

الأغنية التي لا تُسكَت
كانت شمس القدس تذوب كقطرة عسل فوق قبة الصخرة المشرفة، حين خرج ياسر من بين أوراق كُتبه المدرسية المبعثرة على أرض غرفته الصغيرة. في حقيبته البالية، حمل قلماً أخضرَ التقطه من بين أنقاض منزل جارهم الذي دُمِّر الأسبوع الماضي. كان يحتفظ به ككنز ثمين، وكأنه بذرة ستنبت يوماً شجرة حرية.
أمُّهُ نظرت إليه من شباك المطبخ حيث كانت تعجن خبز الزعتر براحة يدين متشققتين.
– "عد قبل الغروب يا حبيبي"، همست بصوت خافت.
لكن ياسر كان يعرف أن القدس تحتاج إليه اليوم أكثر من أي وقت مضى. منذ أن اعتقلوا أباه قبل شهرين، أصبح هو رجل البيت الصغير.
في الطريق إلى المسجد الأقصى، مرّ بشارع المعاصرين حيث كانت جدران المنازل تحكي قصصاً مؤلمة بدماء الشهداء وكتابات الاحتلال البذيئة. توقف عند جدارية لوجه طفلة صغيرة، رسمها فنان مجهول تحت عبارة "فاطمة.. عادت إلى السماء". لم يبكِ، فقط أدار وجهه واستمر في سيره، ممسكاً بقلمه الأخضر كأنه سلاحه الوحيد.
عند باب المغاربة، حيث يتنفس التاريخ من بين حجارة السور، وقف رتل من الجنود بوجوه بلا ملامح. أحدهم، ذو عينين زرقاوين باردتين كفوهات البنادق، أمسك بياسر من ذراعه النحيل:
– "ممنوع المرور.. هذا أمر عسكري!".
لم يفهم ياسر معنى "الممنوع" إلا عندما رأى دماء الشيخ خالد تجف على حجارة الباب. تذكر حينها كلمات أبيه الأخيرة قبل اعتقاله: "القدس لا تُمنع يا بني.. إنها كالشمس تشرق حتى من بين أصابع القبضة الحديدية".
اندفع بين الجنود كالسنبلة التي ترفض الانكسار. ضربة هراوة قاسية على ظهره جعلته يسقط على ركبتيه، لكن يديه لمستا حجراً من سور المسجد العتيق، فشعر كأن الحجارة الدافئة تحتضنه وتهمس له:
– "قف.. فأنت تحمل في عظامك تاريخاً أثقل من كل دباباتهم".
في الزنزانة الانفرادية بمقر التحقيق، حيث الظلام يتنفس ككائن حي، كان السجان "أفنير" يعد أدواته بترتيب مهووس. سلاسل صدئة من أيام الانتداب البريطاني، عصا من خشب زيتون مسروق من بستان في بيت لحم، ووعاء ماء مالح جلبوه خصيصاً من البحر الميت.
– "لماذا تُقاتل؟ أنت مجرد طفل!" زمجر السجان وهو يربط يدي ياسر إلى حلقة معدنية في السقف.
أجاب ياسر بصوته الذي تشقق من العطش:
– "لأني رأيتُ جدّي يموت وهو يُقبّل مفتاح بيتنا في يافا.. ولأن أمي تُخبئ زجاجة زيتون من آخر موسم حصاد قبل أن تهدم مستوطنتكم بستاننا.. أنتم لا تفهمون.. الذكريات لا تموت!".
ضربه "أفنير" حتى سقطت أسنانه الأمامية، لكن ياسر أدار وجهه نحو الشق الضيق في السقف حيث يتسلل نور القمر، وابتسم بفمه الدامي:
– "اضرب أكثر.. سأصنع من دمائي حبراً يكتب اسم فلسطين على جدران كل زنزانة في هذا السجن!".
– "أرض من هذه؟!" زأر السجان بعد أن أنهكه الضرب.
أجاب ياسر بصوته الذي صار كالرعد:
– "هي أرضي.. أرض أبي وجدي!.. ثم أنشد:
(من قبلِ صرختيَ الأولى معي وضعتْ
بحبْلِ سِرِّيَ في الأحشاءِ متّصِلَةْ
وكنتُ أرنو إليها في جبينِ أبي
إذا تعرَّقَ .. للرحمٰنِ مبتَهِلَةْ )"
في تلك الليلة، بينما كان ياسر يتلوى من الألم على الأرض الباردة، سمع صوتاً يأتي من الزنزانة المجاورة. كان الشيخ خالد يقرأ آيات من القرآن بصوت خافت. تدفق الصوت كالنهر بين القضبان، فشعر ياسر كأن يداً دافئة تمسح جراحه.
عند الفجر، عندما سقط جسده الصغير على الأرض للمرة الأخيرة، كانت عيناه مفتوحتين كالنافذة التي ترفض الإغلاق. السجان "أفنير" ارتعش عندما رأى الدماء ترسم خريطة فلسطين على أرضية الزنزانة. خارج السجن، بدأت طيور القدس تغرد بصوت أعلى من المعتاد، وكأنها تنعي طفلاً آخر.
في اليوم التالي، انتشر الخبر كالنار في جفاف الهشيم. الأمهات علقن صور ياسر على جدران البيوت بين أكاليل الزعتر والزيتون. الأطفال في مدرسته كتبوا اسمه بأظافرهم على مقاعد الدراسة. حتى بعض الجنود الذين شاركوا في اعتقاله، وجدوا أنفسهم يحلمون بوجهه البريء كل ليلة.
وفي مقبرة "الاستشهاديين المجهولين"، حيث تُمنع الأعلام والزهور، نبتت فجأة زهرة برية غريبة من بين شقوق القبر. كان لونها أحمر قانياً كدم ياسر، وأخضرَ كقميصه المدرسي البالي.
اليوم، كلما مر جندي عند باب المغاربة، يسمع همساً يأتي من بين الحجارة:
– "أنتم تظنون أنكم تقتلوننا.. لكننا نُولد من جديد كلما سقطنا.. لأن هذه الأرض ليست تراباً.. إنها أغنية لا تُسكت!".
في غرفة ياسر الصغيرة، ما زال قلمه الأخضر ملقى على الأرض بجانب دفتر العلوم المفتوح على صفحة تتحدث عن دورة الحياة في الطبيعة. على الصفحة المجاورة، كتب بخطه المتذبذب:
"إن دمائي سِفرٌ.. يُقرأ بالأنامل، فإذا متُّ.. فادفنوني واقفاً؛ كي أموتَ كما عشتُ.. حرّاً وكاملاً!، وكي أظلّ أرى القدسَ تُشرق دوماً.. وإذا بكى الحجرُ على قبري؛ فاعلموا أنني ما زلتُ أضحك!"
تحت النافذة، نبتت بذرة صغيرة لا يعرف أحد من أين أتت. ربما كانت ملتصقة بحذاء ياسر عندما عاد آخر مرة من المدرسة. ربما كانت هدية من تلك الحمامة البيضاء التي كانت تزور نافذته كل صباح. المهم أنها نبتت، وكفى.
نعم.. مات الصبي.. لكنه لم يسقط أبداً.
إن صرخة ياسر صارت ألف صبي..
وإن دمه صار نهراً يجري تحت أحجار القدس.. يغسل عار العالم.. وينبت حريةً وصموداً ومقاومةً لن تموت.