

الحاجز الأخير
– أخيرا سنلتقي ..
همست لنفسها، وهي ترنو إلى أفق الطريق أمامها، بين البيارات الخضراء والشاطئ الرملي الفسيح. انحنت تتفقد السلة في يدها، تسوي المنديل على أقراص الخبز الناضجة التي أعدت بزيت الزيتون والزعتر، تعلو حبات البرتقال الكبيرة التي جنت هذا الصباح، من الشجرة الوحيدة الباقية في الجنينة. أوقفت على جانب، قارورة الماء الزلال، الماء الطالع من البئر العتيقة جنب الدار.
– قريبا يطل الحبيب..
أولت ظهرها للدخان الأسود المتعالي من المدينة، ورائحة الغبار المنتشر من دمار البيوت. تعلقت عيناها بأقصى الطريق. بد ت لها أقباس شمس الصباح تتسلل من بين الغيوم والدخان القادم من سماء المدينة المحاصرة، تتوالد وتشع أكثر، تضيء الصباح الطالع.
قريبا منها، كان العشرات، كبارا وصغارا، في انتظار السماح لهم بالمرور واجتياز الحاجز العسكري، إلى الجهة المقابلة من الطريق، خارج المدينة المحاصرة المهددة بالقصف والتدمير.
ظلت واقفة أمام الحاجز، منذ الصباح الباكر، لا لمغادرة المدينة، ولكن للبقاء واستقبال الحبيب العائد إلى مدينته وبيته، بعد عشر سنين من الغياب.
بعد حين، سيجتازالحاجز الأخير.. ويرتمي في الأحضان..ستضمه بكل شوق سنين الوحدة والحرمان. معا، سيعودان، ذراعه على خصرها، ويدها في يده.
لن تقول له إن القصف طال بيته، وخرب غرفته.. لا، لن تقول إن الجدران الباقية مصدعة، والنوافذ مكسورة. ولكنها ستخبره أن غرفتها الواسعة مازالت سليمة. سيقيمان فيها معا. غرفتها الشرقية تطل على شجرة البرتقال التي يحب، الوحيدة الباقية في الجنينة. ستقول له إن البئر حذو مطبخ الدار مازالت عامرة بمائها العذب الزلال، تسقي أبناء الحي الباقين بعد أن خرب القصف كل أنابيب الماء في المدينة.
ستقول له إنها خبأت كل كتبه ودفاتره، منذ اعتقاله، في مكان لا يدركه حتى الشيطان. أجل، نجت الكتب والدفاتر من القصف، رغم انهيار السقف والجدران.
رفعت رأسها إلى السماء، تدعو ربها ظهور الحبيب سالما، معافى.
بدا لها ضوء السماء قد أصبح أكثر قوة، وقد ارتفعت الشمس،، وبهت سواد الغيم وتناثر في الآفاق البعيدة.
عادت تتفقد هاتفها، تفتحه لتسأل أين هو؟ ..كم قطع من الطريق؟.. متى يصل؟ ..كم حاجزا عسكريا عبر؟..متى يكون الخلاص؟..
تأملت شاشة الهاتف. وجدت الشحن يكاد ينتهي. أسرعت تطلب الرقم الذي اتصل منه معلما بخروجه من المعتقل..تحفزت كل الحواس وهي ترهف السمع، متلهفة لسماع صوته.
– ألو..
أخيرا جاءها صوته، قبل أن ينقطع الاتصال:
– ألو.. أنا قرب الحاجز التاسع، قبل الأخير..انتظريني..
تنهدت عميقا. حمدت الله أخيرا وهي تسند ظهرها إلى جذع شجرة زيزفون عتيقة. رنت إلى آخر الطريق، متجاوزة الحواجز الحديدية وجمع العساكر المدججين بالسلاح، يتثبتون في هويات المنتظرين المرور، معرين أجساد الرجال والفتيان، مستهزئين ساخرين، زاجرين بفوهات البنادق أو بطلقة نار، كل سائل عن أوان العبور.
تعالت نظراتها إلى السماء ، تعلن شمسها الساطعة الظهيرة القادمة..
سيكون قريبا هنا.. لا شك أنه تجاوز الحاجز التاسع.. لم يبق له غير عبور هذا الحاجز الأخير.. سيتخطاه أخيرا و.. سنلتقي..قريبا سيكون في الأحضان.. سأمسح على شعره الأسود الثائر دوما.. تراهم تركوه له؟..سأقبل رأس حبيبي ..جبينه.. وجنتيه .. سأشبعه قبلا.. أمسك بيده، أمد له رغيف الخبز الطري الي عجنت وعركت هذا الفجر، وسنمضي معا، حثيثا، إلى بيتنا ... بيتنا الذي هدم نصفه. ولكن، بذراعيه القويتين، سيرفعه ويبنيه من جديد.. هو الآن حر..لن يمنعه جنود الحواجز من المرور..
– الساعة الثانية.. أعلن الصوت المتشنج للأب الواقف منذ ساعات مع أطفاله الثمانية وزوجته الحاملة الرضيع الذي أخذ يبكي.
حدقت بالبحر على اليسار، بالروابي والمروج على اليمين، بالطريق. هبت الريح برائحة البحر المائج، تحيي ذكريات حزينة ماضية عن المرحلين خارج المدينة، تداخل الخوف والأمل والشوق والتوجس....ترى سيتركون فتاها يدخل من جديد؟
غمر دخان قصف قريب رائحة البحر، ناشرا ظلمته الكثيفة الخانقة.
تحفز الجنود الواقفين يسدون المعبر، وتعالت أصواتهم المتشنجة تدفع المنتظرين بعيدا. بينما ظلت أصوات أحذيتهم الحديدية تقرع بقوة إسفلت الطريق.
تمسكت بسلتها. تجاوزتهم بناظريها، وعادت عيناها، بكل أشواق الدنيا، تتعلق بآخر الطريق الممتد بين زرقة البحر المائج وخضرة البيارات والروابي، يهيم فوقها غمام ودخان ارتفع من جديد قادما من المدينة.
انشدت عيناها إلى نقطة هناك، تتقدم وتتجلى..برق الشوق الحارق في عينيها اللازورديتين.. رقصت نجوم، تطايرت إليه..إنه هو ..هو..
كادت تطير إليه، وهو يتقدم، نحيلا، عاليا، مثقل الخطى، وعلى ظهره مخلاة.
كادت تصرخ بالفرح.. هوذا أخيرا، بعد عشرسنين.. لم يكتمل ربيعه الثامن عشر حين اعتقلوه.. هوذا، يقترب، خطوة، خطوة.. بدا لها بالغ النحول.. ولكنه هنا، يدنو من الحاجز العسكري. تتوقف خطاه، مترين قبل الوصول، أمام فوهة بندقية توجه نحوه، منذرة.
تجاوزت نظراته النفاذة البندقية، إلى الجانب الآخر من المعبر، طارت إلى يد تلوح بالشمس إليه وتدعوه للأحضان.. عبرت ابتسامة خاطفة محياه، استفزت رافع البندقية.
سقطت يدها الملوحة و محياه يختفي بين الجنود الذين هبوا إليه محاصرين، وزعيمهم يسأل ساخرا إلى أين يريد المرور؟
دفعها أحد الجنود إلى الوراء، أكثر فأكثر، لتبتعد عن الحاجز، وهو يشهد يدها الملوحة التي ارتفعت للقادم.
تراجعت إلى حيث شجرة الزيزفون العتيقة.. وعيناها لا تتركان الفتى الذي حاصروه. شاهدت المخلاة تنزع وتفتح، والأوراق تتناثر، والجسد يعرى وينبش، خوفا من حزام ناسف.
شوك علق بالحلق والقلب، وعيناها تتعلقان بشفاه الجنود، بتحركاتهم.. عشر دقائق.. ربع ساعة.. نصف ساعة.. ساعة إلا ربع.. دفعوه ناحية غرفة الضابط للانتظار، وفوهة البندقية لا تفارق رأسه العالي.
تساءلت عما يدور.. أفرج عنه أخيرا، خرج من أسرهم الطويل.. فما الذي يوقفه ساعة في الحاجز الأخير؟..تداخل الخوف والشوق والتوجس في القلب المتوثب إليه.
لمحت بغتة الملامح تتشنج و الغضب الكالح ينتاب الفتى.. ارتفع صوته حادا كاسرا السياج الحديدي متجاوزا المعبر..
التوت الأعناق وتوجهت إليه أبصار المنتظرين.. ارتمى عليه أحد المسلحين، لوى ذراعيه بقوة إلى الورى، هجم عليه آخر، قبض على معصميه .. تخبط بينهما، ضاربا برجليه، الأجساد التي حاصرته...ترك أحدهم قبضة شعره، وامتدت يده إلى قارورة صفراء. رفعها سريعا عاليا، صبها في الفم الذي شده مفتوحا.
أمام العينين الصارختين، اقتربت ولاعة.. اقتربت أكثر، بينما كانوا يضحكون عاليا بشماتة كالحة.
هبت إليه..
لمن أتت الأم بالخبز الذي عركت بزيت الزيتون والزعتر؟.. لمن أتت بحبات البرتقال الكبيرة من شجرة الجنينة الوحيدة الباقية؟ لمن عبأت القارورة من ماء البئر الزلال؟
سترتمي عليه، تمنعهم عنه، تحضنه، تطفئ ناره.. ولكنهم ..ا نهالوا عليها بفوهات البنادق يضربون الجسد الطائر إليه.، يسقطونه على الأرض.
بوغتت بالأطفال المنتظرين قربها مع أمهم، يصرخون.. النار .. النار ..
في سقطتها على الأرض، تبعثرت حولها أرغفة الخبز والبرتقال، وفي غبش الدم والدمع والدخان، شاهدت النار خلف الحاجز، تشتعل، تطلع من حشا جسد الحبيب القريب.. البعيد .. . قبضت على التراب، همت بالوقوف.. بين صيحات الأطفال والأيادي ترتفع إلى السماء.. انفجار.. انفجار..
في طرفة عين، شاهدت شعلات تتطاير في الفضاء، تهب من هناك، حيث تعلقت عيناها به، خلف الحاجز الأخير.، بين الجنود الذين حاصروه وصبوا في فمه الذي فتحوا، وهو يصرخ، ملوحا لها من بعيد: عايد يما.. عايد.. صبوا في فمه ساخرين.. البنزين..تطايرت النار من الحشا..لم تمنع صرخته العالية الصاعدة من اللهيب،
رااااااااجع يمااااااا...راااااجع يمااا....
طارت..قاومت الجزمات الضاربة واستقامت، وقدهبت الروح إليه، أدهشها أمام الشرر المتعالي، اختفاء الحبيب من بين أيدي الجنود المسلحين، في الجانب الآخر من الطريق، من بين أيدي الجنود المسلحين, فقط، شاهدت الأطفال قربها يحدقون بالسماء، صارخين .. النار.. الحاجز.. النار. النار.. أكلت الحاجز.