مصر التي عرفتها... خيطُ ذكرياتٍ لا ينقطع
"في ابتسامةِ البسطاءِ نصرٌ خفيٌّ لا يراهُ الطغاةُ" سخروا من القهرِ حتّى غَلَبوهُ، وضحِكوا في وجهِ دهرٍ مُرِّ
«1»
كَرَتِ المِسْبَحَة... ومن تلك اللحظة بدأت خيوط الرحلات تتتابع كما تتتابع حباتُ الذكرى المتساقطة من عقدٍ كعقد جدتي.
كانت مصر في قلبي وجهةً لا يطالها الملل، كأنها تفتح لي في كل زيارة بابًا جديدًا من أبوابها العتيقة. وكل بابٍ نطرقه في الغربة يفتح فينا بابًا آخر نحو الذات؛ فالوطن الحقيقي ليس مكانًا نصل إليه، بل إحساسٌ يتّسع كلما مشينا نحوه.
كنت في الثانوي والجامعة حين استمعتُ إلى المنشاوي وعبدالباسط والحصري، فشعرتُ أن تلاوتهم لا تُسمع بالأذن، بل تُتلى على الروح.
ومن شيوخ الأزهر تعلمت أن العلم حين يُمسّ بالنية يصبح عبادة، وأن التدين لا يكون خشونةً، بل فهمًا وجمالًا.
ثم جاء الشعراوي، ففتح لي بابًا آخر في الإيمان: بابًا تُطلّ منه الحكمة بوجهٍ باسم وضمير مطمئن.
استمعتُ خلسة، في ليبيا، إلى خطب الشيخ كشك التي لا تخلو من طرافة، خصوصًا حين "يستلم" زعيمًا عربيًا أو أحد المشاهير، ويعمل له "دُشّ بهدلة".
«2»
في عهد القذافي، وبعد القطيعة مع السادات، حُرم الليبيون من كل ما هو مصري، وحُرم المصريون بدورهم من ليبيا التي كانوا يفضّلون العمل فيها على غيرها من البلدان.
وما أكثر ما يقطع السياسيون بين الشعوب من جسور، ثم تعيدها القلوب خفية، كما يعيد النهر مجراه بعد كل سدّ.
كنت أقرأ لكتّابٍ مصريين، وأجد في كلماتهم طين النيل وملح البحر وعبق الحارة القديمة.
كنت أستمع إلى أم كلثوم، وأغرق في فنجان عبد الحليم لأقرأه معه، وأتأمل في نبرة فريدٍ شجنًا يشبه غربتي الآن، رغم "ثقل دمه".
فالغناء، حين يكون صادقًا، لا يترنم بالكلمات فقط، بل يوقظ فينا ما لم نعرف أننا نحمله من حنينٍ قديم.
ثقافةُ مصر وفنونها وشعراؤها وكتّابها حاضرون في وجداننا العربي، يشكّلون الوزن الأثقل في ميزان التأثير والإبداع.
من البارودي وسرنديباته، مرورا على حافظ إبراهيم وشوقي، وإلى المعاصرين، وقبلهم البوصيري صاحب البردة.
أما الكتاب والصحفيون فحدث ولاحرج، قديما وحديثا، وليسمح لي أن أذكر يعض من قراءت لهم في صغري، معظم أعمال المنفلوطي، وطه حسين، واختيارات لنجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس، وغيرهم مما لم تسعفني ذاكرتي الان بإسمه.
«3»
في كل المجالات هناك وفرة في مصر إلى حدّ الإشباع، وهي مذكورة في القرآن الكريم، ومنها خرج الأنبياء والرسل منطلقين مبشّرين.
عددٌ من المعلمين الذين تلقيت العلم على أيديهم كانوا مصريين، كأن مصر تسكنني من حيث لا أدري.
هناك أوطان تسكننا أكثر مما نسكنها، وتربّينا على مهلٍ دون أن تطلب مقابلًا. كانت، كما هي دائمًا، منارة إشعاعٍ لا تنطفئ، تمدّ ضوءها لكل العرب، وتبقى ثابتة مهما تكسّرت حولها الأمواج.
كنا مبهورين بها، لا لأنها دولةٌ كبرى، بل لأنها روحٌ كبرى، تفيض بالحياة حتى في لحظات انكسارها، وليست بطاردةٍ لأي غريب، بل تحتوي غربته.
فالكِبَر لا يُقاس بحجم الأرض، بل بقدرة القلب على احتضان الغريب كما لو كان ابنًا عاد لتوّه من سفرٍ طويل.
«4»
في إحدى الزيارات، مع بداية الحظر الجوي على ليبيا، ركبنا الحافلة نحو الإسكندرية. كان أبي، على عادته، لا يحبّ الخروج عن المألوف الليبي.
استأجر لنا شقةً في حيّ سبورتنغ، فسيحةً ونظيفةً بخمسين جنيهًا في الليلة.
في اليوم التالي، بعد أن جال بعينيه في أركانها الهادئة، قال لي مبتسمًا: "يا بني، أظننا لسنا بحاجة إلى هذا الاتساع. فلننتقل إلى فندقٍ على البحر، يكفينا دفء القرب لا سعة المكان."
وفعلنا. وجدنا فندقًا على الكورنيش، غرفةً ليست صغيرة، بسريرين تطلّ على الموج.
أقمنا فيها أسبوعين ونصفًا. كانت الليالي هناك تنساب مثل نسيم البحر، لا يشوبها إلا خيطٌ من حنينٍ لمدينتنا، يتلاشى صباحا لوفرة الليبيين وعدم الشعور بغربة مع اهل اسكندرية.
والحنين لا ينطفئ بالوصول، بل يهدأ حين يرى ملامحه في وجوه الآخرين.
«5»
السفر، كما هو معروف، لا يخلو من الطرائف. أوقفنا تاكسي ذات يوم، وحين وصلنا وجهتنا وكانت قريبة جدا، سأل أبي السائق: "كام يا أسطى؟" قال بثقةٍ: "تلاتة جنيه."
تعجّبت. كل من يعرف أننا ليبيون يطلب عشرة. قلت له مازحًا: "يمكن افتكرتنا مصريين؟" ضحك وقال: "لا يا بيه، أنا عارف من كلامكم إنكم ليبيين." قلت له: "غريبة، كل سواق بياخد عشرة، وإحنا بندفعها عادي، لزوم السياحة"، فعلى السائح ان لا يكون "حريصا" للبخل.
ابتسم السائق وهو ينظر للأفق، ثم قال بنبرةٍ مشبعةٍ بالمرارة، لا تخلو من الدعابة المصرية الساخرة التي يقاومون بها قهر الحياة: "يا بيه، مش إنتو بعد كام شهر حتجونا تشحتوا!" ضحكت، لكن كلمته ظلّت ترنّ في رأسي كجرس الحقيقة.
الشعوب البسيطة لا تملك منابر، لكنها تملك بصيرة، والحقّ حين يسكنها يخرج ساخرًا لا صاخبًا.
منذ ذلك اليوم، صرتُ كلّما تذكّرت مصر، أشعر كأنها المسبحة التي كَرَت ولم تنقطع — تتناثر حباتها في ذاكرتي، لكن خيطًا خفيًا لا يزال يجمع تلكم الحبات في قلبي، متينةً كما كانت دائمًا، دافئةً كما أوّل مرة، رغم مرور سبعة عشر عامًا لم تطأها قدماي!
