الديك عالم والعالم ديك
الحقيقة أنَّي أثرت هٰذه القضيَّة من جوانب متعدِّدةٍ في أكثر من كتاب ومقالٍ علىٰ مدار أكثر من ربع قرن مضى... كانت إشارات وتعريضات من هنا وهنا تبعاً لطبيعة الكتاب أو المقال وموضوعه، ولٰكنَّ الموضوع يستحقُّ وقفةً خاصَّةً به ولو كانت سريعةً... لن أطيل، سأركز ما استطعت وأختصر.
سأبدأ تلميحاً وتصريحاً بما سأختم تبياناً وتوضيحاً. الشَّيخ محمد العريفي من كبار الشيوخ والعلماء الذين تسألهم الناس من مختلف أرجاء العالم، وحَتَّىٰ يأتون إليه من بلدان مختلفة لسؤاله والاستنارة برأيه وعلمه. مرَّةً كان عند أمِّه وقد كانت مريضةً، وعندما أراد الخروج سألها إن كانت تحتاج منه شيئاً. فقالت له:
ـ أحضر لي شيخاً يقرأ عليَّ الرقية الشَّرعيَّة.
فضحك العريفي وقال لها:
ـ وأنا ماذا أفعل؟
فقالت له:
ـ أنت ابني.
لأنَّهُ ابنها ليست مقتنعةً به. ابنها وليس ابن الجيران، ومع ذٰلكَ وعلىٰ ما هو عليه من علمٍ ومكانةٍ ليست مقتنعة به.
هل هي وحدها كذٰلكَ؟
تشيع في الثَّقافة العربيَّة، ورُبَّما الشَّرقيَّة فالدلائل توحي بذۤلكَ نوعاً ما، قولهم: «أزهد الناس بالعالم أهله وجيرانه»، ومن مثله قولهم الشائع: «مزمار الحي لا يطرب». ومثله أيضاً قولهم: «لا كرامة لنبي بَيْنَ أهله». وفي المقابل من ذٰلكَ يشيع قولهم: «كلُّ ديكٍ علىٰ مزبلته صيَّاٌح»، وهٰذا رُبَّما أصله أو أضيف إليه قولهم: «كلُّ كلبٍ ببابه نبَّاح وكلُّ ديكٍ علىٰ مزبلته صياح». ولن يخلو الأمر من مثله من الأمثال علىٰ أيِّ حال.
وينتصب السُّؤال: أليس من تناقض بَيْنَ المثلين؛ مثل عدم احترام العالم بَيْنَ أهله وحيِّه، ومثل سيادة الديك وعلو صوته في حيِّه، أو الكلب بباب بيته؟
لو كان من تناقض لما استحقَّ طرفٌ منهما علىٰ الأقل أن يكون حكمةً ولا مثلاً... التَّناقض يعني إمَّا عدم صوابهما معاً أو عدم صواب طرفٍ منهما علىٰ الأقل.
سأبيِّن حقيقتيهما معاً بعد قليل. ولٰكنَّ السُّؤال الذي ينبثق الآن من سابق الكلام: هل يعني ذٰلكَ وجوب عدم وجود تناقضٍ بَيْنَ الحكم/الأمثال؟ وهل يمكن تعميم قولنا: أيُّ تناقضٍ بَيْنَ حكمتين أو مثلين يعني بطلان طرفٍ منهما علىٰ الأقل؟
هٰذا يقودنا إلىٰ تفاصيل وتشعبات ستطول بنا وليس هٰذا مكانها في حقيقة الأمر. ولٰكن لنقل باختصار: إذا انتبهنا إلىٰ الخصوصية والعمومية والظرفية في الحكمة وفي المثل، وعلو الحكمة علىٰ المثل فإِنَّهُ يمكننا القول بوجوب عدم وجود تناقض... وما يوجد أو قد يوجد فإِنَّهُ موجود بحكم التعبير عن العقلية الاجتماعية للأمَّة أو المجتمع الذي يتبنى هٰذا التناقض أو هٰذه التناقضات.
