

الأرض لنا
تعالى صوت التلفاز حيث أعلن المذيع عن تصاعد وتيرة الأحداث في غزة ووصول عدد الشهداء إلى ما يزيد عن عشرة آلاف منذ بدء طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي، وتواصل عرض المشاهد واحداً تلو الآخر في تغطية احترافية مميزة لما يحدث على أرض الزيتون.
ضرب الرجل العجوز الذي غزا الشيب كامل شعره كفاً بآخر بينما يحوقل مستعيذاً عدة مرات، هاتفاً:
– رحماك يا ربّي، لكم الله يا أهل فلسطين، لكِ الله يا غزة.
وكأنما الزمان يعاود دورته من جديد في نفس التوقيت، طفت ذكرياته الماضية على السطح بشكل فجائي، واستعاد ذكرى ما حدث لهم منذ ما يزيد عن خمسة وستين عاماً، حينما كان طفلاً لا يتجاوز عمره عشرة أعوام.
جذبت عبارته انتباه حفيده الصغير الذي يبلغ من العمر سبع سنوات، فترك اللعبة التي انهمك في تركيب قطعها، متوجهاً نحو جدّه في لهفة متسائلاً عن سبب صياحه، حمله العجوز ووضعه برفق على الأريكة، دنا بالقرب منه مشيراً نحو التلفاز قبل أن يسأله في جديّة:
– هل تعرف ماذا يجري على أرض غزة؟
أومأ الطفل برأسه إيجاباً قبل أن يجيبه ببراءة بينما ترقرقت الدموع في عينيه:
– أخبرتنا المعلّمة في الصف بأن الأطفال هناك يموتون كل يوم، ويعانون كثيراً بلا مأوى ولا طعام، هذا ظلم يا جدّي، من حقهم أن يلعبوا ويتعلموا ويناموا في منازلهم مثلي.
ربّت على ظهر الصغير محاولاً تهدئة انزعاجه البالغ قائلاً:
– لديك كل الحق فيما تقول، ولكن هل تعلم أنني حينما كنت في مثل عمرك تعرّضت لتجربة مماثلة؟
نظر له الحفيد بذهول وقد أثار فضوله قول الجدّ، فألّح عليه أن يقصّ عليه ما حدث بالتفصيل.
تنحنح الجدّ مجلياً صوته الذي انساب هادراً يحكي بطولة شعب:
"استيقظنا مفزوعين على صوت دويّ الانفجارات وأزيز الطائرات التي غطّت سماء المدينة، تحوّل الليل الهادئ لنهار مشتعل، لم ندرك في البداية ما الذي يحدث، إلى أن بدأنا نستوعب حقيقة الأمر، بورسعيد تتعرّض لهجوم جويّ... أسرعنا نحاول الاختباء في قبو المنزل بعد أن أطفانا جميع الأنوار.. غارقين في ظلام دامس شاعرين بالخوف من المجهول، نحاول أن نبحث الطمأنينة في نفوسنا القلقة المتوترة بلا فائدة.
تساءلت بصوت مسموع قائلة:
– ماذا سيؤول إليه مصيرنا؟ وإلى متى ستستمر تلك الغارة؟
لم أتلقَّ إجابة شافية عن سؤالي، سوى بعض الهمهمات غير المفهومة من أبي، وتمتمة أمي بالدعاء والتضرّع إلى الله، وحده أخي فقط الذي أرسل لي ردّاً صامتاً بأن أمسك بيدي وشدّ عليها بقوة، سرى بعض الارتياح في جسدي، بعد أن هدأت الأجواء تدريجياً إلا أنني ما زلت أنتفض داخلياً جراء تلك التجربة المفزعة.
في اليوم التالي استمعنا إلى نشرة الأخبار، علا صوت المذياع في أرجاء المنزل.. معلناً خبر العدوان الثلاثي على مصر... تلك الحرب الغاشمة التي شنّتها علينا ثلاث دول بإجماعهم على النيل من جيشنا، علمنا بدخول إسرائيل إلى سيناء، وهجوم إنجلترا وفرنسا على مدن القناة... أصبحنا محاصرين بين المطرقة والسندان.
– وماذا بعد يا جدّي؟
افترش الطفل بجسده الضئيل يستمع لحكاية الجدّ بصوته الرحيم يسطر معاناة شعب تتكرر مع شعب آخر الآن بلا اختلاف، نفس الظلم والقوة الغاشمة التي تنقض على الأبرياء تمزق أمانهم إرباً وتطيح بأحلامهم أدراج الرياح، فيصبح العيش محض أحلام، في ظل الدمار والخراب اللذين ينتشران في كل مكان، يخيّم شبح الموت بظلاله الكئيبة فوق مدينة بأكملها يحصد أرواح سكانها بلا تمييز، شيخاً كان أم طفلاً، امرأة وحيدة أم تحتضن صغارها، شابة في مقتبل العمر أو رجل بالغ مكتمل النضج، سليماً كان أم مريضاً، كلهم عاجزون تحت سطوة قبضته القاسية، تحت أنظار العالم الذي يدّعي تحقيق العدل والتوازن مرتدياً عباءة الفضيلة الممزقة تنهشها أنياب القتلة في كل مكان، راح في سبات عميق بينما يواصل المذيع عرض ما يحدث على أرض غزة بصوت ثابت كأن الأمر لا يعنيه:
– وردتنا أنباء مؤكدة عن ارتفاع عدد القتلى إلى ..... وعدد المصابين .....
تابعت بتول ما يحدث على شاشة هاتفها المحمول يطفر الدمع من عينيها الكحيلتين ينساب مدراراً فوق وجنتيها، تصل لمشهد معيّن فلا تتمالك نفسها من البكاء حتى تنقطع أنفاسها، فتكافح باستماتة لتلتقط أنفاسها من بين شهقات الألم والوجع، بينما ترمي بهاتفها جانباً في رفض قاطع لما يحدث، إنها لا تملك من أمرها شيئاً، عانت الأمرّين منذ صغرها، فهي لم تعرف لها موطناً ثابتاً، رحلت أسرتها قسرياً من فلسطين منذ سنوات وانتقلوا من بلد لآخر حتى استقر بهم الحال في الأردن، ثم التحقت بالجامعة في القاهرة، اختارت التاريخ دوناً عن كافة التخصصات الأخرى، التحقت بعد التخرج بمهنة التدريس، صوت طفل يتساءل في براءة قطع عليها استرسالها في ذكرياتها:
– لماذا تبكين يا أستاذة؟
استفاقت من شرودها في محاولة لنفض غبار الحزن عن ملامحها، تحاول رسم ابتسامة هزيلة على شفتيها بينما تجيب الصغير بلهجة تحاول بث الطمأنينة في نفسه القلقة فيما هي بحاجة لمن يهدئ من روعها:
– لا شيء، فقط رأيت مشهداً مؤلماً، لكنني بخير، لا تقلق.
ربّت الصغير بأنامله الرقيقة على كفّها في حنان طفولي بينما يهتف في لوعة أثارت لواذع أشجانها:
– أتقصدين مشهد الطفل الذي فقد كل أفراد أسرته في أحداث قصف غزة بالأمس؟
اتسعت عيناها في دهشة بينما تتساءل في اهتمام متصاعد:
– هل تتابع ما يحدث في غزة يا مروان.
أومأ مروان برأسه إيجاباً، فعادت بتول لاستجوابه في هدوء:
– هل تعرف أين تقع غزة؟
جاءت إجابته بسرعة كقذيفة صاروخية في مرمى العدو:
– في أرض فلسطين.
فوجئت بتول بمدى معرفة الصغير الذي لم يتجاوز عمره السبعة أعوام، وضعت يدها فوق كتفه تربت عليه منحته ابتسامة مشجعة، قبل أن تطالبه بالعودة لمقعده، ثم نهضت واقفة بشموخ، خطت عدة خطوات وئيدة ثم توقفت في منتصف الفصل تماماً وأشارت للتلاميذ حتى ينتبهوا، توجهت نحو السبورة لترسم فوقها مدناً وأخذت تكتب أسماءها واحدة تلو الأخرى: غزة، خان يونس، رفح.. ثم كتبت تحتها باللغة العربية اسم (فلسطين)، قبل أن تلتفت نحو تلاميذها الصغار هاتفة في حماس بالغ:
– الأرض لنا.
طفلة صغيرة لا يتجاوز عمرها خمسة أعوام تمسك بدميتها الصغيرة بقوة تتشبث بثوب أمها الراقدة على سرير معدني في مستشفى في انتظار الطبيب حتى يفرغ من معاينة المصابين الآخرين، كانت الأم تئن في ضعف بينما يغطي ثوبها الدماء التي تنزف من جروح جسدها الواهن، تحاول ترطيب شفاهها الجافة بلسانها بلا جدوى، تنظر لابنتها الجميلة التي تحمل ملامح أبيها الذي ارتقت روحه منذ أسبوع مضى إلى السماء، تشعر بدنو أجلها فها هي ترى وجه زوجها الباسم دائماً يتطلع نحوها من بعيد مشيراً إليها في رسالة فهمت مغزاها على الفور، حينما وصل الطبيب إليها كان الأوان قد فات، قاموا بتكفين الأجساد الهامدة جميعها، فيما ظلّت الصغيرة واجمة تسمرت في مكانها في ركن بعيد منزوٍ ترقب ما يحدث في ذهول لا تجرؤ على السؤال: أين أمي؟ فلا إجابة شافية، ولا وقت للتبرير، كل يسعى في طريقه بلا توقف، تنتظر طويلاً لعلّ أحداً ينتبه إليها يخبرها ماذا يحدث، لأين ستذهب الآن؟ لم يعد لها بيت يؤويها تحت سقفه، لم يعد لها أباً ولا أماً يعتنيان بها، أخذت تبحث بعينيها اللتين تتلألأ فيهما العبرات تبحث عن أمها وعن الأمان الذي سُلِب منها على حين غِرَّة.
شاب في مقتبل العمر دخل مهرولاً يحمل طفلاً رضيعاً بين يديه، صرخ طالباً النجدة:
– أرجوكم ساعدوني، ابني الرضيع مصاب... هل من طبيب هنا؟
أخذ يدور كالمجنون حتى كلّت قدماه، فجلس القرفصاء يحتضن الجسد الليّن الذي لفظ آخر أنفاسه في لحظة خاطفة من عمر الزمان، انكفأ عليه يبكي بحرارة، رافضاً أن يعطيه لأيٍ من الأيدي الممدودة نحوه، محاولاً الدفاع عنه حتى النهاية:
– لا، لن يأخذه أحد منّي، إنه قطعة من روحي.
فجأة ارتجّت الأرض في اهتزاز عنيف، مع صوت دويّ يتردد في الأرجاء، اختلط بصراخ الجرحى ونواح الأمهات الثكالى، أحد الأطباء صرخ زاعقاً بينما يضع يديه فوق رأسه للحماية:
– إنهم يقصفون المستشفى....
لم يتمّ عبارته التي ضاعت في الهواء كما طارت أشلاء جسده معها.
وكما بدأت الغارة فجأة انتهت في غضون لحظات، بعد أن اختطفت أرواح الجميع تاركة إيّاهم جثثاً هامدة، ليصبحوا مجرد رقم في تعداد الأموات، مشهد عابر في رحلة الطغيان، مقطع فيديو متداوَل على وسائل التواصل الاجتماعي يشاهده العالَم في صمت رهيب وتجاهل مريب.
صباح يوم العيد.. الذي اختلف موعده من بلد لآخر كاختلافهم الدائم وتفرقهم الشائع، يحتفل الجميع ذاهبين لأداء صلاة العيد، يرتدي الأطفال ملابسهم الجديدة، وعلى وجوههم تنتشر بسمة البهجة والسعادة، كل منهم يمسك بيد أمه أو يحمله أبوه فوق كتفيه، تجد امرأة كبيرة في السن تعطي الصغار أكياس الحلوى الملونة، بينما تقوم فتاة في مقتبل العمر بتوزيع البالونات عليهم، تتعالى تكبيرات العيد بأصوات الجميع.
في مكان ليس ببعيد في بلد وحيد، تخلّى عنه الجميع... غاب عنه العيد، لم يأتِ محمّلاً بالسعادة ولم ينشر أفراحاً في سمائه الملبّدة بدخان القصف المتواصل، مدينة أبيدت عن بكرة أبيها، مجازر بشعة يشيب لهولها الولدان، أنباء... عن استشهاد المئات معظمهم من الأطفال من بينهم الطفل الذي فقد أسرته بالكامل منذ عدة شهور، لاحقاً بمن سبقوه ارتقاءً إلى جنات العلا، هؤلاء الذين باتوا ليلاً يحلمون بفرحة مبتورة الأطراف مثل الكثيرين منهم، وعلى الرغم من ذلك تراهم صامدين كصخرٍ في مواجهة سيول العدو المنهمر فوق رؤوسهم، ثابتين كجبلٍ راسخ يصدّون رياح الظلم العاتية بصدورٍ عارية.
وما أشبه اليوم بالأمس، وغدٍ مماثل أو ربما أسوأ.. إن لم تتوقّف حروب الإبادة، وإلى أن يتحقّق العدل بعودة الحق الأصيل، فلن تهدأ ثورة الأرض التي تخضّبت ذرات ترابها بدماء أصحابها الأصليين الذين وهبوا أرواحهم وأجسادهم فداءً للدفاع عن الوطن....
هكذا اختتم مراسل القناة الإخبارية العالمية المعروفة حديثه في نهاية البثّ المباشر، قبل أن يلقى حتفه غدراً على يد قوات الاحتلال الصهيوني برصاصة طائشة زعماً، نجح زميله المصوّر الذي كان يرافقه في تسجيل المشهد كاملاً، ثم فرّ هارباً بأعجوبة لينجو بحياته.
تمّت