

الصياد والفريسة
داء الشوق ليس له دواء
كانت الليلة باردة في القدس، والسماء ملبدة بالغيوم الثقيلة.
داخل غرفة عمليات تحت الأرض، حيث شاشات المراقبة تبث صورًا مباشرة من طائرات الاستطلاع، وقف العقيد دانيئيل هارون، رجل الاستخبارات الإسرائيلية المخضرم، يحدق في الشاشة الرئيسية.
أمامه ظهر شاب فلسطيني يسير في أحد أزقة نابلس، يرتدي سترة سوداء وحقيبة ظهر تبدو عادية.
لكن دانيئيل لم يكن يرى مجرد شاب.
سأل بصوت خفيض.
– هذا هو؟
أجابه الضابط بجانبه، وهو يحدق في الشاشة:
– نعم، إنه خالد الناصري، الاسم الحركي: الظل.
الظل..الاسم الذي أثار الرعب في قلوب ضباط المخابرات طوال العامين الماضيين..رجل واحد أربك المنظومة الأمنية بأكملها، ونجح في تنفيذ عمليات نوعية ضد الجنود والمستوطنين، دون أن يترك أثرًا خلفه. لم يُلتقط له سوى بضع صور ضبابية، ولم يُقبض عليه أبدًا.
دانيئيل كان محترفًا، رجلًا لا يخشى أحدًا..لكن هذه المرة، كان يشعر بشيء لم يختبره من قبل..القلق.
تمتم وهو يراقب خالد يدخل أحد الأزقة المظلمة.
– أين سيتجه الآن؟
فتح الميكروفون وأصدر أوامره:
-لا تتحركوا حتى أعطي الإشارة..هذه المرة، لن نخطئ.
لكنه لم يدرك أن الظل كان يراقبهم أيضًا.
الاختراق
في شقة صغيرة مظلمة، جلس خالد أمام جهاز الحاسوب، يراقب البث المباشر نفسه الذي يراقبه دانيئيل..كان قد اخترق شبكة الكاميرات الإسرائيلية منذ أسابيع، وبات يعرف متى تتابعه الطائرات المسيرة، ومن يلاحقه في الشوارع.
ابتسم بخفة وهو يرى دانيئيل ينظر إلى صورته.
تمتم لنفسه
– تعتقد أنك الصياد، أليس كذلك؟.
لكن خالد لم يكن رجلاً عاديًا..لقد نشأ في قلب المخيم، حيث تعلم منذ صغره أن الاحتلال لا يُحارب بالقوة وحدها، بل بالذكاء والصبر. وعلى مدار العامين الماضيين، لم يكن مجرد مقاتل، بل كان شبحًا، يخترق شبكات الاتصالات، يخدع العملاء، ويزرع الفوضى في منظومة الاحتلال من الداخل.
أرسل رسالة مشفرة إلى أحد رفاقه:
– نفذ الخطة..اجعلهم يعتقدون أنهم أمسكوا بي.
المصيدة
تحركت القوة الخاصة الإسرائيلية عبر الأزقة، تتبع خالد بحذر..كان الجنود مدربين جيدًا، لكنهم لم يدركوا أنهم يسيرون إلى مصيدة محكمة.
فجأة، انطلقت صفارات الإنذار في القاعدة العسكرية الإسرائيلية القريبة..دوّى صوت انفجار، ثم انقطع التيار الكهربائي عن جزء كبير من المدينة.
ارتبك الجنود، وصرخ أحدهم عبر جهاز الاتصال:
– ما الذي يجري؟
لكن دانيئيل كان يعرف الإجابة.
تمتم
– إنه الظل.
رأى على الشاشة رجلاً يركض، يحمل حقيبة سوداء.. بدون تفكير، صرخ في الجهاز:
-أمسكوا به!
اندفعت القوات خلف الرجل، الذي كان يفر عبر الأزقة الضيقة..أطلقوا قنابل الغاز، وحاصروا الشوارع، حتى تمكنوا أخيرًا من cornering هدفهم في زقاق مسدود.
رفع الرجل يديه مستسلمًا، لكن عندما اقترب منه أحد الجنود، سمع الجميع صوت همس خافت:
– فات الأوان.
انفجرت الحقيبة، واهتزت الأرض بعنف. تناثر الدخان، وانهارت الجدران المحيطة، وسادت الفوضى.
وفي تلك اللحظة، ظهر خالد على سطح أحد المباني القريبة، يراقب المشهد بهدوء، قبل أن يختفي في الظلام... كالظل تمامًا.
الدرس القاسي
في صباح اليوم التالي، جلس دانيئيل في مكتبه، يحدق في تقرير الخسائر..أربعة قتلى، وثلاثة مصابين، وفشل المهمة بالكامل.
لكن الأسوأ من ذلك، كان الشعور الذي بدأ يتسلل إلى أعماقه: العجز.
تمتم بصوت مرتجف
– كيف يسبقنا دائمًا؟.
ثم لاحظ رسالة بريد إلكتروني مجهولة المصدر وصلت إلى حاسوبه..فتحها، ليجد سطرًا واحدًا فقط:
"الصياد الذي لا يرى سوى فريسته... لا يرى الفخ الذي يقع فيه."
شعر دانيئيل ببرودة تسري في جسده..لأول مرة في حياته، لم يكن واثقًا من أنه يستطيع الإمساك بخصمه.
كلمات قليلة، لكنها حملت ثقل سنوات من الفشل، من الهزائم التي لم يعتدها.
منذ عامين وهو يطارد الظل، لكن الأخير كان دائمًا متقدمًا بخطوة.
كان يعرف كل حركة قبل وقوعها، ينسج خططه بين الفراغات، يزرع الفوضى حيث لا يتوقع أحد.
هذه المرة، لم يكن الأمر مجرد فشل آخر، بل كان إعلانًا بأن المعركة لم تعد متكافئة.
أغلق الشاشة، وأشعل سيجارته ببطء، لكن القلق لم يفارقه.
هناك شيء في عقل دانيئيل لم يستطع تجاوزه. كيف تمكن الظل من اختراق أنظمتهم بهذه الدقة؟ كيف يعرف تحركاتهم بهذه السرعة؟ ثم، خطر له احتمال أرعبه أكثر من أي شيء آخر.
ربما لم يكن الظل مجرد رجل واحد.
ربما كان شيئًا أكبر، فكرة تسري بين الناس، تنبت حيث يُحاول اقتلاعها.
في تلك اللحظة، كانت سيارة تسير عبر طريق صحراوي، في داخلها رجل يحدق عبر النافذة.
كان خالد الناصري.. لم يكن ينظر إلى الصحراء فقط، بل كان ينظر إلى المستقبل.
لم يعد "الظل" مجرد مقاتل منفرد يراوغ القوات، بل أصبح شيئًا آخر، قصة تتردد في الأزقة والمخيمات، تزرع الأمل حيث يريدون زرع الخوف.
لكنه لم يكن وحده..بجانبه، كان شاب آخر يجلس بصمت، عينيه تحملان ثقل ماضٍ لا يمكن محوه.
كان صديقه مجد الذي أصر عليه أن يختفي قليلاً عن العيون بعد هذه العملية.. قائلاً له
– الآن..حان وقت اختفاء خالد الناصري..يا ...أدم.
قال له وهو يشعر بأرهاق بالغ
– كدت أنسى اسمي الأصلي ..كان من الممكن أن نمكث قليلا..لكنك أنت الذي أصررت على الرحيل.
لم يكترث مجد لحديثه واستمر في القيادة مواصلا طريق العودة لقريتهم القديمة..كان يشعر بالمسئولية تجاهه..ربما بسبب الصداقة القديمة بينهما التي بدأت منذ الطفولة..ولم يكن آدم مجرد ناجٍ أخر من مذابح اليهود، بل كان رجلًا فقد كل شيء، لكنه رغم هذا لم يفقد الرغبة في المقاومة.
سأل بصوت خافت
– إلى أين نحن ذاهبون؟
ابتسم مجد وهو ينظر إلى الطريق أمامه.
– إلى البداية يا صديقي..حيث كل شيء يبدأ من جديد..لقد جند اليهود ألاف الأعوان ومنهم من بني جلدتنا لكي يصلوا إليك..لذا يجب أن تختفي من هناك لفترة ربما تطول قليلاً.
عودة إلى الأرض
عبر الوادي الذي فصل القرية عن المستوطنة، تحرك الرجلان معًا.. لم يكن الظلام عائقًا، فقد اعتادوا عليه.. لم يكن الخوف موجودًا، فقد تجاوزوه منذ زمن.
تسلل آدم ومجد عبر الوادي، يزحفان كالأشباح، حتى وصل إلى أول بيوت القرية.. كل شيء بدا غريبًا ومألوفًا في آنٍ واحد.
كانت الجدران تحمل آثار الرصاص، النوافذ فارغة كعيون مطفأة، والأزقة تنضح بصمت الموت.
وقف أمام بيته..لا، ما تبقى من بيته..لم يكن بيته الآن سوى كومة حجارة ورماد.
شعر بأن الأرض تحته تئن، كأنها تتذكر خطوات والدته وهي تخرج صباحًا لتنشر الغسيل، أو صوت ضحكته عندما كان يركض حول الساحة.
ركع على الأرض، وغرس أصابعه في التراب.
– أنا هنا، أبي... أمي.
لكن التراب لا يجيب..التراب فقط يحتضن الذكريات، ويبتلع الأجساد، ويبقى صامتًا.
انحنى آدم ولمس التراب بأصابعه وقال
– كل شيء تغير.
هز مجد رأسه.
– لا، ليس كل شيء..بعض الأشياء لا تموت.
كان هناك صمت بينهما، لكن الصمت لم يكن خاليًا..كان مليئًا بالذكريات، بالوعود غير المحققة.
ثم وقف أدم يتشمم الريح من حوله في شوق..
بينما كانت الريح تعوي كذئب جريح، تتسلل بين الصخور كأنها تهمس له بأن يتراجع، لكنه لم يكن ينوي التراجع.
وقف آدم عند حافة الحدود، عيناه معلقتان بالضوء الخافت الذي يلوح من بعيد، حيث قريته التي تركها طفلًا، ويعود إليها رجلًا حملته السنوات فوق ما يحتمل..يتذكر ما مضى..واحترم مجد هذه اللحظة فوقف صامتا بدوره لا يتحدث..فقط يشاركه اللحظة.
خمس سنوات من المنفى،خمس سنوات لم يذق فيها طعم النوم دون أن يطارده كابوس الليلة التي تغير فيها كل شيء.
خمس سنوات تحول فيها إلي هذا الكائن الغامض المسمى بالظل..هذه الفئة من القادة التي لا يعلم أحد عنها شىء خوفاً من أن يطالها ايدي العدو الذي لا يتورع عن إقامة مذابح كاملة للظفر بأحد منهم.
كانت ذاكرته قد أخذت في استدعاء الحدث من الماضي في تلك الليلة،كانت أمه تعد العشاء، وكان والده يجلس تحت شجرة التين يروي له قصة عن جده الذي قاوم الإنجليز قبل أن يأتي احتلال آخر.
لكنه لم يكمل القصة..الباب تحطم بركلة عنيفة، الجنود اقتحموا البيت كعاصفة سوداء، الصراخ، الدخان، الرصاص... ثم الفراغ.
استفاق تحت الأنقاض، وجد جسد أمه بلا روح، ووالده غارقًا في دمه.
أراد أن يصرخ، أن يحتضن جسديهما، لكن يدًا سحبته من بين الأنقاض، كانت يد مجد، صديقه الذي جرّه خارجًا قبل أن ينهار كل شيء. ومنذ تلك اللحظة، أصبح بلا بيت، بلا وطن، بلا هوية سوى كومة من الرماد تسكن روحه.
الآن، وهو يقف هنا، لم يكن أمامه سوى خيار واحد..العودة، حتى لو كان الثمن حياته.
كسر مجد حاجز الصمت حينما قال
– يبدو أنني أخطأت..ربما لم يكن يجب أن تعود يا آدم.
لكن آدم لم يكن هنا ليسمع النصائح.. رد قائلاً
– سأعيد بناء البيت.
ضحك مجد بمرارة:
– بيتك؟ لم يبقَ بيت، الاحتلال صادر كل شيء
لكن آدم لم يكن يسمع..في الليلة التالية، حمل أول حجر، ووضعه في مكانه، كأنما يعيد تشكيل ذاكرته حجرًا فوق حجر.
كل ليلة، كان يعمل بصمت..يضع الحجارة، يرتبها كما كان والده يعلمه عندما أصلح سور البيت ذات مرة.
كان مجد كان يراقب، لم يساعده، لكنه لم يمنعه أيضًا.
– أنت مجنون يا آدم.
لكنه لم يكن مجنونًا..كان فقط رجلًا فقد كل شيء، ولم يعد لديه ما يخسره.
الرصاصة الأولى
لم يدم الأمر طويلًا..في إحدى الليالي، عندما كان يضع حجرًا جديدًا، لمح أضواء تتحرك في الظلام..جمد مكانه.
"جنود!"
ركض مجد إليه، سحبه ليهرب، لكنه لم يتحرك. لم يكن يستطيع الهرب مرة أخرى.
تقدم الضابط بخطوات بطيئة، يحمل ابتسامة ساخرة على شفتيه.
– ماذا تفعل هنا؟
نظر إليه آدم مباشرة في عينيه.
– أعيد بناء بيتي.
ضحك الضابط وبنظرة ازدراء في عينيه..قال
-بيتك؟ هذه الأرض ليست لكم بعد الآن.
لم يجب آدم..فقط انحنى والتقط حجرًا آخر، ووضعه فوق الجدار الذي كان يبنيه.
كان هذا هو التحدي الأكبر، أن تبني بيتًا أمام من يحاول هدمك.
– أوقفوه.
شعر بضربة على ظهره، ثم سقط أرضًا..صوت الطلقات دوى في الهواء، وشعر بحرارة تخترق جسده..لم يكن الألم كما تخيل، كان هناك فقط برد مفاجئ، وكأن روحه بدأت تتلاشى.
قبل أن يسقط تمامًا، لمح مجد يرفع حجرًا ويرميه بأقصى ما يستطيع باتجاه الضابط ثم دوي اطلاق نار..لم يكن حجرًا فقط، كان صرخة، كان وعدًا بأن الأرض لن تموت.
الخلود في التراب
استفاق بعد أيام في كهف بين الجبال..لم يكن يعلم كيف نجا، لكنه كان هنا، لا يزال يتنفس، لا يزال يحمل ذاكرته المثقلة بالألم.
نظر إلى مجد، الذي كان يجلس بجانبه،عينيه متقدتين بشيء لم يره فيه من قبل.
قال مجد بصوت ثابت:
-لم نستطع إنقاذ البيت، لكننا سننقذ الأرض.
في الليلة التالية، وقف آدم فوق تلة، ينظر إلى المستوطنة التي امتدت فوق أراضيهم..شعر بجسده يتألم، لكن قلبه ينبض بقوة.
رفع العلم الفلسطيني وربطه بأعلى صخرة، حيث يمكن للجميع رؤيته..لم يكن هذا مجرد علم، كان وعدًا، كان صرخة، كان شاهدًا على أن أحدًا لم ينسَ، ولن ينسى.
ثم همس لنفسه، كأنما يتحدث إلى أبيه، إلى أمه، إلى الأرض نفسها قائلاً
– داء الشوق ليس له دواء... إلا العودة.
تمت