الحقيقة التي قلَّ من يعطيها ما تستحقُّ من اهتمام وعناية، وقلَّ من يدركها علىٰ نحو ما تستحقُّ من أهميَّةٍ وخطورةٍ هي أنَّ الحكم والأمثال ليست محض أقوال مرسلةٍ، أو أطلقها أشخاص أذكياء أو حكماء وذهبت حكمة أو مثلاً. أبداً الحكمة قد يطلقها أدرىٰ أو لم يدر شخص عادي ورُبَّما أقل من عادي، ومن الحكم التي تعتنقها أكثر الشُّعوب قولهم: «خذوا الحكمة من أفواه المجانين».
إذن قائل الحكمة ليس بالضَّرورة فيلسوفاً أو حكيماً أو ذكيًّا وإن كانت أكثر الحكم أطلقها كبار العقول فيما نعتقد. الحكمة حكمة بذاتها، بمضمونها، بلغتها، بأسلوبها، بإيجازها، بدلالتها... وليست بقائلها، ولا تعرف الناس أحداً من قائلي الحكم إلا في استثناء قليلة أو نادرة.
لا يذهب أيُّ قولٍ جميلٍ حكمةً ولا مثلاً أبداً، مهما كان محكماً ودقيقاً، وإنَّمَا يذهب من الكلام حكمة أو ما مثلاً ما يتواطئٰ عليه المجتمع علىٰ أنَّهُ حكمة. ولا يتواطئٰ المجتمع في مثل هٰذا الأمر إلا علىٰ ما يسنجم مع عقليته وبنيته التفكيرية ويلقى من ثمَّ ارتياحاً لاشعوريًّا في القلب لتقبله علىٰ أنَّهُ حكمة.
وما الحكمة؟
الحكمة هي ما يستحقُّ أو ما يجب أن يحتكم النَّاس بها وإليها. أي إنَّهَا تستحقُّ أن تكون مرجعاً للإنسان في عمله وحياته نسبيًّا أو مطلقاً، أي نسبة لموضوع الحكمة وظرفها أو علىٰ نحو مطلق في سائر الحياة.
وبهٰذا المعنى فإنَّ الحكم والأمثال، وهٰذا هو المهم في الموضوع، تمثل بنية تفكير المجتمع وطبيعته القيميَّة؛ الأخلاقيَّة والنَّفسيَّة والاجتماعيَّة والتَّربويَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة... ولذٰلك فهي تختزل قيمه وتفضيلاته ونمط تفكيره ونمط حياته، بل تعبر عن أسرار ودقائق هٰذا المجتمع التي تكشف عمَّا وراء ما يظهر في سلوكاته التي تبدو كأنَّهَا لا تفسير لها. الحكم والأمثال تفسر طبيعة سلوك المجتمع الجمعيِّ والفرديِّ النَّابع من العقل الجمعيِّ.
لنتساءل الآن: هل يوجد في قومٍ حكمة تقول: «أزهد النَّاس بالعالم أهله وجيرانه»؟. أو «لا كرامة لنبي بَيْنَ أهله»، أو «مزمار الحي لا يطرب»؟
رُبَّما تجد انتشاراً لمزمار الحي لا يطرب بلفظه أو ما يشبهه. ولٰكنَّ الحقيقة الأكيدة هي أنَّ العرب علىٰ نحو الخصوص والشَّرقيين علىٰ نحو العموم تنتشر فيهم ثقافة الزهد بالعالم وجحده. ولا ينتشر مثل ذٰلكَ بَيْنَ بقية الشُّعوب. وحَتَّىٰ الطرف المقابل: «كل ديك علىٰ مزبلته صياح»، فإنَّهَا في حدود علمي قليلة الانتشار بَيْنَ الشُّعوب الغربيَّة.
وبهٰذا المعنىٰ ينسب إلىٰ أحمد زويل الفائز بجائزة نوبل قولاً معبراً: «الغرب ليسوا عباقرة ونحن أغبياء... هم فقط يدعمون الفاشل حَتَّىٰ ينجح، ونحن نحارب الناجح حَتَّىٰ يفشل».
القول جميلٌ ومعبِّرٌ عن حقيقة الحكم والأمثال السابقة وطبيعتي التَّفكير الشَّرقي والغربي. إذا عدنا إلىٰ عمقي الثَّقافتين الغربيَّة والعربيَّة أو الشَّرقية وجدنا هٰذه الحقيقة متمثِّلة فيهما بعمق. حسبك أنَّ الحكم القائلة بأنه «لا كرامة لنبي بَيْنَ أهله»، وأيضاً «أزهد الناس بالعالم أهله وجيرانه»، ليستا حديثتي العهد بحال من الأحوال.
أمَّا «أزهد الناس بالعالم أهله وجيرانه» فهو من الأحاديث الضَّعيفة التي نسبت إلىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم. أورده الشيخ الألباني رحمه الله في سلسلة الأحاديث الضعيفة (6/272)، وقال هي لا تثبت مرفوعةً أو موقوفةً، ولٰكنَّهَا وردت عن بعض التابعين. وفي ذٰلكَ كناية عن مدى أهميَّة هٰذه الحكمة وقوتها التي أوصلت إلىٰ رفعها إلىٰ النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما «لا كرامة لنبي بَيْنَ أهله» ولها خواتيم متعدِّده مثل قومه، وطنه، بلده، أرضه... فهي من آيات الإنجيل، ففي إنجيل يوحنا، الإصحاح 4/44 جاء: «وبعد اليومين خرج من هناك ومضى إلىٰ الجليل، لأن يسوع نفسه شهد أنَّهُ ليس لنبيٍّ كرامة في وطنه».
المسيح عليه السلام شرقي. ولٰكنَّ الحكمة من الإنجيل والإنجيل كلام الله تعالىٰ، بغض النَّظر عما طاله من تحريف، وإذا نظرنا في القرآن الكريم وجدنا الكثير من الآيات بهٰذا المعنىٰ كقوله تعالى في الآية 11 من سورة الحجر: «وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ»، وقوله تعالى في الآية 30 من سورة يس: «وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ» وغيرها غير قليل من الآيات.
الذي يبدو أنَّ الشَّرق يكاد يكون متفرِّداً في عدم تقدير العلماء بل ومحاربتهم أيضاً، وإن كان من نعترض بكلام الله تعالى فالأنبياء كلهم في الشَّرق ولم نعرف نبيًّا في الغرب. وهٰذه من أغرب ظواهر الشَّرق علىٰ الرَّغْمِ من كلِّ ما فيه من شيم ونبل يفتقر إليها الغرب.
المتنبي يقطع بأنَّ أمَّته، أمَّة العرب، هي الوحيدة التي تتسم بمحاربة النوابغ من أبنائها، وهو القائل في ذٰلكَ بيته الشهير:
أَنَا فِي أمَّةٍ ـ تَدَاركَها الله ـ
غَرِيْبٌ كَصَالحٍ في ثَمَوْدِ
ومثله ما قاله ابن الجوزي شعراً:
يَرَوْنَ العَجِيْبَ كَلامَ الغَرِيْبِ
وَقَوْلَ القَرِيْبِ فَلا يُعْجِبُ
مَيَازِيْبُهُم إِنْ تَنَدَّت بِخَيْرٍ
إِلىٰ غَيْرِ جِيْرَانِهِمْ تُقْلَبُ
وَعُذْرُهُمُ عِنْدَ تَوْبِيْخِهِم
مُغنِّيَةُ الحَيِّ مَا تُطْرِبُ
الأمثلة والشَّواهد علىٰ ذٰلكَ كثيرة أكثر من أن تحصىٰ في حقيقة الأمر بدءاً من الشِّعر الجاهلي إلىٰ اليوم، فإذا كنا قبل قليل استشهدنا بمنسوب لأحمد زويل فلنذكر ما قاله حافظ إبراهيم في أواسط القرن الماضي:
أَنَا لَوْلا أنَّ لِيْ مِنْ أُمَّتِي
خَاذلاً مَا بِتُّ أَشْكُو النُّوَبــا
أمَّةٌ قَدْ فُتَّ فِيْ سَاعِدِهَا
بُغْضُهَا الأَهْلَ وَحُبُّ الغُرَبَــا
وهو لا يختلف عن قول ابن الجوزي في المبدأ. والفكرة المتفردة في كليهما ويتجاوزان بها كثيرين هي أنَّهُما انتبها إلىٰ أن الأهل لا يكتفون بتقزيم النابغ من أبنائهم، بل يتجاوزون ذٰلكَ إلىٰ عملقة الآخرين، الرَّفع من شأن الآخرين وعدم تقدير أبنائهم. وهنا مفتاح المصيبة الثانية، مفتاح فهم المثل المقابل: «كل كلب ببابه نباح وكل ديك علىٰ مزبلته صياح».
