

الصورة الأخيرة
يمضي العمر كنهر متدفق، يحمل الجميع بين ضفتيه، أحيانًا يعكس صفاء السماء، وأحيانًا يثقله ضباب الذكريات...
على ضفافه تتفتح زهور تعبق بالحلم، وتنمو أشواك توجع القلب، فيما تستمر السنين في جريانها السريع...
أما هم، فيحملون أكفانهم حيثما حلّوا على تلك الأرض المباركة، اصطفاهم الله ليكونوا شهودًا على الصمود، معلّمين العالم درسًا لا يُنسى....
وها هو أحمد هناك يركض بين الأزقة الضيقة، تتأرجح كاميرته على صدره كأنها جزء من روحه، كمنجلٍ يحرث به أرض الصبر لتنبت أملًا في غدٍ أفضل.
منذ أسابيع وهو يلتقط صورًا للحياة التي تصرّ على البقاء وسط الركام ،لم يعد الظلام يخيف أحدًا هناك، فقد أصبح الضوء عدوهم الجديد؛ الضوء الذي يشق عتمة الليل إيذانًا بالغارات، الضوء الذي يفضح أماكنهم فتتهاوى فوقهم الجدران، الضوء الذي يحمل في انعكاسه عيونًا تتلصص على الأحلام الهاربة بين الأنقاض.
كان مثقلًا بالألم، كإسفنجة امتصّت الحزن حتى التخم، لم يعد يملك رفاهية التقاط أنفاسه أو إقامة حداد على أبيه الذي استشهد بين يديه، ولا على إخوته الذين تلاشت أخبارهم تحت الأنقاض، صار مصورًا بلا مقدّمات، يرى في عدسته ما يعجز الآخرون عن رؤيته؛ طفلة تضم دميتها المشوهة إلى صدرها كأنها آخر ما تبقى من الأمان، يدٌ تخرج من تحت الأنقاض تبحث عن حياة، عجوز يحتسي شايه أمام منزله المهدم بصبر لا ينكسر...
لكنه كان يعلم أن الصور مهما بلغت قوتها، لن تلتقط رائحة الرماد، ولا طعم الغبار في الهواء، ولا ذلك الصمت الثقيل الذي يسبق الانفجارات.
دوّت غارة جديدة، فتناثرت غيمة من الغبار، وارتجفت الأرض تحته، لكنه لم يتوقف، كان يبحث عن لحظة تختصر كل شيء، عن صورة تخلّد الحقيقة التي يحاول العالم أن ينساها.
رأى طفلًا قبل دقائق يختفي داخل زقاق ضيق، يمسك بمفتاح صدئ كأنه كنز موروث حين وجده، كان يجلس عند حافة جدار متهالك، يحدّق في الفراغ، والمفتاح يتأرجح في يده الصغيرة.
اقترب منه بحذر، جاثيًا على ركبتيه:
– ما اسمك؟
- أيوب
– ماذا تفعل هنا وحدك؟
نظر إليه الطفل بعينين واسعتين وهمس:
– "أنت أيضًا ستختفي إن اقتربت أكثر... الجميع يختفي."
صمت أحمد للحظة، ثم سأل وهو ينظر إلى المفتاح:
– لمن هذا؟
– "لبيتنا... لكن البيت رحل، كلهم رحلوا ،أبي قال لي ألا أضيعه، لأننا سنعود إليه."
تذكر أحمد منزله البعيد القريب، تذكر صوت أمه تناديه وهو يركض بين الأزقة، قبل أن يصير كل شيء رمادًا، لم يعرف كيف يواسي الصغير، لكنه رفع كاميرته والتقط له صورة، ممسكًا بالمفتاح وسط الخراب.
في تلك اللحظة لمحت عيناه ورقة مطوية بين الحطام، مدسوسة بين حجارة ما كان يومًا جدارًا،مدّ يده والتقطها، فظهرت كلمات مكتوبة بخط مرتجف: "إن لم أعد، أخبروا ابني أنني كنت أحاول الوصول إليه."
شعر بشيء يتكسر داخله، رفع رأسه كأنه يبحث عن صاحب الرسالة بين الركام، لكن الصمت وحده أجابه.
في مكان قريب، كانت أم تبحث عن أطفالها وسط الدمار، وكلما اقتربت من إيجادهم خسرت أحدهم، لكنها لم تستسلم، حتى لو لم يبقَ منهم سوى ذكريات محفورة في قلبها.
وفي زاوية أخرى، جلست فتاة تكتب رسالة لأخيها المفقود تحت الأنقاض، تُبقي على أمل أن تصل إليه يومًا...
وعلى مقربة، كان أحدهم يسقي نبتة على نافذته المهشمة، رغم شحّ الماء، بينما طفل صغير كان يحلم أن يصبح طبيبًا، يجمع أدواته البسيطة ليعالج دميته المصابة بشظايا، لكنّه أصبح هو الجريح، فسلّم حلمه لطفل آخر...
ثم دوّى انفجار جديد تهاوت النوافذ، واختلطت أصوات الصراخ بصفير الصواريخ ،رفع أحمد الكاميرا، التقط صورة لطفلٍ يقف مذهولًا أمام جدارٍ رسمت عليه ظلال أجسادٍ لم تعد هنا، التقط أخرى ليدٍ صغيرة تمسك بكيس خبز مبلل بالدم، وثالثة لعينين تحدقان في السماء، كأنهما تسألان: -لماذا؟
شعر بالبرد يزحف إلى جسده رغم لهيب النيران، خطا خطوة إلى الأمام، رفع الكاميرا مجددًا، وفي اللحظة التي ضغط فيها زر الالتقاط، لمح انعكاس وجهه على زجاج مهشم، شظية ضوءٍ خاطفة حفرته في الصورة.
كانت صورته الأخيرة.
لكن العدسة لم تسقط، الكاميرا لم تتحطم، في زاوية ما، التقطها مصور آخر، رفعها أمام عينيه، وضغط زر الالتقاط،
الصورة مستمرة.......