

الحقُّ المُبين
ما كنتُ أنوي العودة، فلا شيء يستحق. لكنّ نداءً في قلبي حثّني على مرورٍ أخير، كمن يريد أن يتفقد بقاياه في أطلال خربة، غيَّبها عنّي التناسي، لا النسيان. وصلتُ إلى الجامعة التي حفرت على جدرانها أولى خيباتي، وأول أحلامي أيضًا.
هي ذات الرائحة... لم تتغير، رائحة الورق العتيق، والتكليفات المهملة، أو لنقل: "التكليفات حسب الطلب والشخص، أو ما يطلبه المسؤولون"، وصدى أسئلة حائرة لم تجد أذنًا تصغي وقتها، صوتها يتردد في كل بهو وقاعة. مشيتُ في ممرٍّ طويلٍ ببطء، كأن الأرض نفسها تثقل رجليَّ تحت وقع الذكرى.
رأيتُهم هناك... في القاعة... بعض الدكاترة ما زالوا يجلسون كما تركتُهم زمـــانًا. وجوهٌ يشحبها تكرارٌ ممل، وكأن الزمن تجاوزهم متعمِّدًا إبقاءهم في نفس المقعد، بنفس الابتسامة المتعبة. ما تغيَّر فيهم شيء سوى أسمائهم على الأوراق والمكاتب، يعلوها الآن لقب "أستاذ دكتور" مشفوعًا بهالة جوفاء.
لم أكن أبحث عن أحدٍ بعينه، لكنني ورغم ذلك وجدتُه.
كان واقفًا يتحدَّث بنبرة الواثق الذي لا يُراجع نفسه، كما كان يفعل دومًا حين كان على رأس الهرم. لكنّه حين رآني تغيَّر وجهه. تردَّد في نطقه، وكأنّ شيئًا في حضوري أربكه.
دنوتُ، بصوتٍ لم يرتجف:
السلام على مَن لم يُنصف.
أتذكر يوم قدَّمتُ ملفّي؟ كنتُ أكفأ من كثيرين، أكثر اجتهادًا، أوضح أثرًا.
لكنك اخترتَ أن تُرضي مَن فوقك، وأقصيتَني بلا حجَّة… سوى أنّي لم أكن من زمرة المطأطئين.
حاول أن يقاطعني، لكنّي رفعتُ يدي، كما يفعل القضاة حين يُصدرون حكمًا نهائيًا:
بعد الثورة، كنتُ أملك القدرة على أن أكون مكانك، لا بكفاءتي فحسب، بل بعلاقاتٍ منحني إيّاها الشارع الذي سِرتُ فيه للحرية.
لكني لم أفعل. لم أُساوم، لم أبتز، لم أتوسَّل. لم أكن عبدًا للوظيفة، كما أنت.
وها نحن هنا… أنت ما زلتَ في مقعدك، وأنا خرجتُ، لكن بكرامتي.
صمتت القاعة. وتلبَّد الهواء.
أحسستُ أن الجدران نفسها تهمس: "قُلها، قُلها أخيرًا!"
وقد قلتها، "فعلتها.
استدرتُ وغادرتُ، لا منتشيًا بالنصر، بل متخفِّفًا من ثقلٍ قديم، حمل يثقل ذاكرتي، ويتعبها.
خارج الباب، نظرتُ إلى السماء… كانت زرقاء بشكلٍ حادّ، كأنها تُخبرني أن الطريق لا يزال ممتدًا، ما دام قلبي مستقيمًا.
ثَارًا
وَلِمَ يُنَجِّينا اللهُ، نحنُ معاشرُ الخُوّارِ؟
يُفْنِي الطُّغاةَ بِبَأْسِهِمْ، ويُجْزِيهم دَمَارًا
ضاعت معالم عدلِنا، واستفحل الظلمُ جَهَارًا
فأن يكون لنا على من عادانا ثَارًا
إذا ما الظلمُ من عدلِهم كانت منابِعُهُ
فكيف نرجو اللهَ أن يُؤتيَ انتصارًا؟