الأحد ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٢٥
بقلم إيمـان سـند إيمان فتحى محمد سند

المُخـــــيم

(1)

تتقطعُ أنفاسي، أَلهثُ من الجري، أَقفُ قليلاً، أَنظرُ إلى السماء، ما زالت الطائراتُ تحومُ حولي، أبحثُ عن مكانٍ أختبئُ فيه، لا أجدُ.. كُلُ الأماكنِ مكشوفةٌ، واضحة.. لقد ابتعدنا كثيرًا عن أماكنا المألوفة.. لماذا تختفي الأشياءُ حين نحتاجُ إليها ...؟

(2)

إن تضاريسَ بلادي جميلة.. أقصدُ كانتْ جميلةً قبل أن يحولَها هؤلاء المعتدون إلى مجرد مواضع للاختباء، لم تَعُدْ عيناي تريا سوى دماء، وأشلاء، وبقايا أشياء... حين تمَ هدمُ بيوتنا، قررنا أنا و"ناهض" أن نبحثَ عن لُعبنا وسط الأنقاضِ، كنا سعداءَ حين وجدنا طائرتي الصغيرة.. أما "ناهض" فلم يجدْ لعبتَه، بحث عنها كثيرًا، ولا أثرَ لها...

(3)

ولكنه وجد دميةً صغيرةً، بكى حين رآها؛ لأنها تَخصُ "مريم" .. و"مريم" لم تَعدْ هنا لتلعب بها، وبرغم ذلك فمريم تلعب باللعبة الآن أمامنا، ونكادُ نُجزِمُ أنها فرحتْ بلعبتها حين وجدناها، فجاءت لتلعبَ بها، أم ياتُرى كانتْ مريم تعرفُ مكانها طوال الوقت، فبالتأكيد مريم فى موضع أفضل منا، تستطيع أن ترانا، تراقبنا، ترصدُ كل ما لا نراه...

(4)

كان "ناهض" يبحثُ وأنا أراقبُ الطائرات ، وعند أول صوتٍ نجرى، نختبئُ، نسمعُ من مخبئنا صوتَ القنابلِ يُدوي، نرى أُناساً نعرفهم كانوا من لحظات يتنفسون هوائنا، يسقطون، يلتصقون بالأرض، تمتزجُ دماؤُهم بالأرضٍ التى يبدو أنها مازالت عَطشى، نَشمُ رائحةَ الموتِ من حولنا...

(5)

ولكنْ عندَ رحيلِ الطائراتِ نعودُ سَريعاً لنبحثَ مرةً أخرى قبل أن تعودَ الطائراتُ من جديد، لقد كانَ البحثُ في البقايا هو لُعبتُناَ الوحيدة، ربما يتغيرُ المكانُ الذي نبحثُ فيه، ولكن تَظلُ أصولُ اللعبةِ ثابتة... وهناك لعبة أخرى أصبحنا نجيدها تمامًا هى الجرى؛ باستطاعتنا قطع كل المسافات الطويلة، والقصيرة، والجرى لساعاتٍ دون توقف، هدفُنا ليس الفوز ولكن الحياة...

(6)

أتَذكرُ أنى وجدتُ يومًا ثوباً كنتُ أعرفُه جيداً، فقد ظلتْ جارتُنا تَلبسُه لمدة خمس سنوات كاملة، نفس الثوب كل يوم، حتى عرفناها بثوبها، أو عرفنا الثوب بها... وفي يوم (أحد) حزين قررت جارتنا أن تلبس ثوباً جديداً، ظلتْ تحيكُه لفترة طويلة، ولبسته، وفى ذلك اليوم جاءتْ الطائراتُ وضربتْ بيتَها، ووجدتْ ثوبها الشهير، أعطيته لأمي، فترحمتْ عليها، وبكت...

(7)

أما اليوم فأنا لم أخرجْ من المخيم لألعبَ لُعبةَ " البحث " مثل كل يوم، ولكنى خرجتُ لكي أبحثَ عن طعام؛ فليس هناك أيُ طعامٍ في المخيم، والأطفالُ تبكى ليلَ نهار... في المخيم ليس هناك أي مكان نمارسُ فيه اللعب، ولا يوجدُ مكانٌ تجلسُ فيه أسرتُنا معًا، ولا يوجدُ طعامٌ كاف؛ فلابد أن نأكلَ ما يقدمونه إلينا، لا نسأل عن اسم الطعام؛ إنه مجردُ طعامٍ يؤكل...

(8)

هذا ما علمتني أمي إياه، وما أعلمه لاخوتي الصغار؛ الذين لم يجدوا أيَ شئٍ يأكلونه منذ ثلاثة أيام، أنا جائعٌ أيضًا، ولكنى أستطيعُ أن أتحملَ، فأنا كبيرٌ، ولذا خرجتُ، وبَعُدتُ عن المخيم، لكى أعثر على طعام لى ولهم... ألا يمكن أن يعطيني أيُ إنسانٍ طعاماً لأخوتي الصغار ..؟ إنهم لن يتحملوا أكثر من ذلك.. هل يمكنُ أن يظهرَ لي " مَلَكٌ " الآن، ويعطيني طعاماً ؟! ما دام الناسُ من حولنا لا يمكنهُم سماعُ أصواتِ أمعائي التي تئنُ من وطأةِ الجوع، وقد تركتُ أمي هناك أشد منى جوعاً، ولكنها تظهر الجَلَّد فقط أمامنا...

(9)

والآن جاءتْ الطائراتُ.. أنا خائفٌ.. ماذا سأفعل ..؟ سأموتُ هنا ويموتُ اخوتي هناك ..!
ينظرُ "أحمد" إلى السماءِ مرةً أخرى، فيجدُ الطائراتِ مازالت بعيدة عن المخيم .. ىقول لناهض: - يجب أن نذهب لنحذرهم .. هيا بسرعة.

(10)

يجرى ناحية المعسكر.. يرى نفسه أحياناً يسبقُ الطائرات، يُحِسُ نفسه نقطةَ ضوءٍ تنتقلُ بسرعة، طائرٌ جارحٌ يستطيعُ التحليقَ في الآفاق.. يؤكد لنفسه: - سيكون اخوتى بخير...

(11)

من بعيد يرى المخيماتِ كأشباحٍ مُتراصةٍ، والطائرات لم تصل بعد، يلتقط مكبرًا للصوت ملقى على الأرض.. يخاطب الناس، يطلب منهم الخروج بسرعة، والاختباء.. يبتعد الناسُ عن البيوت، تظهر أخيرًا الجبال والأشجار ليحتمون بها.

(12)

يُسمعُ هديرَ الطائرات، تأتى إلى المخيمات.. تضرب الناسُ الجَوعي الذين ينتظرونَ الطعام، لا أحد يجرى ليلتقط ماتقذف به الطائرات.. يشير "أحمد" من بعيد لإخوته، وأمه.. كلهم يجرون مبتعدين عن الطائرات، والطائرات هذه المرة لا تلقي إليهم بالطعام...

(13)

تقذفُ الطائرات المخيماتِ بلا رحمة، وبلا سببٍ أيضًا، تَشتعلُ النيرانُ، تحترقُ الأشياءِ، بعد أن فر الناس بعيدًا.. ولكنهم كلهم يتساءلون:

 لماذا .. ؟! لماذا؟! ..

يحملُ الهواءَ سؤالَه... وما من مجيب ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى