الفـِدَائِي المجـهـُول
جـاءَ جـنـود الاحـتـلال الـصـهيوني ليبحثوا عن ذلك الذي أرقهم ، وحرمهم لذةَ النوم .... طرقوا باب منزلهِ بعد أن طوقوهُ بالجنود وبكامل العدةِ والـعـتاد .
فتح لهم الباب رجلٌ بدأ الشيب يزحفُ على رأسهِ وذقنه ، كما بدأتِ التجاعيدُ تظهر على وجههِ معلنةً بدء شيخوخةٍ مبكرةٍ ليست من تعاقبِ الأيامِ والسنين ولكن استعجلتها الإحداثُ المروعةُ والمتواترة ... ابتداء ً بمذبحةِ (( دير يا سين )) والتي كان الناجي الوحيد منها .... وحتى الآن .
كان غاضبا ً حال فتحهِ الباب فمن ذلك الذي سمح لنفسهِ إزعاجه ُوعائلتهُ في هذا الوقتِ المتأخر من الليل ...... ما كان يتوقعُ أن من يطرق بابهُ الآن هُم الصهاينة ، وعندما رآهم بدت ملامحهُ أشدَّ غضبا ً ، واستنفرَ كاملَ طاقتهِ ... واستجمعَ همتهُ لمواجهتهم والدفاع عن حرمةِ منزلهِ فأمسكَ بمصراعِ البابِ بقوةٍ متسائلا ً بتوجسٍ وحزمْ :. ماذا تريدون؟!!!
– أين الإرهابي ؟
ظنَّ للحظةٍ أن أحدَ الفدائيين الثوار قد قام بعملٍ ضدهم وتوارى عن الأنظار في المنطقةِ المحيطةِ وهم يبحثون عنهُ ... قطعَ حبلَ أفكارهِ قائدَ الدوريةِ حينَ همَّ بإبعادهِ عن البابِ ليدخل لكن الرجلَ على رغم أن الشيب غالبيةً برأسهِ وذقنهِ الكثيف ما يزالُ في أوجِ قوتهِ وعنفوانه وقادرا ً على المقاومةِ ومنعهم من الدخول.
جالَ بنظرهِ بينهم فإذا هم ستةَ جنودٍ مدججين بأنواع السلاح وبادرهُم بسؤال : .
أيُّ إرهابي ٍتبحثونَ عنهُ في مثل ِهذا الوقت ؟ !.
– ألستَ موسى الخالص ؟
– بلى .
– إذا ً فنحنُ لم نُخطىء .... أين ابنك أحمد ؟
انبهرَ الرجلُ وارتسمتْ على وجههِ معالمُ التعجبِ وأساريرِ الفرحةِ وقال : . هو نائمٌ بالداخل... وأشارَ لهم إلى الغرفةِ التي ينامُ بِها فدخل جميعُ أفرادِ الدوريةِ حتى إذا ما قاومهم أخذوهُ بالقوةِ كانوا متأهبين بكاملِ سلاحهم للقبضِ عليهِ فهو بلا شكٍ لن يسلمَّ نفسهُ لهم طوعا ً ... كما أنَّ تصرفَ والدهِ في التدليلِ على مكانه ِ... بلا ترددٍ أو خوفٍ يثيرُ الاستغرابَ والدهشةَ ولا بـُـد أنَّ في الأمر سرا ً أو لعلها مكيدة .
وكانت المفاجئةُ عند دخولهم ... فمن أرقهم طوال تلك المدةِ وحطمَّ أسطورةَ اليدِ الحديديةِ الطـُولى ليسَ إلا طفلا ً لم يتجاوز الثامنةَ بعد ، وهو ذا نائم قريرُ العينِ أمامهم .
كان هذا الطفلُ هو الابنُ الأكبرُ لموسى الخالص ... وكان شديد العـــداءِ للصهاينـةِ من يسمعُ عنهُ يظنهُ شيخا ً في حكمتهِ ، وشابا ُ في كبريائهِ ورجلا ً عزيزا ً شجاعا ً في تحديهِ للعدو ومواجهتهِ إياهُ لكن الحقيقةَ أنهُ طفلٌ لم يجاوزِ الثامنةَ .... أصبح مثارَ إعجابَ وتقديرَ واحترام الصغارِ والكبارِ في القدسِ .... ومحطَّ أنظارَ الصهاينةِ أيضا ً ، لكن .... ما الذي حصل ؟ !
انعكستْ حالهُ .. وانقلبَ ذلك العداءُ محبةً ، ومولاةً ، ومودة !!.
إنهُ يرتدي ألبذلةَ ذاتِ النجمةِ السداسيةِ ..... انضمَ إلى صفوفِ الجيشِ الإسرائيلي ، واعتنقَ اليهوديةَ وأصبحَ من جنودها ... وعندما كان يزورُ أهلهُ كان يقابلهُ الأطفالُ بالحجارة وكلمات الاحتقار...حتى أهلهُ لم يعودوا يقبلونهُ بينهم .... وكلما أتى لزيارتهم صدهُ أخواهُ ومنعاهُ من الدخول ِ... حتى والداهْ كانا يقابلانهِ بالصدِ والرفض ِ، كانت والدتهُ تبادرهُ كلما أتى لزيارتهم بالقول ( إني لم أندم في حياتي إلا على حملكَ في بطني ، وإرضاعكَ من صدري ) وتبصقُ في وجههِ .... كان يعودُ من كل زيارةٍ لهم والدموعُ ملءَ عينيهِ و ابتسامة حبٍ وحنانٍ على شفتيهِ ، وبعد أن قضى ثلاث سنواتٍ بالخدمةِ في الجيش الإسرائيلي رُقي إلى رتبةِ ضابطٍ ، وانـتـقـل للعمل في ما يظنونهُ عاصمةً لإسرائيل (( تل أبيب ))
عندما أبلغهُ قائدهُ بذلكَ الخبر كاد يطيرُ من الفرحِ ، وشكر قائدهُ المغرورُ الذي ما إن خرج ذلك الشابُ حتى تعالت ضحكاتهُ ثم قال بغرورٍ :. (( لا أحد يستطيعُ مقاومةَ الإغراءاتِ الإسرائيليةِ مهما كانت وطنيتهُ وقوة إيمانهِ )) ... وفي ذلكَ إشارةٌ إلى ذلك اليوم الذي ولن ينساه عندما آتى ليقبضَ عليهِ فإذا هو طفلٌ وهو ذا اليوم شابا ً مواليا ً لليهود .
وبعد عامٍ من الخدمةِ في (( تل أبيب )) وفي إجازتهِ السنويةِ الأولى بعد الترقيةِ عاد لزيارةِ أسرتهِ ... فكان لقاءا ً مروعاً ومريرا ً ... لم يُسمح لهُ بالدخولِ فحاول أن يدخلَ بالقوةِ ولكنَ هيهاتْ ... فقد كان يُقاوَم وكأنَهُ غريبٌ مغتصبٌ .. أحسَ والداهُ بنظراتهِ التي تطالبهما بفرصةٍ أخيرةٍ .... كانا يشعران بأن كلاما ً مهما ً يريدُ قولهُ كانت دموعهُ التي بللت قميصهُ توحي بذلك وبشيءٍ غريبٍ آخر ...
لم يتمكنا من معرفتهِ ولم يمنحاهُ فرصةً للإفضاءِ والبوحُ به ِإلا أن شعوراً غريباً وقوياً تملكهما ... وكأن هذا اللقاء هو الأخير ... وعلى رغم الجفا الذي قوبل به من أخويهِ الذَينِ كانا يبعدانهِ عنهما وعن الباب فقد كان يحاولُ احتضانَ وتقبيلَ أيٍّ منهما وكأنهُ اللقاءُ الأخيرُ فعلا ً .
وبعد أن يئسَ من الدخولِ قال لوالديهِ : . لعلَّ الله لن يكتبَ لي رؤياكُم بعدَ اليومِ فسامحاني وادعواهُ أن يغفرَ لي ويرحمني .
فرددتْ عليهِ والدتهُ : . لا سلَّمك .. ولا غفر لك ... قالتها وسيلٌ من الدموعِِ على خديها .
نظر إليها وقد اغرورقتْ عيناهُ بالدموعِ وقال : . أستودعكُم الله .... قالها وهو يبكي بمرارةٍ وحزنْ .... فقد كان يرجو لقاء ً خيرا ً من هذا اللقاء... كان يرجو أن يحتضنهُ والداهُ ويعانقانهِ ولو لأخرَ مرةٍ ... لكنهُ على الرغمِ من كل ذلك وجدَّ لهم العذرَ ... وعاد إلى (( تل أبيب )) بعد لقاءٍ مرير .
وبعد أسبوعٍ ٍواحدٍ فقط من ذلك اللقاءْ طرقَ البابَ الذي لم يـُسـمـح لهُ بدخولهِ شيخٌ وشابان . هو نفسُ الباب الذي طرقهُ قبل ثلاثةَ عشرَ عاما ً أفرادُ الدوريةِ الإسرائيليةِ التي أتتْ للقبضِ عليهِ وهو الطفلُ الذي لم يُجاوز الثامنة .
الحزنُ بادٍ ومرسومٌ على ملامحِ الضيوفْ ... والإطراقُ والوجومُ مخيمٌ على الحضورْ... إلى أن كَسر حاجزَ الصمت صوتُ الشيخِ الذي بدأ كلامهُ بقولهِ تعالى (( ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ً بل أحياءًٌ عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم اللهُ من فضلهِ ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من بعدهم آلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ))
صدق الله العظيم
كان ذلك الشيخ قائـدا ً لجماعةٍ مجاهدةِ لا تبتغي سوى الحياةَ بكرامةٍ أو الموتَ بشرفٍ وقد أتاهم مُبشرا ً باستشهادِ من آتاهم قبل أسبوعٍ زائرا ً ومودعا ً فقابلوهُ بالجفا والصدِ والبغض ِ... ولم يسمحوا لهُ بدخولِ بيتهِ بل و حرموهُُ من أحضانهم وحرارةِ لِقائهم ووداعهم بشرهم أن لهم شفيعا ً في الآخرةِ لم يشفعوا لهُ في الدنيا ... أخبرهم بأنهُ لم يكنْ أبدا ً خائنا ً وإنما خنجرا ً مسموما ً في صفوفِ جيشِ العدو وصدورهم ... وقد نفذ عمليةً فدائيةً إستشهاديةً قبل ساعاتْ ... عزاهُم في استشهادِ الفدائي المجهول .