى تلك اللحظه لكنها اختارت المواجهه فكرت مجددا " ان صاحب الحق ان لم يكن قويا كفاية ليدافع عن حقه فلن يسمع له صوت سيظل مجرد حاله مزريه التقطتها كاميرات التصوير عرضتها على العالم في شكل مأساة طلبا لمزيد من التعاطف " ولم تكن تريد أن تكون مجرد حاله تعرف بأن من أبسط حقوقها أن تعيش في أرضها بأمان تستظل تحت ظل وطن معافى ومحمي من اي أطماع أو ايادي نجسه تعبث بأمنه لأجل حفنة دولارات أو ثروات موعوده.
وعندما اتخذت القرار لمواصلة النضال كان سلاحها اول من قال "أنا هنا" عندما احست به يلكزها على كتفها مع كل حركه تتحركها زحفا نحو خطوط الدفاع الأمامية فتقدمت ببطء حتى وصلت الخندق وقد نجحت قوات التمرد في التسلل من الجهه الغربيه للخندق كان مايقارب العشرات من الجنجويد الملثمين يرتدون الزي العسكري ويوجهون بنادقهم نحو العزل.
وبعينين ثاقبتين احتمت من كثافة النيران وبدأت في مهاجمة المتسللين واحدا تلو الآخر وبسرعتها الخاطفة اثارت حفيظة بقية المقاتلين فتحرك اثنين زحفا في مهمه انتحاريه نحو مستودع الاسلحه لتوفير المزيد من السلاح بينما انضم إليها ثلاثة مقاتلين يصدون معها الجنجويد ورابط البقيه في اماكنهم والهدف واحد تعطيل اجتياح الغزاة للمخيم حتى يتمكن المواطنيين من الخروج بأمان.. وعندما اشتد أور المعركه وازداد تدفق الجنجويد نحو المخيم يعيثون في ارجائه قتلا وتشريدا يحاصرون العزل يضربون من يضربون ويأسرون من يأسروا وفجأة من وسط الدخان تعالى صياح اربعه من الاطفال اكبرهم لا يتجاوز عمرة عشرة أعوام كان لا بد من أن يتم إنقاذهم نظر الجميع نظرات خرساء نحو خنساء لكنها فهمت الأمر
قالت وهي تغادر الخندق
– احموا ظهري
وانطلقت نحو الصغار في اللحظه التي غطت فيها كثافة النيران على كل شيء وفجأة سقطت قذيفه بالقرب من المكان ركض الاطفال نحو خنساء التي سقطت أرضا مخضبه بالدماء، لدقائق معدودة لم تكن تشعر بشيء كانت اصوات الاطفال تأتيها من بعيد وهم في الحقيقة قربها لا يفصل بينها وبينهم سوى بضعة انشات وشيئا فشيئا بدت تستعيد وعيها ونهضت بصعوبه متحاملة على جراحها ثم تهاوت من جديد رأتها إحدى زميلاتها ركضت إليها ومعها اثنتين وسرعان ما انضمت إليهم مجموعه اخرى من الفارين هذه المرة لم تستطع خنساء النظر إلى الوراء كانت تعلم يقينا بأنه لم يبق شيئ غير الخراب و بعض الجرحى وكبار السن ممن لن يستطيعوا الفرار فاستسلموا للمصير استندت على كتف زميلتها و قالت بهدوء
– هل الاطفال بخير
أجابتها سعاد
– بخير لكن الطريق الى منطقة طويله يبدو بعيد قد لا يحتملونه
وابتسمت
– كلها أرضنا يا سعاد ماخسرناه سنعيدة من جديد "الأرض ام والأم نعمه"
وبصوت مرهق صارت تنشد
"هذه الأرض لنا .. فاليعيش سوداننا علما بين الأمم
دوى صوت القذيفه من جديد خاف الصغار أكثر فصارت تنشد بصوت اعلى وكأنها تعاند الرصاص والمدافع والقذائف
"يابني السودان هذا رمزكم ويحمل العبء ويحمي أرضكم"
وما أن صمتت حتى ردد خلفها الاطفال النشيد من جديد كانت أصواتهم ناعمه ومرهقه لكنهم يدركون معنى مايقولون .. ربما أرادوا ان يثبتوا بأنهم يشعرون بحجم المعاناة أو أرادوا ان يثبتوا بأنه بإمكانهم فعل شيء آخر غير البكاء فأطفال اليوم هم حماة الوطن في الغد؛ وفهمت خنساء مشاركتهم لها عادت من جديد تنشد معهم
"هذه الأرض لنا" وصاروا يرددون خلفها " فاليعش سوداننا علما بين الأمم" واطمئن قلبها فقد أدركت واخيرا الطريق الى طويله مازال بعيد المنال ولكن بذرة النضال بخير يحملها هؤلاء الصغار بين اضلعهم ولن يجتثها أحد مهما ازهق من أرواح .. ومضت ساعتين من المسير واربعه والطريق كأنه يطول أكثر حيث لا ماء ولا طعام بل كتل بشرية متلاحقة يسابقون الزمن خوفا من أن يلحق بهم الجنجويد.
كانوا يعرفون وجهتهم سلفا احيانا تتوقف مجموعه يدفنون موتاهم في العراء ثم يواصلون طريقهم وهم يجرون خلفهم الخيبه والخذلان أو تتوقف أخرى تلتقط أنفاسها وتنهض تواصل المسير ووسط هذا الحشد من الفارين كان هنالك قله من المقاتلين المصابين .. كان الجميع يدرك أنها ليست المرة الأولى التي يغادرون فيها رغما عنهم بحثا عن الأمان ولن تكون المرة الأخيرة يدركون بأنهم يتقهقرون احيانا فتتقدم القوات النظامية يهاجمون العدو خلفهم دعوات الملكومين والحيارى لكنهم لا يدعون شبرا واحدا ينام فيه خارج على حضن الوطن
مضى اليوم الأول دون زاد غير حتمية الوصول لحقة اليوم الثاني والثالث وكلما مضى يوم هدأت الاصوات أكثر وثقلت الخطى أكثر وتشققت الاقدام أكثر واكثر وعلى أعتاب الرمق الاخير وصل من تبقى من نازحي معسكر زمزم الى طويله مع بدايات مساء كالح استقبلتهم الإدارة الاهليه بالماء والطعام وفي ذات المساء غادر مايقارب العشرات من سيارات الدفع الرباعي المحمله بالسلاح والتشوين ووجهتهم زمزم لأجل العزل اللذين مازالو هناك ومن تبقى من مقاتلين يحمون الثغور والخنادق كانت خنساء تراقب السيارات المغادرة ترفع يديها وتلوح لكل سيارة على حدى كانت تدري بأن القادم من المعارك سيكون حاسما فتنظر إلى الطريق نهما وهي تمني النفس بعاجل الشفاء والعودة مع إحدى القوات المساندة لتداوي الجرحى وتقاتل الجنجويد متى لزم الأمر .. تحسست جراحها بكبرياء ورددت "هذه الأرض لنا" وأرضنا سنقاتل حتى نخرجكم منها.
ونامت ليلتها على اهداب النصر القادم وهي على يقين بألا شيء يكسر شوكة الشعوب طالما الوطن يسكن القلوب .
شقشق الصبح استيقظت سعاد فزعا كانت تبحث عن خنساء حتى حدثها أحدهم بأنها "عادت"
قالت سعاد بذهول
– إلى زمزم
_تعريفين صديقتك منذ أن جاءت الينا لا تستكين ولن تهدأ
و كانت لحظتها خنساء في طريق عودتها إلى زمزم وجروحها لم تشفى بعد لكن بما تبقى لها من قدرة اعتمرت السلاح وعادت إلى هناك امرأة وعدد من المقاتلين في سبيل بسط الأمن ودحر الجنجويد من حدود الأرض وابتسامتها الهادئه تشي بموكب مهيب لعروس خضبت بالدماء بدلا عن الحناء وزفت روحها للوطن ووهبت سنواتها العشرين تقاتل في عدة جبهات مع رفيقاتها في المعسكر بحثا عن نصر ساحق أو أن تضم الأرض جسدها بإباء مع ابتسامتها التي لا تخبو ابدا