قلنا بداية إِنَّهُ لا يوجد تناقض بَيْنَهما، فكلاهما صحيحٌ. وانظر الآن إلىٰ وجه التَّقابل الذي يعنينا هنا، لأنه توجد مقابلة له من وجه آخر. ففي حين تزهد الناس بالعالم أو النابغ الحقيقيِّ، ولهٰذا الأمر تحليلٌ نفسيٌّ طويلٌ، فإنَّهَا تتبجح وينتفخ ريشها بالدعي كثير الصياح أو الاستعراض وهو قليل الفعل، ولهٰذا أيضاً تحليلٌ نفسيٌّ طويلٌ.
اتفاق في المبدأ، وتناقض في السلوكين، وفي كلا السلوكين تناقض مع المنطق، ومع الواجب. تضحك وأنت تسمع لشخص يتحدث عن القيمة العالمية لكتاب أو مقال أخيه أو قريبه أو ابن حزبه أو طائفته وأنت تعلم حقيقة الشخص الذي يتم الحديث عنه، وتعرف أنَّ قيمته وقيمة الموضوع الذين يتم رفعه إلىٰ مستوى العالمية لا أساس لها من الصِّحَّة وأنَّ الكلام محض أوهام أو اختلاقات شعورية أو لاشعورية.
شأن الديك الإنسان هو شأن الديك بَيْنَ الدجاجات. كما الدجاجات تمجدن ديكهن بالسمع والطاعة والمشي وراءه من دون مناقشة كذٰلكَ يقوم الناس بدور الدجاجات مع الشَّخص الفارغ الذي ينفش ريشه ويستعرض بَيْنَهم قليله علىٰ أنَّهُ كثير، وضحله علىٰ أنَّهُ غزير، وشحه علىٰ أنَّهُ وفير، وخشنه علىٰ أنَّهُ وثير، ومقرفه علىٰ أنَّهُ مثير... فيغدو كالديك الذي يستقوي فوق مزبلته ويأخذ بالصياح وهو في غاية الارتياح، وهو لو ابتعد عن مزبلته قليلاً، لكان كالعصفور إذا كان مبلولاً، مهما دارى لن يبدو إلا ذليلاً، أو كان كالديك النتيف يخاف ولا يخيف، إن أراد أن يصيح خرج صوته كأنَّهُ مبحوح.
ومع ما يقع فيه هٰذا الفارغ المنفوش الريش من الخبط والخلط والخبص واللبص يظلُّ بَيْنَ أهله أثيراً، ويرون قليله كثيراً، ويعدون غثه كنزاً كبيراً... وهٰؤلاء أنفسهم هم الذين يبخسون النابغ الحقيقي التقديراً، ويزهدون فيه زهداً كبيراً، علىٰ الرَّغْمِ من أنَّهُم له أهلاً.
هكذا نحن في الشرق، مولعون بتقزيم النوابغ وعملقة الأقزام، مولعون بتقزيم القريب وعملقة الغريب. وليس في هٰذا أيُّ جلد للذات، ولا أيُّ افتئات علىٰ الحقيقة، وما سقناه من شواهد من الحكم والأشعار والأخبار يكفي، وما سقناه ليس إلا عيِّنةً قليلة من كثيرٍ. حسبنا منها أنَّها الحكم والأمثال التي قرَّت في العقل الجمعي فأقرها مسطرة لتقاس بها السلوكات وتفهم من خلالها.
إنَّهَا واحدة من عجائب العقل البشري. واحدة وحسب، فعجائب العقل البشري كثيرة حَتَّىٰ تكاد تؤمن أنَّك لا تبالغ إذا قلت إنَّهَا لا تحصىٰ. ومع الأسف الشَّديد أنَّ هٰذه الظَّاهرة تكاد تكون مقتصرةً علىٰ العالم الشَّرقي وحده وأكثر ما توجد في الشَّرق توجد في عالمنا العربي.
لماذا؟
توجد تحليلات نفسيَّةٌ طويلةٌ كما أشرنا. ولٰكنَّهَا أولاً وأخيراً سرٌّ من أسرار الخالق في خلقه. ولا أعني أبداً ولا بحال من الأحوال أنَّ الله أراد ذٰلكَ، فالله تعالى في صريح الآيات أنكر هٰذا السُّلوك وأدانه. وأبى الإنسان إلا أن يكون كنوداً كفوراً.