

الشهداء
عدما فتحت عينيها؛ وجدت ركاما من التراب فوق صدرها، وشعرت أنها تختنق ولا أحد يوجد بقربها غير مواء القطط، وخرير مياه الصرف الصحي النثنة، فبدأت تطلق صرخات متتالية كي يسعهما أحد المارة وينقذها من ركام التراب الذي يغطي كلّ جسدها الناعم، كلما حاولت سحب نفسها للأعلى؛ للتخلص من بعض أطراف القصب والقصدير الذين يغطيان وجهها المشرق، لكن بلا جدوى؛ فاستمرت بالمحاولة مرات عديدة ولم تقدر مروة أن تفك نفسها من تقل التراب والأشياء الموجودة فوقها، فكان وقت الفجر؛ وبدأت حركة المصلين تسمع من بعيد، والفقيه يردد الصلاة خير من النوم، بينما مروة تحت التراب نائمة وأسنانها تصطكّ مع حنكها من شدة البرد، لم تعد تذكر شيئا مما وقع، فكان آخر ما تذكرته أنها كانت وسط إخوانها الصغار مجتمعين على وجبة العشاء وأبيها يداعبها ويقول لها: سوق تكبرين يا مروة وتصبحين شاعرة؛ تهجين كل من خرب فلسطين، وأمها تضحك وهي ترد على زوجها، لا يا سعيد، ابنتنا سوف تكبر وصبح صانعة أسلحة؛ فتعيرها لكل العرب والمسلمين؛ ليدافعون على القدس الشريف، وتحمي فلسطين ومدينتنا يافا، كان هذا آخر شيء تذكره حتى وجدت نفسها تحت هدم مزلهم الصغير؛ بفعل صاروخ دمر كل شيء حولها، لم تقوَ عن الحركة فصاحت مرة أخرى بصوت عالٍ، انقذوني.. انقذوني، واختلط الكلام بالبكاء. ولحظة سمعت خطى أرجل فوق رأسها الصغير، تمشي ببطء، فنادت : أبي أنا هنا، أمي تعالي أنا تحت التراب.. قبل أن تكمل صيحاتها الصغيرة والبريئة؛ حتى وقفت رجلان قويتان بقرب من رأسها الصغير، رفعته محاولة معرفة من يقف فوقها، وجدت رجلا ملثّما يحمل بندقية لا يظهر من جسده شيئا غير جحاظة عينيه، نظرت إليه نظرة سريعة ومقلقة، فبدا لها شخصٌ لم تره من قبل، وقالت له: عمّي جسدي يؤلمي كثيرا خذني إلى أمي، وأذرفت دموعا حتى بللت التراب الذي كان بقرب أذنيها المليئتين بالغبار وهشيم الأرض، فكانت تعتقد أن الرجل سوف ينقذها من ركام التراب وثقله ويأخذها إلى والديها، لكن الرجلَ لم يقلْ شيئا، فقط اقترب منها وهمس لها في أذنيها وقال: كل الفليسطنيين أعدائي، ولن نترك أحدا منهم يكبر حتى لا يؤذي طفلا منا..وتركها على حالها ولم يكترث لها بالمرة وغادر...
بقيت مروة مدفونةً تحت التراب؛ تشهق وتبكي وتصرخ، ولا أحد يستجيب لها، غير البرد والجوع والعطش. فقد بلغت من شدة الجوع خصاصة، حتى بدت أمعاؤها تصدر غرغرةً قويةً. وعيناها الواسعتان الجميلتان قد ملئتا بعجينٍ من العَبَراتِ والغبار المتطاير على وجهها الناعم، ولم تجد حلا يمكنها ولو من زحف جسمها الصغير للأعلى قليلا؛ لطلب النجدة أو سماعها تبكي وإنقاذها من قبرها الذي شاهدتْ نفسَها فيه في الحياة قبل الموت. فكيف يُسمع لها بكاءً والمدينة كلها قد مُلئت بالنحيب والصراخ؟ وكيف يُستشعر بصوتها العذب بين آلاف أصوات الضحايا مثلها أو أكثر منها؟ لم تكن مروة ذات العشر سنوات هي الوحيدة التي تحت ركام المنازل الآن، بل هناك العيد من الأطفال والنساء والرجال تحت تراب منازلهم؛ فمنهم من قضى نحبَه ومنهم من ينتظر ساعة احتضاره، جراء صواريخ الإسرائليين التي تسقط كوابل من السماء على أرض فلسطين ومُدُنها الصغيرة التي أصبحت تغمر بدماء الأبرياء.
على كنفِ قنطرة صغيرة لا تتسع لمرور السيارات إلا للذين يمشون على أرجلهم، سمعت مروة صوت بكاء طفل صغير يقترب منها شيئا فشيئا، تحسست منه جيدا، فبدا لها أنه صوت أخيها الرضيع يحيي، الذي كان حديث الولادة، يبلغ من العمر قرابة ستة أشهر ونصف، فشعرت بأمل صغير يتخلل روحها، فظنت مروة أن أمها أتت تبحث عنها وهي تحمل أخاها الصغير، فصاحت ثانية: أمي.. أمي... أنا هنا، فإذا بشيخ عجور يقتله العياء يتوكأ على ذراع ابنته وهو منهمك لا يستطيع المشي، بينما البنت تمسك صبيها الصغير في يد وكتف أبيها الكبير في يد أخرى، وهما يهمّان بعبور القنطرة إلى اتجاه البنايات التي هُدمت قبل ساعات قليلة، ولحظة سمعت البنت صوت طفلة صغيرة تبكي وهي تنادي على أمها بأعلى صوتها، جرّت أباها كي يخفف خطواته المثقلة؛ لتبحث عن مكان هذا الصوت الذي يملأ المكان كله، تركت البنت أباها واقفا وذهبت مسرعة نحو أشلاء المنازل المبعثرة، وبدأت تبحث في وسط ركام الأحجار والقصدير عن اتجاه الصوت بالضبط. فظلت تفتش هنا وهناك وهي تحرك الأحجار والألواح يمينا ويسارا محاولة أن تجد مكان الصوت المفقود.. لكن بلا جدوى، شعرت بإحباط شديد.. فجلست البنت على حجرة كبيرة بعد محاولتها الفاشلة في البحث، وهمت بالبكاء.. تسرب اليأس إلى نفسها. كانت مروة قد فقدت وعيها بعض الوقت لحظة البحث عن صوتها المبحوح من طرف البنت؛ بفعل الجوع، والعطش، ورطوبة المكان، لم تقدر أن تنطق ولو كلمة.. لذلك يصعب على البنت أن تجدها بين كم هائل من التراب وبقايا المنازل المحطمة. رجعت البنتُ إلى أبيها وهي بنفسية أكثر تحطيما من البنايات نفسها....وهي تقول: لم أجده يا أبي لم أجده، تقصد الصوت الذي كان يملأ المكان، فرد أبوها في غصغة من صوته، ربما توهمت ذلك يا بنتي، وخُيل لك أنه صوت طفل عالق بين خطام هذه الدور، فردت البنت قالة: أقسم لك يا أبي أنني سمعت صوت طفل يبكي ويقول أمي أمي.. ألم تسمع ذلك،؟
قال: لا، لم أسمع شيئا يا ابنتي ! هيا لنكمل طريقنا فربما كان صوتا بعيدا من هنا.. او ربما مازال تأثير حادثة الصواريخ معلقا في ذهنك.. هيا علينا أن نرحل من هنا..لوت البنت شفتيها وتمتمت كلمات استغراب وهي تقول: عجبا عجبا... إنه كان صوت بكاء لطفل صغير.. وهمت بالرحيل قائلة، هيا يا أبي هيا بنا: سوف يبين الحق، والظالم سينال عقابه عند مالك الملك. الله يأخذ فيهم الحق...الظلمة الظلمة.. لم تكمل إلا بعض الخطوات القليلة حتى سمعت الصوت نفسه ينادي أمي أمي... فتوقفت عن السير وحملقت نحوها بسرعة، وهي تقول لأبيها
أبي الصوت نفسه يصرخ اسمع... توجهت مسرعة إلى مكان حطام البنايات، فوجدت طفلة صغيرة عليها الكثير من تراب المنازل وبقايا الغبار المتطاير في أرجاء مكان الواقعة؛ إذ تبدو ذابلة الوجه، صفراء العينين، وجهها عار متسخ بالتراب تبكي وحدها.. كانت لم يبق لها سوى سويعات قليلة وتغادر الحياة، اقتربت البنت منها وقبلتها على جبينها وهي تحاول تهدئتها، قالة: ابنتي الصغيرة لم يقع شيئا، على مهلك سيكون الكل على ما يرام ..لا تبكي.. أنا هنا انظري يا صغيرتي....أنا هنا..
بعد محاولات عديدة وشاقة؛ نجحت البنت في الأخير سحب الطفلة، وأحضنتها بلهفة مسرعة وتوجهت بها نحو أبيها وهي تقول : لقد وجدتها يا أبي وجدتها...
قال الأب : اللهم ارضي عنك يا ابنتي.. أشربيها بعض الماء و أطعميها من زادنا يبدو أنها تتقطع جوعا.. وتموت عطشا..؛ فأطعمتها ونظفت عنها التراب ومسحت وجهها المشرق، حتى استعادت طاقتها وحيويتها، ثم سألتها قالة : ما اسمك أيتها الجميلة..؟ فأجابت بصوت شبه مذبوح:
مروة
أين أسرتك؟
لا أعرف، كنت أنا وأمي وأبي وإخوتي داخل منزلنا وفجأة سمعنا صوت الصواريخ تتساقط علينا ومنذ تلك اللحظة لم أعِ بشيء حتى وجدت نفسي هنا..
نظرت النبت إلى أبيها نظرة تحسر، لأنهما علما قبل قليل أن كل ساكني هذه البناتيات المهمودة استشهدوا ولم يبق أحد على قيد الحياة، فتأكدا أن جميع أفراد أسرتها قد استشهدوا.. لكنهما لا يريدان أن يظهرا لها أي شيء من هذا.. فطبطت وهدهدت عليها وعانقتها وهي تقول.. سوف يبين الحق سوف يبين الحق.. ويشهر العدل سيفه.. لا ريب..هيا قومي أيتها الجميلة علينا أن نذهب من هنا بسرعة، الحمد لله على سلامتك، اللهم نصرنا عليهم، الظلمة الظلمة..
وقفت مروة على قدميها العاريتين المتسختين بالتراب وهي تسأل البنت،
ـ خالتي أين أمي؟
ـ أمك..! نعم أمي، أمك ذهبت يا صغيرتي إلى مكان جميل، سوف نلحق بها لا محالة وتقبلينها كثيرا، فرسمت مروة ابتسامة جميلة على محيّاها وهي تقول : نعم يا خالتي نعم، وهي لا تعلم أن المكان الذي قصدته البنت هو الآخرة؛ حيث لا عودة من هناك وستظل في ذلك المكان وإلى الأبد..وغمغمت البنت كلامها وهي تقول: آآه لو علمت أن كل أفراد أسرتها قد استشهدوا ماذا ستكون ردة فعلها،؟ إنها ستصاب بالحمق والجنون..وسألتها قالة: ما آخر كلام قالته لك أمك أيها الجميلة، ردت مروة: سوف تكبرين يا بنتي وتكونين صانعة للأسلحة وتدافعين عن فلسطين، وأردفت قالة: وأبي يا خالتي يريدني أن أكبر وأصبح شاعرة عظيمة، أهجي من يظلم بلدنا.. ردت البنت في استغراب كبير، بعدما تعجبت من كلام الطفلة، ومن أمنيات والديها، وقالت بعد زفير طويل، نعم؛ سوف تكبرين يا بنتي سوف تكبرين.. الآن هيا بنا لقد لحقنا الليل ونحن في الطريق علينا أن نستعجل قليلا كي نعبر الجسر بعد ذلك الطابور الطويل...
تلفظ أبوها بكلمات غضب وقال: الموت أفضل لي من ذلك الطابور.. إنه عذاب لموت آخر... لكن البنت حاولت تهدئته قليلا.. فقالت: لا خيار لنا يا أبي ، كتب علينا هذا من الولادة، في سبيل الشهداء نقاوم ولا حل لنا غير الصمود والصبر والتجلد.