الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم إبراهيم محمد عامر

العدوان

كانت الطائرات الإسرائيلية لا تتوقف عن القصف لحظةً فطوال الليل نهار تُلقي نيرانها الجهنمية على البيوت والناس وفي غمضة عين تختفي بيوت ويختفي بشر من الوجود ولا تفرق الطائرات بين الرجال والنساء أو العجائز والأطفال أو المستشفيات والمدارس.. باختصار كانت آلة القتل والتدمير تعمل بلا هوادة وتسحق مع كل دقيقة أي مظهر للحياة في القطاع البائس.

وكانت نجية قد خرجت مهرولة بعدما قُصف منزلها وشهدت بعينيها استشهاد أبنائها الأربعة ولم يُسعفها الوقت حتى لحمل أشلائهم فقد سحبها من تبقّى من جيرانها إلى الأمام بسرعة.. وكانت لا تفتأ تنظر للخلف حيث كانت منذ أيام تعيش وتطبخ وتطعم صغارها ثم تواصل الجري للأمام مع الجاريين وسط دموعها وصرخاتها وحسراتها على أبنائها الذين انضموا إلى أبيهم الذي مات أول الحرب وكان يقاتل في صفوف المقاومة.

وحل الليل وهدأت حدة القصف قليلاً فهتفت نجية:

 أريد أن أعود لأحمل أشلاء أبنائي.

فصاحوا بها:

 أي عودة؟ وأي أشلاء؟ لقد محا الملاعين كل شيء.

 لا.. يجب أن أعود وأحمل أشلاءهم لأدفنها عند رفح.. وصرخت: "أريد أن يكون لهم قبر أزورهم عنده وأدفن بجوارهم عندما أموت".

فصمتوا ولم يعقبوا ثم انهمروا جميعًا في البكاء والدعاء على المعتدين أن ينتقم الله منهم.

وعند الفجر تكرر العدوان من جديد فقامت نجية ومن معها في فزع وواصلوا السير منهكين من التعب والألم وقلة النوم والحزن نحو رفح ليستقروا عندها بالقرب من المخيمات.

وحدث أن سقطت السيدة التي كانت تستند نجية على ذراعها من رصاصة مدفع موجهة من طائرة ظهرت فجأة في السماء فصرخت نجية وجرت وبدا أن طيار المقاتلة قد استهوته مطاردتها فصار يقصف كل من معها ويستمتع بمنظرها وهي مسنة تجري دون وجهة وتهرب من شر لا حد له.

ثم اختفى فجأة كما ظهر وحل سكون رهيب..

ولاحت تباشير الصباح ووجدت نجية نفسها وحيدة بين ركام من الجثث وبرك من الدم فصرخت مجددًا وعادت تزحف للأمام.
وفجأة سمعت صوت بكاء رضيع فتلفتت حولها بحثًا عنه.. لم تره.. كان بصرها ضعيفًا ولكن اتجهت صوب الصوت الذي يعلو باكيًا حتى وجدته وكان إلى جواره جثة لسيدة رأسها مقطوع والرضيع مُلقى بجوارها يمسك بيدها ويحاول أن يوقظها.
عادت للصراخ من جديد وانحنت نحو الطفل ورفعته إلى كتفها.. علمت من اللحظة الأولى أنه جائع ولكن كيف تطعمه؟ وترى هل يعيش حتى تصل به إلى الجانب الآخر حيث تتكوم المساعدات المصرية؟

كان يبكي بكاءً شديدًا وينتفض من الجوع ومن إحساسه أن السيدة التي تحمله ليست أمه التي لم يفارقها منذ وُلد. وبدا أن صوته قد جذب من جديد الطائرات فعادت الطائرة التي كانت تطاردها منذ قليل وأطلق قائدها المستفز النار حولها وبدا أنه لا يقصد أن يميتها بل أن يلعب معها لعبة المطاردة فقط غير عابئ بأن بفعله هذا يميت فيها كل شيء ويسبب لها الرعب أكثر.. وربما يكون الموت لها في هذا الحال أفضل.

وفكرت نجية أن تقف مكانها أو تُلقي بنفسها تحت نيران مقاتلته لترتاح لكن فكرت في الغلام.. ما ذنبه أن تجبره على الانتحار معها؟ فقررت أن تستمر في رحلتها وتصبر على الرعب كي تمنحه فرصة للعيش ومن يدري؟ ربما كبر في يوم وأنتقم مما حدث لها ولأمه ولبقية المنكوبين في القطاع وفلسطين كلها!

ظل الطيار يقصف حولها ثم فجأة قصف قدمها اليمنى فصرخت وسقطت على الأرض منكبة على وجهها وسقط الغلام معها فتألمت لألم الغلام الذي انفجر صارخًا وعلا صوته أكثر وأكثر وقد أرعبه دوي الطلقات.

وأطلق الطيار طلقة أخرى أصابتها في كتفها وأنفجر دمها على الأرض فوضعت الغلام تحتها لتحميه وهتفت: لقد حاولت يا رب!

وفي اللحظة التي اغمضت فيها عينيها وقررت الاستسلام للموت ظهر فجأة من تحت الأرض مجموعة من المقاتلين الملثمين وأخذوا يتبادلوا النيران ببسالة مع الطيار المجرم وما هي إلا لحظات قليلة حتى أسقطوه هو وطائرته.. ثم اختفوا كما ظهروا في لحظة بعدما هتفوا بالسيدة العجوز: "هيا أسرعي سيعودون من جديد.. رفح ليست ببعيدة فقط اسلكي هذا الاتجاه".

ودت لو شكرتهم لكنهم لم يمنحوها الوقت واختفوا من جديد فدعت لهم في سرها بالصمود والنصر وأحست للحظة أنهم قد ردوا لها جزءًا من ثأرها وثأر الآلاف من الشهداء الذين سقطوا على يد المجرمين في القطاع.

وواصلت السير حتى بدت لها رفح فتنفست الصعداء ورأت عددًا من الناس يهرعون إليها فسقطت على الأرض بعدما نفذت قدرتها على الوقوف فسلمت نفسها لهم ومنحتهم الغلام وهتفت بهم في رجاء: "أطْعموه لا تجعلوه يموت".

كانت قدمها لا تزال تنزف لكنها لم تهتم.. اهتمت بالغلام ورأتهم يشربونه اللبن.. وحين قدموا لها طعامًا قالت في تصميم: "امنحوا الغذاء لغيري.. أنا أتحمل".

ولكن من داخلها كانت تتلوى من الجوع شأنها شأن غيرها لكنها رأت في الخيام من هم أشد ضعفًا منها.. وبعد أن عالجوا قدمها طلبت الوضوء لتصلي ودعت الله مجددًا أن ينتقم لها ولمن هم مثلها وأن يعوض صبرهم خيراً ثم طلبت الغلام وجعلته في حضنها لا يفارقها تحسه عوضًا عمن فقدت من الأولاد وتحس أن الله قد نجاها مما جرى فقط لتنقذ هذا الغلام فلعلّه وغيره من أطفال اليوم ينتقمون لها في المستقبل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى