الخميس ١٠ آب (أغسطس) ٢٠٢٣
بقلم رامز محيي الدين علي

الحربُ وسنُّ الرُّشد في فكرِ نُعَيمة

منذ أن خلقَ اللهُ الإنسانَ على الأرض والإنسانُ يحاربُ أخاهُ الإنسانَ، وأوّلُ شرارةٍ للحرب كانت بقتلِ قابيلَ أخاه هابيلَ، ومن ثمّ توالتِ الحروبُ تلو الحروب، فأزهقَت من أرواحِ البشريّة أكثرَ ممّا جنَتْه أيدي الكوارثِ والنّوازل والمحنِ والأوبئةِ.

وهذه الحروبُ وإن خمدَت في حقبةٍ من الزّمن إلّا أنّها ما تزال على كلِّ شفةٍ ولسان، ولسانُ حالِ النّاس يقولُ: لماذا تنشبُ الحروب، وهل هي ضرورةٌ تفرضُها الحياة على البشريّة؟ كما عبّر عن ذلك نعيمةُ: "انتهت الحربُ وكأنّها لم تنتهِ. فهي ما تزالُ على كلِّ شفةٍ ولسان. والنّاسُ ما يبرحُون يتساءلُون: لماذا تنشبُ الحروبُ؟ وهل الحربُ ضربةُ لازبٍ في حياةِ البشريّة؟".

ويستعرضُ نعيمةُ أسبابَ الحروب كما يراها النّاسُ، فمنهم مَن يُرجِع أسبابَها إلى الفوارقِ الجنسيّةِ والدّينيّة، ومنهم مَن يُعيدُها إلى الدَّافعِ الأقوى والأهمّ وهو شهوةُ السُّلطةِ والمجْد، ومنهم مَن يَحصرُ تلك الأسبابَ كلَّها في العواملِ الاقتصاديّةِ لا غيرَ، ومنهم مَن ينفي أيَّ سببٍ للحروب؛ لأنّ الحربَ من طبيعةِ الإنسان مثلَما هو الأكلُ والشُّرب والتَّنفُّسُ والتّناسل، وهي فوق ذلكَ قانونٌ من قوانين الطَّبيعةِ لا مَناصَ للإنسانِ من الامتِثالِ له مهما تسامَت مداركُه ومشاعرُه، ويستشهدُ أصحابُ هذا الرّأي بقولِهم: "ها هي الأجرامُ السَّماويّةُ لا تنفكُّ في تدافعٍ وتجاذب. وها هي نباتاتُ الأرض، وأسماكُ البحار، ومجنَّحاتُ الجوّ، وحشراتُ التُّراب، وضواري الغابات، وباقي الحيواناتِ - ومنها الإنسانُ - في نزاعٍ أبديّ من أجلِ البقاء". فالإنسانُ في نظر هؤلاء، لا يخرجُ عن كونِه حيواناً كسائرِ الحيوانات.

وقد تطوَّرت الحروبُ في عصرِنا الحاليّ وتعدَّدَت أسبابُها وغاياتُها، فأصبح المرءُ عاجزاً عن معرفةِ سببٍ من أسبابِها؛ لأنّ الذين يقودون الحروبَ أو يَحوكُون دسائسَها أمهرُ من شياطين السّماء، وأدهى من أبالسةِ الوساوس، فتارةً يُشعِلون فتيلَها بين أمّةٍ وأخرى هنا أو هناكَ، ثمَّ يتسابقون إلى رفدِ طرفي الصّراعِ فيها بشتّى أنواعِ الأسلحة، وحينَما يُدركون أنَّ كلي المتحاربين قد أُنهكَ حتّى النّهاية، يَعقِدون مؤتمراتِ السّلام، ويتباهى كلُّ شيطانٍ بأنّه حمامةُ السّلام لحمايةِ وضمانِ الاستقرارِ العالميّ.. وهؤلاء الشّياطينُ لا ترقدُ لهم عينٌ إذا ما خمدَت الحربُ هنا؛ فتراهُم قد أعدُّوا الخططَ لإيقادِها هناك، ويتسابقُون لإبراز قدراتِهم التّدميريّة؛ كي يفرضُوا هيمنتَهم على أممِ الأرض الّتي لم ترَ النُّورَ يوماً، وما زالتْ تحلمُ برغيفِ الخبز وأرضُها مُترعةٌ بكلِّ أصناف الكنُوز، فيُنشِبُ الشّياطينُ مخالبَهم في شرايينها كي يمتصُّوا تلك الثّرواتِ والكنوز، وفي أروقةِ المحافلِ الدّوليّة يتبارَون لحمايةِ حقوقِ الإنسان.. فهل ثمَّةَ شيطانٌ في السَّماء أمهرُ وأدهى من هؤلاءِ الشَّياطينِ في الأرض؟!

لكنّ نعيمةَ يطالِعُنا برأيٍ فلسفيّ فريدٍ في أسبابِ تلك الحروبِ، فيرى "أنَّ الحربَ ستُلازم الإنسانيّةَ ما دامتِ الإنسانيّةُ بمجموعِها - لا بأنبيائِها وأوليائِها - دونَ سنّ الرُّشْد".

وكي لا يظلَّ جوابُه مُبهَماً، راح يقدِّمُ التّبسيطَ والتّفسير لتوضيحِ رأيِه في كونِ البشريّة لم تبلغْ سنَّ الرّشدِ، ولهذا فهي تشنُّ الحروبَ تلوَ الحروب.

ويرى نعيمةُ أنّ سنَّ الرّشدِ للإنسانيَّةِ غيرُ سنّ الرّشدِ في حياة الفرد: "من البديهيِّ أنّ سنَّ الرّشدِ للإنسانيّةِ الّتي لا يُقاسُ عمرُها بعقودِ العقودِ ولا بأجيالِ الأجيال هي غيرُها للإنسانِ الواحد الّذي لا يتعدَّى معدَّلُ عمرِه الأربعينَ - أو الخمسين - من السّنين".

فمفهومُ سنِّ الرّشدِ للفرد هو ما اتَّفقَ عليه النّاسُ من أقدم الأزمانِ وفي كلِّ مكانٍ على مرحلةٍ محدودةٍ من العمر إذا ما اجتازَها الإنسانُ قالُوا: إنّه بلغَ سنَّ الرّشد. وما دام دونَها دامَ في عُرفِهم قاصراً؛ لأنّ الإنسانَ في هذه المرحلةِ من العمر غيرُ قادرٍ على تصريفِ شؤونِ المعيشة، وعاجزٌ عن إدراكِ الواجباتِ والحقوق الّتي خلقَتها الضّرورةُ: "فالرّشدُ، من هذا القبيلِ، إنّما هو المقدرةُ على تفهُّم تلكَ الواجباتِ والحقوقِ والاضطلاعِ بها. والقصورُ هو العجزُ عن ذلك. فلا الرُّشدُ رشدٌ مُطْلق. ولا القصورُ قصورٌ مطْلق. بل هما رشدٌ وقصورٌ بالنّسبة إلى هدفٍ قريبِ المنال هو القيامُ بأعباء المعيشةِ في خلال فترةٍ قصيرة من الزّمنِ ندعُوها العُمر".

وقد ساق نعيمةُ مفهومَ سنِّ الرّشدِ للإنسان الّذي اتّفقَ على اصطلاحِه النّاسُ، وهو تعريفٌ حكيمٌ في رأيِه، ليستندَ إليه كي يقارنَه بمفهومِ سنِّ الرّشد للإنسانيّة من حيثُ العمرُ والأهدافُ كي يتسنّى له الحكمُ الصّحيحُ بشكلٍ تقريبيّ فيما إذا بلغَت الإنسانيّةُ سنَّ الرّشدِ أو لم تبلغْها بعدُ: "أفمَا يحقُّ لنا بالمقارنةِ ما بين عمرِ الإنسانِ وعمرِ الإنسانيّةِ الشّاملة، وبين أهدافِه وأهدافِها، أن نخلُصَ ولو بالتّقريبِ، إلى الحُكمِ فيما إذا كانتِ الإنسانيّةُ قد بلغَت سنَّ رشدِها أو لم تبلُغْها بعدُ؟".

ويرى نعيمةُ أنّ سنَّ الرّشدِ للفرد "قد حدَّدتْها خبرةُ النّاسِ بالنّسبة إلى أهدافِ المعيشةِ المحدودة. وسنُّ الرّشدِ هذه تكادُ تبلغُ نصفَ عمرِ الفرد إذا ما اعتبرْنا معدَّلَ العمرِ أربعينَ عاماً أو أكثرَ بقليلٍ. فكيف لنا أن نعرفَ سنَّ رشدِ الإنسانيّة إلّا إذا عرفْنا عمرَها؟ وكيف لنا أن نعرفَ عمرَها إلّا إذا عرفْنا هدفَها - أو أهدافَها - من وجودِها؟ فما دام للعمرِ هدفٌ، كان لا بدَّ للعمرِ أن يطولَ حتّى يُدرَكَ ذلكَ الهدفُ. فهل للإنسانيّةِ من هدفٍ؟ وما هو؟".

ويجِدُّ نعيمةُ في الرّدِّ على فئةٍ من النّاسِ تنفي الغائيّةَ من الوجود، فلا يرونَ في الكونِ غيرَ قوىً طائشةٍ تتفاعلُ على غيرِ هدىً ودون مقصدٍ من المقاصدِ، والعجيبُ في أمرِ هؤلاء أنَّ لهم بينَ كلِّ فينةٍ وأُخرى من حياتِهم غايةً يسعونَ إليها، ومع ذلكَ فهم ينفُون أيّةَ غايةٍ لوجودِهم أو لوجودِ شيءٍ في الكون، ولكنّهم تَعْمى قلوبُهم وأبصارُهم عن إدراكِ ما حولَهم من كائناتٍ لا تُحْصى يسعى كلٌّ منها إلى هدفٍ وغاية: "ثمّ إنّهم، كيفما انقلبُوا، أبصروا كائناتٍ لا تُحصى يجِدُّ كلٌّ منها في سبيلِ الوصول إلى حاجةٍ من الحاجاتِ أو هدفٍ من الأهداف. سواءٌ في ذلك النَّملةُ والجمَلُ والحرباءُ والإنسان".

ولطالما أنّ لكلِّ جزءٍ من عالمِنا غايةً وهدفاً، فلا يُعقلُ أن يكونَ هذا العالمُ لا غائيَّاً في كلّيّاتِه، ولذلك فإنّ عالمَنا إمّا أن يكونَ عالماً موزوناً يسيرُ على سننٍ محدودةٍ ولغايةٍ محدّدة، فيتحتَّمُ علينا أن نعرفَ سننَه وغاياتِه فنسيرُ معه لا ضدَّه، فنكمُلُ باكتمالِه وندركُ غايتَنا في غايتِه، وإمّا أن يكونَ عالماً طائشاً لا تربطُه سنّةٌ ولا تحدوهُ غاية: "وإذ ذاكَ فأيُّ بأسٍ علينا لو كنّا طائشينَ في عالمٍ طائش، فعشْنا وما درَيْنا لماذا نعيشُ، ومُتْنا جاهلينَ لماذا نموتُ؛ وحاربْنا وسالمْنا وتناسَلْنا من غيرِ أن نعرفَ لماذا نحاربُ ونسالمُ ونتناسلُ؟ وأيُّ معنىً لكلِّ ما نعملُ ونقولُ، ولذلكَ الصّراعِ الهائلِ الّذي ما يفتأُ الإنسانُ يخوضُ غمارَه، ولتلكِ الآلامِ المبرِحةِ الّتي ما تنفكُّ تشويهِ في صراعِه؟".

ولهذا إنْ جهلْنا - نحنُ البشرَ - غايةَ الكون، فالكونُ لا يجهلُها البتَّةَ، وكذلك فإنّ للإنسانيّةِ هدفاً تدلُّنا عليه أشواقُ الإنسانيّةِ برمَّتِها مثلَما يدلُّنا الدُّخانُ على النّار، والنُّورُ على الشَّمس، وظلُّ الشَّجرةِ على الشّجرة، والخُضرةُ على الماءِ، والسُّيولُ على المطر.. فلا يمكنُ للإنسانيّةِ أن تشتاقَ لشيءٍ لا وجودَ له: "إنّ في الشّوقِ وحدَه لدليلاً قاطعاً على وجودِ ما نشتاقُه. فنحن ما كنَّا لنجوعَ لولا وجودُ ما يُؤكلُ ولولا مقدرةٌ فينا على أكلِه؛ ولا لنعطشَ لولا وجودُ ما يَروي؛ ولا لنُحِبَّ لولا وجودُ ما يُحَبُّ؛ ولا لنعرفَ لولا وجودُ ما يُعرَفُ. ونحن ما كنّا لنُحِسَّ شوقاً نهّاشاً إلى معرفةِ كلِّ ما في الكون لولا قدرةٌ كامنةٌ فينا على تلكَ المعرفة".

وأكبرُ دليلٍ على ذلك هو شوقُ الإنسانيّةِ إلى الحرّيّةِ للتَّغلُّبِ على كلِّ ما فيها وما حولَها من قوىً ما فتِئَت في صراعٍ معَها، فهي تقاومُها وتصارعُها من أجل السَّيطرةِ عليها، لكنّها ما زالت في منأىً عن قهرِها والانتصارِ عليها، إلّا أنّها حتّى اليومِ تقفُ بثباتٍ في مواجهتِها غيرَ مستسلمةٍ لها، وهذا دليلٌ ناصعٌ على وجودِ القوّةِ الكافيةِ في كيانها للتّغلُّبِ عليها في النّهاية.

ومن هنا فإنّ "هدفَ الإنسانيّة من وجودِها هو معرفةُ كلِّ شيءٍ والقدرةُ على كلّ شيء. فأين إنسانيّةُ اليومِ من ذلك الهدفِ؟" كما يتساءلَ نعيمةُ.

ويجيبُ الكاتبُ بأنّ البشريّةَ في صراعِها الطّويلِ مع القوى الّتي تحيطُ بها صراعٌ مريرٌ قدَّمت فيه الكثيرَ من الجهودِ والتَّضحياتِ، وتعِبتْ من خلالِها كثيراً، وتألمّتْ كثيراً، وفكّرتْ كثيراً. "فاكتشفَت أشياءَ واخترعَت أشياءَ، وتمكَّنَت من تنظيمِ ما عرفَتْه واكتشفَتهُ واخترعتْهُ تنظيماً تُغالي به كلَّ المغالاةِ، وتحرصُ عليه حرصَها على كنزٍ ثمين، وتدعو ذلكَ الكنزَ (الحضارةَ)".
ولكنّها لم تستطِعْ إلى اليومِ أن تصلَ إلى هدفِها الأبعدِ والأسْمى، فهي ما تزالُ في أوّلِ الطّريق، وكلُّ ما عرفَتهُ حتّى الآنَ ليس سوى قطرةٍ من بحرِ ما لا تعرفُه، والّذي تتحكَّمُ فيه ليس إلّا حفنةً من طودٍ من القِوى الّتي ما تبرحُ متحكِّمةً فيها، ولذلك فهي بعيدةٌ كلَّ البعدِ عن سنِّ الرّشد.

وأكبرُ دليلٍ على بلوغ النّاسِ سنَّ الرّشدِ هو معرفةُ ما عليهم من واجباتٍ، وما لهم من حقوقٍ تجاهَ أنفسِهم وتجاهَ المجموعِ، ولو أنّ الإنسانيّةَ بلغَت الرّشدَ لعرفَت هدفَها وما يُحتِّمُه عليها من واجباتٍ وما يُعطِيها من حقوقٍ، فانصرفَت إليه بكلِّ قِواها، وكانت يداً واحدةً وإرادةً واحدة، إلّا أنّها ما تزالُ دون سنِّ الرّشدِ بكثير".

ويدلِّلُ نعيمةُ على بعدِ البشريّة عن هدفِها الأسمى والبعيدِ حينَما يُشبِّهُها بالأولادِ الصِّغار، فشأنُها مع نفسِها ومع الأكوانِ من حولِها "شأنُ الأولادِ الصِّغار يتقاتلُون من أجلِ خرزةٍ حمراءَ أو زرقاءَ، ومن أجلِ دوَّامةٍ أو دميةٍ، ومن أجلِ حركةٍ أو كلمةٍ، ثمّ يعودُون فيتحالفُون على هدمِ عشِّ عصفورٍ واقتسامِ الفراخِ الّتي فيه، أو على سرقةِ عنقودٍ من كرمِ جارِهم".

ولذلك لا يرى نعيمةُ أيَّ فرقٍ بين حروبِ عصاباتٍ من الأولادِ وبين حروبِ عصاباتٍ من الأممِ إلّا في المدى، فالذِّهنِيّةُ الّتي تتولَّدُ كلٌّ منهما واحدةٌ: "هي ذهنِيَّةُ المنافساتِ العِرقِيّةِ والدّينيّة واللُّغويَّةِ والسّياسيّةِ؛ ذهنِيَّةُ السُّلطةِ الجاهلةِ أنّ فوق كلِّ سلطةٍ سُلُطاتٍ؛ ذهنِيَّةُ المالِكِ لا يفقَهُ أنّه مملوكُ ما يملكُ. هي ذهنِيّةٌ تتوهَّمُ خيرَها في شرِّ غيرِها، وهناءَها في شقاءِ سواها، وقوّتَها في ضعفِ جارِها. ولا يخطرُ لها ببالٍ أنَّ شرَّ جارِها وشقاءَه وضعفَه هي شرُّها وشقاؤُها وضعفُها. وبالإجمالِ هي ذهنِيَّةُ الولدِ ما بلغَ سنَّ الرّشد. فلا هدفَ له من وجودِه غيرُ إرضاءِ شهواتِه ونزعاتِه الفرديّةِ مهما تكُنْ خسيسةً وبعيدةً عن شرفِ الرّجولةِ وإباءِ المعرفة".

وينتهي نعيمةُ من كلِّ ما بسطَهُ من أفكارٍ وما قدَّمهُ من رؤىً إلى أنَّ البشريّةَ لم تبلُغْ سنَّ الرّشدِ الّتي تفرضُ عليها واجباتٍ مثلَما تمنحُها من حقوقٍ، ولذلكَ ستظلُّ البشريّةُ في حروبٍ وصراعاتٍ لن تنتهيَ، وإن همدَتْ زمناً وآلتْ إلى سلمٍ، فليس ذلكَ إلّا سلماً مدجّجاً بالسِّلاح، وقد يكونُ سلماً مدجَّجاً بسلاحٍ أخطرَ هو "سلاحُ النّكاياتِ والسِّعاياتِ والحقدِ والحسدِ والنّميمةِ والبغضِ. وما أفظعَهُ وأشدَّهُ فتكاً من سلاحٍ! فكأنَّ النّاسَ مقضيٌّ عليهم بأنْ يُمزّقوا الغشاواتِ الّتي على عيونِهم بأيديهم، وأن يشتروا المعرفةَ بالألمِ، وألّا يُبصِروا نورَ الرّشد إلّا بعد التَّخبُّطِ الطّويلِ في دياجيرِ القُصور. ولا عجبَ، فالفرخُ لا يستطيعُ الخروجَ من بيضتِه إلّا بكسرِها".

وبهذا أكونُ قد بسطْتُ أفكارَ نعيمةَ بالشّرحِ والتّعليقِ في تعليلِه أسبابَ الحروبِ في نظرةٍ فلسفيّةٍ فريدةٍ ترى أنّ البشريَّةَ ستظلُّ في حروبٍ تلوَ الحروبِ؛ لأنّها لم تبلغْ سنَّ الرّشدِ إلى اليوم، وهذا البلوغُ قد يطولُ ويطولُ حتّى تستطيعَ البشريَّةُ القيامَ بواجباتِها تجاهَ نفسِها ونحوَ ما حولَها من مخلوقاتٍ وعوالمَ، وحتّى تتمكّنَ من معرفةِ ما لها وما لغيرِها من حقوقٍ ممّا حولَها وما يحيطُ بها، فتصونُها وتسهرُ على رعايتِها، فتَنْتهي شراراتُ لهيبِ الحروب، ويعيشُ العالمُ في سلامٍ وأمنٍ وطمأْنينة.

وتلك نظريَّةٌ فلسفيَّةٌ مثاليّةٌ استَنْضحَها الكاتبُ والمفكّرُ والفيلسوفُ ميخائيلُ نُعيمةَ من بُعْدِ نظرتِه وسعَةِ معرفتِه وصدقِ استشرافِه لمستقبلٍ إنسانيٍّ بعيدٍ عن كلِّ ما يقضُّ مضاجعَ السّلامِ ويرمي بالبشريّةِ في هاويةِ الرَّدى والفَناء، فكان لا بدَّ لهُ من تصوُّرٍ يخالفُ مفاهيمَ البشريّةِ وتصوُّراتها في معرفةِ أسبابِ الحروب، فقد أضافَ بُعداً فكريّاً وفلسفيّاً لتلك الأسبابِ وجعلَها في متناولِ فكرِ الخاصّةِ والعامّة حينَما قدَّم لنا أمثلةً حيَّةً على تنازعِ الصِّغار حولَ أتفهِ الأمور؛ وذلك لأنّهم لم يبلغُوا سنَّ الرّشدِ الّتي تُمْلي عليهم حقوقاً وواجباتٍ تفرضُها ضروراتُ الحياةِ حينَما يصلُ وعيُهم إلى مرحلةِ البلوغِ، فيعرفُ كلُّ مخلوقٍ منهم ما لهُ وما عليهِ، وبالتّالي ينتهي كلُّ نزاعٍ وينْتَفي كلُّ صراع..

ولا شكَّ في أنَّ هذهِ النّظرةَ مثاليّةٌ رائعةٌ لو أنَّ البشريّةَ عرفَت ما لها وما علَيها، فعاشَت إذْ ذاكَ في سلامٍ حقيقيٍّ دائمٍ لا سلامِ هدنةٍ بعد حروبٍ مدجّجةٍ بكلِّ أنواعِ الأسلحةِ المدمِّرة، إضافةً إلى سلامٍ مشحونٍ بسلاحِ النِّكاياتِ والسِّعايات والحقدِ والحسد والبغضِ والنَّميمة.

تظلُّ نظرةُ نعيمةَ محلَّ تقديرٍ وإعجابٍ بالرّغم من إغراقِها في مثاليّةٍ لا يمكنُ أن ترى النُّورَ في أيّةِ حقبةٍ من حِقبِ البشريّة؛ وذلك لأنَّ بلوغَ الإنسانِ سنَّ الرّشدِ لا يعني أنّه أصبحَ ملاكاً طاهراً يعرفُ ما له ويلتزمُ بما عليهِ، ويا ليتَ الإنسانَ يظلُّ دونَ سنِّ الرّشدِ لكانتْ مصائبُه وجرائمُه أخفَّ بكثيرٍ ممّا قد يقترفُه من كوراثَ ومحنٍ لنفسِه وللآخرينَ حينَما يبلغُ سنَّ الرّشدِ، فيتفنَّنُ في الجريمةِ ويتباهَى بما جنَتْ يداهُ، ويصبح سجنُه مصدراً للرّجولةِ والبطولة، وكذا الأمرُ بالنّسبةِ للبشريّة، فقد كانتْ حروبُها قبلَ سنِّ الرّشدِ حروباً همجيّةً بدائيّة، وها هي اليومَ قد بلغَت من الهمجيّةِ ما لا يستطيعُ فكرُ نعيمةَ وعقلُ جمهرةٍ من المفكّرين أن يتخيّلَ أسبابَها ونتائجَها.. كانت الحروبُ بين أممٍ وأممٍ وبين شعوبٍ وشعوبٍ، واليومَ باتتْ بين طاغيةٍ وشعبٍ، أو بين شعوبٍ وثلّةٍ من المستبدّينَ، وكانت الحروبُ لمكاسبَ ومغانمَ أو لقوَّةٍ ومجدٍ، واليومَ باتتِ الحروبُ من أجلِ كرسيٍّ استَعْصى سقوطُه أمامَ جحافلِ العالم في حينٍ سقطَت جميعُ عروشِ الأرضِ بصرخةٍ غاضبةٍ من الأفواه!
كلّما تقدَّمتِ البشريّةُ من سنِّ الرّشدِ زادَتْ حروبُها وآلامُها ومحنُها، وكلّما تطوَّرتْ حضارةُ الإنسانِ تراجعَت أخلاقُه، وكلّما نهضَتْ علومُه وصناعاتُه واختراعاتُه زادَ شقاؤهُ وبؤسُه وضياعُه، وكلّما ازدهرتْ نعمُه وخيراتُه، اتَّسعَت هوّةُ الفقراءِ والبائسين المحرومينَ، وكلّما ارتقَت البشريّةُ بعلومِها واكتشافاتِها نحو الفضاءِ، انحدرَت بجهلِها وتفاهتِها إلى أعماقِ الأرضِ السَّحيقةِ، فليس من حلولٍ لحروبِ البشريّةِ وأسقامِها وآلامِها إلّا بثُلَّةٍ من الملائكةِ تبسطُ أجنحتَها على البشريّةِ، فترمي بالمجرمينَ وقادةِ الحروبِ في جحيمٍ على مشاهدِ الجُموع، فيتربّى الصِّغارُ قبلَ الكِبار ، ويتَّعِظ الشُّرفاءُ قبلَ الأنذال، ويتوبُ المؤمنون قبلَ الكافرين؛ وإلّا فلا أملَ في الخلاصِ حتّى تقومَ السّاعةُ وينتهي الظُّلمُ وتظهرُ الحقوقُ، فيُلقى بالمجرمينَ والضّالينَ والمضلّلينَ في الجحيمِ، وتُساقُ القِلّةُ القليلةُ من النّاسِ إلى النّعيم، وحينَها يتَساوى النَّاجونَ الّذين بلغُوا سنَّ الرّشدِ أمامَ الخالقِ العظيم!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى