الثلاثاء ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم هناء السيد متولي

الذي تسقط أجزاؤه

أمسح العرق المتدافع على جبهة والدي، وابتسامة صغيرة تطفو على وجهي رغم ما يكاد أن يفتك بي التعب. ساقاي، في صمتٍ قاتل، تحترقان. ولكنني أرفع وجهي نحو الشمس، عيوني تومض بسؤال غير مسموح بالإجابة: “لماذا تلتهبين هكذا فوق رؤوسنا؟” حرارة متكاثفة تشعل الجو، تقطع التنفس، تقتحم كل شيء.

الطابور لا ينتهي، كأن الأزمنة تلتوي في حلقاتٍ لا تنقطع، وكأن كل جسدٍ في الطابور يذوب في انتظار لا يبدو له نهاية. الناس تسقط من السماء، أشكالهم تتبعثر بين الظلال والأمل المكسور. لا أحد يُسمح له بالعبور، كأن الأفق نفسه قد تحوّل إلى حاجزٍ آخر.

رائحة اليأس تتسرب بين ثنايا جسدي، تختلط بالعرق والموت المخبأ في العيون. الجنود، بصمتهم المميت، يواصلون فحص الهويات. كل شيء يتنفس على وتيرة واحدة: أوامر، نداءات فارغة، صمت مستمر.

الجدار، لا شيء غير الجدار، يتطاول في المسافة، يتمدد ببطءٍ مرعب، حتى أنني أشعر للحظة أن الكون كله قد احتجز داخل هذا الجدار، وكأن الأرض لا تسع سواه. كل خطوة أتخذها في الطابور، كل لحظة أمر فيها تحت ظل الشمس المحمومة، هي لحظة داخل جدار يتسع ليحاصرني، ليحبس كونًا بأكمله

العودة الكسيرة من المعبر، ككل مرة. سبعة عشر عامًا من الانتظار، وفي كل يوم أمل لا ينطفئ، أمل العبور إلى الجانب الآخر، أمل رؤية عائلتي، أمل أن تتحرك حكايات جدتي أمامي، أن تصبح حقيقةً من لحم ودم، لا مجرد صوت يتردد في ذاكرتي. لكن الجدار واقف هناك، صامد كأنه القدر، يمنعني حتى من احتضان ظلهم.

“أبي، أنا أكره هذا الجدار. أكره كل حجر فيه، كل قطرة سم تسري في أوصاله. أكرهه بطول الـ 700 كيلومتر، أكرهه بكل نبضة في قلبي المحاصر. كيف يمكن لجدار أن يكون بهذا القسوة؟ كيف يمكن له أن يقرر من يرى عائلته ومن يبقى غريبًا؟ أبي، متى يسقط؟ متى أراه ينهار مثل كابوس انتهى؟ متى أمرّ دون أن يفتشني العدو في عيون الجنود والمجسات وكاميرات المراقبة؟ متى أصبح حرًا يا أبي؟”

ابتلعتُ ريقي، وشعرتُ بالكلمات تتلاشى في حلقي. لم أقل شيئًا. لم أشأ أن أكسر أبي أكثر. صمتي كان أهون من أن أضع ثقلًا آخر على كتفيه المنحنيين تحت وطأة السنوات والحواجز والانتظار.

مشينا معًا بمحاذاة الجدار، كمن يسير في سرداب لا نهاية له. كلما تقدمتُ خطوة، شعرتُ به يلتف حولي، كحية عملاقة تحكم قبضتها، تحبسني في متاهة من الإسمنت والأسلاك، متاهة بلا مخرج، بلا أفق.

وفي الليل، أصعد إلى سطح المنزل، أراقبه. لا يحتاج إلى جنود يحرسونه، فهو بحد ذاته عين لا تنام، يتربص بالأجساد الحالمة بتجاوزه، يطارد الهاربين من قهره. يقف هناك كوحش يلتهم الذكريات، يسرق الطرقات، يبتلع الأفق. علوه الشاهق يصغّرني، يجعلني نقطة ضائعة أمام جبروته، يقتل حقول الزيتون التي لم تعرف يومًا الحدود، يقطع الرحم، يفصل الأحبة عن بعضهم، يضع جدارًا بين القلب ونبضه.

لكن حتى الإسمنت يتشقق. حتى الجدران التي تبدو أبدية، تخفي داخلها شرخًا صغيرًا، شقًا يكبر ببطء، ينتظر اللحظة التي يصبح فيها الانهيار قدرًا

أفتح عيني، أجدني واقفة وسط مشهد يشبه ذاكرة قديمة، صورة ضبابية من زمن بعيد. الهواء نقي، مشبع برائحة الأرض بعد المطر، والأفق ممتد بلا أسلاك، بلا أبراج مراقبة، بلا عيون تتربص بالعابرين.

أتقدم خطوة، فأشعر بالتربة الطرية تحت قدمي، بملمسها الذي لم أعهده من قبل، كأنني أسير على تاريخ حيّ، على أرض لم يمزقها الجدار إلى نصفين. أرى أطفالًا يركضون بلا خوف، نساء يجلسن على عتبات البيوت يتبادلن الأحاديث، عجوزًا تجلس تحت شجرة زيتون تمتد أغصانها بحرية، كأنها لم تُحاصر يومًا، لم تُجتز جذورها إلى الجهة الأخرى من العالم.

أبحث بعيني عن أمي، عن أبي، عن وجه جدتي الذي تلاشى في ذاكرتي تحت وطأة السنوات. هناك، عند حافة الطريق، تقف امرأة تلوّح لي، تشبه أمي كما كانت قبل أن يُثقلها الحزن والانتظار. قلبي يركض قبل قدميّ، أقترب، أمدّ يدي، لكنها لا تتحرك، تظل واقفة كأنها تنتظرني منذ زمن بعيد.

“أمي؟”

صوتي يخرج خافتًا، مرتجفًا، خائفًا من أن يختفي المشهد فجأة، أن يكون مجرد وهم. لكنها تبتسم، تفتح ذراعيها، فأرتمي بينهما كما لم أفعل منذ سبعة عشر عامًا.

أشعر بدفء يحيطني، بحرارة الجسد الذي ظننت أنني لن ألمسه مجددًا. لكنه هنا. كل شيء هنا. الحقول، الطرقات القديمة، الأبواب الخشبية التي لم تُغلق يومًا أمام العابرين، جدتي تحكي قصصها بلا خوف، كأن أحدًا لم يمزق الحكاية إلى نصفين.

لكن شيئًا ما يتحرك في البعيد. ظلال سوداء تتموج خلف المشهد، تتكاثر ببطء كأنها دخان يزحف، كأنها ذاكرة تحاول أن تستعيد سطوتها.

أغمض عيني للحظة، أريد أن أبقى هنا، أن يظل هذا المكان حقيقيًا. لكن عندما أفتحهما مجددًا، أشعر بالأرض تهتز تحت قدمي، الهواء يصبح أثقل، الألوان تبدأ بالتلاشي.

“لا… ليس بعد…”

أمدّ يدي، أحاول الإمساك بأي شيء، لكن الأصوات تتلاشى، الدفء ينسحب، المشهد يتحلل أمامي كضوء الفجر حين يمحوه النهار.

ثم…

أستيقظ. أفتح عيني، لكن هذه المرة، لا أستيقظ على سقف غرفتي الرمادي. لا أستيقظ على الجدار ذاته، الصامت، القاسي. بل على مشهد لم أكن لأصدقه لو لم أشهده بنفسي.

الجدار… ينهار.

ليس كحلم يتلاشى عند الفجر، ليس كذكرى باهتة تتبدد. إنه ينهار أمامي حقًا. تتساقط حجارته كدموع ثقيلة، ينحني كما لو كان يعتذر، كأن ثقله لم يكن إلا ظلًّا لخوفه. أقترب بخطوات مترددة، أمدّ يدي وألمس سطحه البارد، فأشعر به يرتجف، كأنه كائن كان يختنق طوال هذه السنوات، والآن فقط بدأ يتنفس.

أسمع صوتًا، ليس من داخلي هذه المرة، بل من داخله.

«سامحيني»

أتراجع، أنظر إليه بذهول. أهو يعتذر؟ أهذا الجدار الذي حاصرني وأبعدني عن عائلتي، يبكي الآن بين يدي؟

أشعر بانفراجة في صدري، كأن الهواء صار أخف، كأنني أنا أيضًا كنت سجينة داخله، والآن أتحرر. لا يمكن أن أبقى صامتة، لا يمكن أن أترك هذا المشهد يمرّ كحلم عابر.

أركض، أركض في الأزقة، أدخل البيوت، أنادي الناس في الشوارع:

“تعالوا! تعالوا، أيها الفنانون، أيها الشعراء، أيها الرسامون، أيها الممثلون! تعالوا، فالجدار يتكلم! الجدار يعتذر!”

تتجمع الحشود، يأتي الكتاب يحملون دفاترهم، الرسامون يهرعون بألوانهم، الممثلون يقفون وكأنهم على وشك أداء مشهد العمر. الجميع مذهول، يحدقون في ما كنت أراه وحدي، لكنهم الآن يصدقون.

أقف أمامكم الآن، ليس فقط ككاتبة أو شاهد، بل كمن رأى ما يجب أن يراه الجميع. ما رأيته ليس مجرد حلم أو خيال، بل عالم آخر، عالم بلا جدران ولا حدود. عالم كان مخفيًا خلف ذلك الجدار المقيت، كان مخبأً بين خيوط الواقع وذكريات الماضي.

في هذا العالم، كان الجدار ليس جدارًا، بل مساحة بلا قيود، حيث يتحرك الشباب بحرية، يرسمون الجرافيتي على الجدران، ليس لتدميرها، بل لإحياء ما كان مفقودًا. كانوا يرسمون الحرية بكل ألوانها، بكل معانيها. الجدار الذي كان يطاردني، أصبح لوحة من الأمل، متحولة إلى فن حي، ينبض بالحياة والأمل.

لكن الجنود، كالعادة، كانوا هناك. يهرعون ليفرقونا، ليعيدونا إلى مكاننا في الخوف والظلام، ولكننا للمرة الأولى لم نعد خائفين. فرحنا. لم نعد نركض بعيدًا عن الجدار، بل سعينا نحو الرسومات التي تملأه، نحو الألوان التي تحطم الخرسانة، نحو الكلمات التي تغير الأقدار.

في اليوم التالي، انهارت بعض الحجارة من الجدار، ولكنها لم تكن مجرد حطام. كانت بداية لتغيير، بداية لانتشار الخير، بداية لتجمع الناس من جديد. الجنود، الذين اعتادوا أن يكونوا القوة التي تفرقنا، فقدوا صوابهم. أخذوا يطلقون الرصاص علينا، لكننا لم نتراجع. الرصاص، كما كانت الحجارة، أصبح جزءًا من الجدار، يرد إليهم ويتساقط الجنود واحدًا تلو الآخر. الفوضى تعم المكان، لكن داخلها، كان هناك شيء يتغير.

استمر الجدار في الانهيار. لم يكن انهيارًا عاديًا، بل موتًا، موتًا مطهرًا. كل قطعة تتساقط كانت تحمل معها ألمًا قديمًا، ولكنها كانت تُطهّر الأرض، تُعيدها إلى ما كانت عليه. أمسك بالحجارة المتناثرة، فتتحول بين يدي إلى طين. الطين الذي يشبه الأرض، الذي يشبه العائلة، الذي يشبه الوحدة.

لكن الجنود، الذين لا يتعلمون أبدًا، استمروا في بناء الجدار. لم يفهموا أن الجدار لا يمكن أن يكون قديمًا إلى هذا الحد، أن هناك أشياء يجب أن تُترك للزمن، أن هناك جدرانًا لا تبنيها الحجارة، بل الروح.

لكن الشباب لم يتوقفوا. استمروا في الرسم، في الكتابة، في تحدي الجدار بكل ما لديهم من قوة، بالإبداع. لم يكفوا عن بناء أمل جديد، أمل يتجاوز الحدود التي فرضها الآخرون.

وأنا، أنا أعرف الآن أن ما رأيته ليس مجرد حلم. ما رأيته سيحدث. يومًا ما، سنرى جميعًا هذا العالم. عالم لا جدار فيه، لا حدود ولا عيون تراقب. سنكون هناك، حيث نرسم الحرية، حيث نعيش الأمل


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى