الأحد ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم محمود عبدالمجيد محمد حمد

الأكواخُ حريةٌ شائكةٌ

تربيتُ في أكواخٍ لم ألفْها من قبلُ. أكواخٌ تشبه الكثبان الرَّملية لونًا وحجمًا.أكواخٌ لا تبتعدُ عن بعضِها دون مراعاةٍ لمَنْ يقطنُها من حيثُ العددِ، الأعمارِ، الأحجامِ والعلاقاتِ البينيةِ، بها حراسٌ غلاظٌ، أشكالهم مختلفة، ألوانهم مختلفة أحجامهم متباينة، وأجسامهم بين طول وقصر،لا يتحدثون لغتنا العربية ولا لهجتنا المحلية، ينتابهم العنف أحيانًا عندما يخرج مواطن عن إطارهم المهني، تخالجهم العاطفة التي صنعتها المهنة وطبعتهم عليها إداراتهم وطبعهم عليها ذلك الإغداق العالمي المتواصل المهول، أشكال لم أعهدْها من قبلُ، كنتُ أهرب صارخًاعندما أراهم. لكن بمرور الأيام تطبعتُ عليهم وبقيتُ أقترب منهم رويدًا رويدا، فبدأ أحدهم يداعبني مناديًا لي بلهجتنا ممزوجة بلغته يا (زول) فعندما أقبلتُ عليه أخرج"شكلاتة"من حقيبته التي لا تفارقه ومدها لي بيده البيضاء المخروزة رسمًا وتمائمًا، فعندما مسكتها بيدي تذكرتُ أبي و حريتي المطلقة غير المشروط بشرط، تذكرتُ حريتي في عرسات فنائنا بين شاة وقط وكلب ولا ينبح على زائر، تذكرتُ أمي التي كان تغطيني من زمهرير الشتاء وسموم الصيف. فارجعتُ"الشكلاتة"لصاحبها رغم معرفتي التامة بتذوقها وطعمها المألف عندي،لأني اعتبرتها عربون بيع لا عربون صداقة؛ لأنّ والدي كان تاجرًا في أسواق الماشية، فأعرفه جيدًا كيف كان يمد العربون من يستهدفه.

انبهر الرجل من أسلوبي والطريقة التي أرجعتُ بها"الشكلاتة"، فتأرجحتْ لطافته بين تعنيف ورقة، فعاد لأسلوبه الأول بلغة ركيكة ولهجة مصطنعة يا (زول) يا (زول) خُذْها إنها هدية، فقلتُ له :غاضبًا متى كانت توزع الهدايا بين الخيام والأكواخ؟ فأصر وسواسي قلبي بل أكد لي أن هذه"الشكلاتة"عربون بيع لحريتي، فتركني ومضى لسبيله ليحدث رفقائه بقصتي، وأيقنتُ تمامًا أن من أراد شراء حرية الشعوب لا بد له من عربون يقدمة وأسلوب يختاره و وقت ضعف يستغله.

حينها كنتُ بين هذه الأكواخِ والخيام المشدودة متجولًا وأنا صغيرٌ إلتقطني أسرةٌ من فجاج دخانِ ولهبِ نيران، و صفارة إنزار تولول كالتي فقدتْ عزيزًا لها، و طائرات في أجواء قريتنا تنقض انفضاصَ العقبان الضارية على فرائسها، أما المدافعُ ترسل شُهبًا تشقُ بها مُثارَ النقعِ، فأصبحتْ الدار خرابا وأمستْ الأرض يبابا وصارتْ الدماءُ شرابا وباتْ الأغنياءُ غلابا ؛ بسبب الصراعاتِ السياسيةِ، النعراتِ القبليةِ،واستسلامًا للجهويةِ، وظلم الساسةِ الأرزلية، وحيف الحكامِ عن الحقِّ والإنسانيةِ، ونهم الثعالبِ الماكرةِ وشراسة الأسودِ على الضعفاء ؛ إزلالاً لكرامتِهم وتوجسًا من ثوراتهم العارمةِ، ونهش الكلابِ الضَّالةِ في أجسادِ البشرِ الشرفاءِ.

نشأتُ في زخمٍ اجتماعيٍ بين نساءٍ ثكالى، وأطفالٍ يتامى، وصغيراتٍ صار سوادهن بياضا، وأخرياتٍ نائحاٍتٍ على مَنْ فقدن مِنْ الآباءِ والأجداد والأبناءِ والأحفاد. و هنالك فتياتٌ صريعاتُ آمالٍ قربَ تحقيقُها.

ترعرعتُ في هذه الأجواء الغاتمةِ التي قتلتْ طفولتي وشتتْ أفكاري في أُخدودِها الملتهب ولفحاته المسعورةِ التي تواجهها نفسي المقهورة، فبدأتْ تجتاحني بعضُ سعراتِ الخواطر الثائرة، و تدبُ بين جوانحي تساؤلاتٌ :مَنْ أنا؟ هل أنا"دلدوم بن إسحاق"أم أستجيبُ للاسم الجديد الذي أطلقته عليَّ هذه الأسرة؟. هكذا بدأتُ تدغدغ وجداني الأحاسيس الثائرة و تراودني بعضُ الأسئلةِ،لِمَ تعاملني هذه الأسرة بهذا المستوى الطيب، أَهذه أسرتي أم تغيرتْ ملامحُها؟ لالا! هذا ليس أبي، هذه ليستْ أمي! أين إخواني وإخواتي؟ أين أصدقائي الذين كنتُ ألعبُ معهم في ذلك الميْدانِ الفسيحِ؟ نعم، تغيرتْ الحياةُ وتغيرتْ ملامحُها المعهودةُ !، نعم، حياةٌ ضعفتْ العلاقاتُ الاجتماعية فيها ! وتفكك النسيج الاجتماعي الذي كان مرتوقًا بحبال الوصل وتراحم الجيران، لِمَ الشكُ وعدمُ الطمأنينة بين الجيران هنا ؟ لِمَ التعامل بحذرٍ بينهم؟.

لِمَ جيئ بي لهذه الأكواخ وهذه الحياة الموحشة؟ هل لأنَّ هذه الأسرة كانت تخشى عليَّ من تلك النيران الكثيفة التي تلتهمني من كلِّ جانب؟، هل لِمَا رأته من قتلٍ وتشريدٍ وتعذيب كان هاجسًا لها، صمتُ قليلًا ثم قلتُ لالا !، فبدأتْ تذاكرني نفسي عندما كنتُ صغيراً أُدفاعُ عن أسرتي بالحجارة؛ وقت أحساسي بالظلم، الحرمان، التعذيب، الإزلال و إغلاق المدارس وتدمير بعضها،نعم، كنتُ أهتف راكضًا خلف مواكب النضال التي كانت تطاردها السلطات حفاظًا على الوطن وسلامتنا كما يزعمون ؟ فماتتْ حريتُنا خوفًا من سحق العتاة والدُّهاة.

نعم، كنتُ أُرددُ هتافاتِ المواكب النضالية واستمتع بنغماتها وإيقاعها الدافء التي تقول:"وطني نحن سيوفُ أمجادك و نحن مواكب تفدي ترابك"لا لا! هواجس كثيرة متشابكة كانتْ تحوم حولي، بل تلسعني من حين لآخر لأنني كنتُ أحرز أعلى الدرجات في تلك المدرسة الخاصة التي تفضل عليَّ بكفلة الدراسة أحد فاعلي الخير وناشدي العدالة و غضب علي الأشرار من الطلاب.لا لا هذا لم يكن سببًا لاشعال هذه الحرب و الدمار و الخراب الذي نحن فيه!.

بينما أنا في هذه الحالة وهذا البركان الثائر والدوامة المستمرة و الزخم المتدافع والخواطر المتوارد عليَّ دون استئذان، فازداد انفعالي وتجسدتْ أمامي تلك الطائراتُ وأزيزُها وبرميلُها كالشهبِ الرَّاجمة، و كذلك تجسدتْ أمامي مدافِعٌ تعوي كالذئاب الجائعة التي لا تسكتْ إلا أنْ تشبعَ و لا شبعٌ لها في لحمِ ودماءِ فرائسِها.

على هذا المنوال بتُ غرقًا وسط هذا البحر الثائر و أمواجه المتلاطمة من الانفعالات الهادرة فإذا بهاتف يهتف قول الشابي:

إذا الشعبُ يومًا أرد الحياةَ
فلا بُدَّ أنْ يستجيبَ القدر
و لا بُدَّ لليل أنْ ينجلي
و لا بُدَّ للقيدِ أنْ ينـــكســـر

اشتعلتْ نار حماسي فإتقدتْ ثورة الوجداني و بدأتْ تدب في دمائي روح هذين البيتين، فوضعتهما أرضيةً ثابتةً لأخطو عليها، ويخطو عليها كلُّ وطنيٍّ عاشقًا للحرية والتقدم وأنا على يقين أنَّ الشعب وُلد حرًا، ومن أيقنْ أنه وُلد حرًا فلا يعيشْ إلا حرًا مهما كلفه ثمنُ هذه الحرية الحمراء، فيرسل نبالَ بنت عندانان بلا قوسٍ وبلا وترٍ تهز قصور العتاةِ الدُّهاة وكبرياء من صَعَّر خدَّه على شعبه حتى تستجيب أقدارُهم وتطأطأُ رؤوسهم اعترافًا وانكسارًا.

فتأكدتُ حينها لا بد من إشراقُ شمسُ حرية الشعوب لينجلي الضبابُ ويُزالُ الغبارُ بفضل العقول الناضجة غيرُ المقهورة خوفًا وطمعًا، فتُكسَّرُ قيود الظلمِ وينبلج الصبحُ وتتصافى النفوسُ وتُشادُ المؤسسات التعليمية والصحية بفضل التخطيط السليم المرتكز على العدالة والدراية لتنطلق بلادُنا حرةً بين الأمم انطلاقًا لانظير له وترفرف أعلامنا فرحًا ويسعدُ أجيالُنا فانتصبتُ ثائرًاً بين رفاقي هيا بنا نخطو جميعًا إلى الأمام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى