

الشجرة الحية
في قرية فلسطينية منسية، لا تُذكر في نشرات الأخبار ولا تطأها أقدام الزائرين، كانت الأشجار وحدها الشاهدة على كل شيء. هناك، حيث يحتفظ التراب برائحة الدم، وتعرف الحجارة أسماء الشهداء، كان الزمن يمضي ببطء، كأن الحياة تسير على رؤوس أصابعها، خشية أن تزعج من تبقى من الأحياء.
يوسف، رجل خمسيني ملامحه منقوشة بالحزن والتجاعيد، اعتاد أن يجلس كل صباح تحت شجرة زيتون عتيقة، وكأنها آخر ما تبقى له من الدنيا. كل شيء فيه كان منهكًا: يداه، نظراته، وحتى صمته. فقد زوجته في غارة، واختفى ابنه منذ عامين دون أثر. وحده بقي بين الركام والذكريات، يبحث عن سبب يمنحه القوة للاستمرار.
الشجرة التي يجلس عندها لم تكن مجرد شجرة. كانت تشبهه كثيرًا: جذعها مشقوق، أغصانها ملتوية، وأوراقها قليلة لا تقوى على مقاومة الريح. لكنها لا تزال واقفة، تمامًا كيوسف. لا تسقط، لا تنكسر.
في صباح خريفي هادئ، جلس يوسف كعادته، يمرّر أصابعه على الجذع المتشقق، حين لمح شيئًا غير مألوف: كلمات محفورة في الخشب. اقترب ليتفحّصها. "من سيحمل صوتنا؟ من سيساعدنا على العودة؟" كانت الحروف حديثة، رغم قِدم الشجرة، كأن أحدهم كتبها للتو.
رفع عينيه بحذر. من كتبها؟ ومتى؟ ومن هذا الذي تجرأ على نقش الألم في هذا الجذع الصامت؟
وفي الأيام التالية، ظهرت كلمات جديدة: "الحرية قادمة"، "لن ننسى"، "لن نرضى بالذل". بعضها كُتب بخط متعرج، وبعضها الآخر بخط يد مرتجف، لكنها جميعًا كانت صادقة، تتكلم بلغة واحدة، وتصرخ بنفس الصوت.
تحولت الشجرة إلى دفتر حكايات. بدأ الأطفال والنساء، وحتى العجائز، يمرون من هناك، يتركون أثرًا، ينقشون أمنية، أو اسم شهيد، أو جملة تمسك بخيط الأمل. صار الجذع يسرد التاريخ، لا بالصوت، بل بالنقش، بالحفر، وبالوجع.
شعر يوسف بشيء يتغير داخله. لأول مرة منذ سنوات، لم يشعر بالوحدة. صار ينتظر الفجر، لا لرؤية الشمس، بل لقراءة الرسائل الجديدة. أحسّ أن الشجرة ليست ملاذه وحده، بل ملاذ الجميع. صارت مكانا مقدساً، كأنها قبلة الوجع الفلسطيني.
وذات فجر رمادي، تغيّر كل شيء.
دوّت أصوات الجنود فجأة. اقتحموا القرية كما يفعلون دائمًا، لكن هذه المرة كانت وجهتهم واضحة: الشجرة. هرع يوسف إلى المكان ليرى ما سيحدث، وسرعان ما لمح المناشير والفؤوس.
أحدهم صرخ: "هاته الشجرة تنشر التحريض!"، وآخر قال: "ليست شجرة، بل انتفاضة مكتومة".
صرخ يوسف قائلًا: "أتركوها، يكفي أنكم أحرقتم قلوبنا"، لكنهم دفعوه أرضًا بقسوة. جلس يشاهدهم وهم يقطعون الجذع ضربة تلو الأخرى، والدمع في عينيه لا يسيل، بل يتوهج بحرقة.
سقطت الشجرة. نعم، سقطت.
عمّ الصمت. ارتفع الغبار، وكأن الأرض نفسها تنحب. لكن بين هذا الحزن، شعر يوسف بشيء غريب… لم يكن ألمًا، بل نوع من اليقين. سقطت الشجرة، لكن الرسائل لم تختفِ. الكلمات التي حفرت فيها انتشرت قبل سقوطها، وها هي الآن تنمو في كل مكان.
أصبح الأطفال يكتبونها على الجدران، والنساء يطرّزنها على شالاتهنّ، والشباب يوشمونها بأجسادهم.
"لن ننسى"، "الحرية قادمة"، تحولت إلى أغانٍ ترافقهم في تفاصيل الحياة.
رغم كل شيء، لم ينكسر يوسف. صار يمشي بين أنقاض قريته، يهمس لكل حجر، لكل باب مكسور: "أخبريهم من كنا، ومن سنكون".
وفي ليلة مقمرة، رأى حلمًا. رأى الشجرة تنمو من جديد، من نفس الجذور، أكبر وأقوى. رأى اسم ابنه محفورًا على أحد الفروع، ورأى القرية تضج بالحياة مرة أخرى.
استفاق وقلبه دافئ. فهم أن الشجرة لم تكن أملًا فحسب، بل رمز الأمل الحقيقي الذي تجسد فيها، وفي صبرهم، في كلماتهم، في الإرادة التي لا تُهزم الإنسان الغزي.
منذ ذلك اليوم، صار يوسف يحمل سكينًا صغيرة. لا ليقاتل، بل ليحفر على الجدران، على الحجارة، في كل مكان يكتب كلمات المقاومة:
"لن ننسى"، "الحرية قادمة"، "العودة وعد".
وفي كل زاوية من القرية، عادت الكلمات تزهر من جديد. لم يعد يوسف وحده، ولم تعد القرية صامتة.
صار الصدى أقوى من الرصاص، وصار التاريخ يُكتب لا بالحبر، بل بالدم والعزم.
أدرك يوسف أن جذع الشجرة لم يكن سوى الصفحة الأولى من كتاب طويل اسمه "صمود لا ينكسر".