الأربعاء ١٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم زينب خليل عودة

النزوح: أن تعیش في دائرة التیه بكل تفاصيلها

یقولون (نزوح) ارحل انتقل لمكان آخر، ھذا ما فرضته قوات الاحتلال الإسرائيلي دوما على أبناء قطاع غزة في حرب الإبادة التي استمرت عامين.. . نزوح لیست كلمة عابرة أو سھلة، بل ھي تصل حد طلوع الروح مع بقاء الجسد متحركا ھائما على وجهه وأتذكر حينما وصل التھدید لمنطقتي في شمال غزة توجب على أن أحمل حقيبة صغيرة على ظهري وأودع بیتي بدموع قلبي ركنا ركنا، وقد انتقلت لمدرسة قریبة من بیتي، ثم الى حي الدرج بفزة، ثم مدرسة في خانیونس، انتھاء برفح حیث مكثت عند الأصدقاء ...

كان اول نزوح للجنوب صعبا للغاية، حیث غزة باتت بلا سیارات وبلا وسائل نقل، سوى الكارة یجرھا الحمار، تركب علیھا مضطرا، ثم تترك في الخلاء الشاسع لتمشى مئات الأمتار حتى تصل لمكان یسمى (حاجز نتسیاریم) وھو نقطة تفتیش لجنود الاحتلال، ھناك تقف في طابور الذل الاف الناس من نساء وأطفال ورضع وكبار سن تنتظر لساعات وساعات، وبعد التفتيش المھین یسمح لك بتخطي النقطة..قمة الذل والتعب والانھیار النفسي... ثم بعدھا تمشى كثیرا تصل الاف الأمتار كي تصل الى أي وسیلة تنقلك.

وفي رفح حیث مكثت نحو شھرا عند الأصدقاء كانت حیاة ولكنھا لیست حیاتي، كل تفاصیلھا غریبة باتت مدموغة بكونك نازح وعلیك أن تقبل بأي شي، كنت مع 4 عائلات نازحة أیضا یعنى مایزید عن ثلاثين شخصا، تصحى وتنام وفى عقلك تساؤلات لا حصر لھا وأیضا لا اجابات لھا ، تحاول أن تتكیف ترى صورة بیتك، وتتخیل العودة متى ستكون؟

جمعتي أیاما وأیاما كنا نقتسم اللقمة مع الصدیقات أم أسامة وأم زكریا وسمر وأھل البیت الكرام، ونفترش أرضا كي ننام،نجتمع بالمساء كلنا نحاول أن نحكى أن نستذكر حیاتنا السابقة فنصدم بحقيقة النزوح...العقاب الجماعي لشعب كامل! فعلا لایشعر بألم النزوح الا من جربه مرات ومرات، النزوح وترك البیت بكل ما فيه والجیران، الشارع، السوق،المدارس، تفاصیل حياتك ولكل یومك، شيء صعب مُروع. أن تخرج للمجھول ربما تحظى باستضافة الأقارب والأصدقاء أو تسكن في خیمة بعید عن محیطك،. في النزوح، افتقدت الخصوصية والراحة وممارسة الحیاة الطبیعیة، بل والقدرة على تناول الطعام بحریة وسط المجاعة وقلة الغذاء.

النزوح انتزاع الروح من الجسد، نزيف قلب متواصل، موت، و لكن مع القدرة على التحرك و الكلام، أجزم أنى احتاج إلى جلسات دعم نفسي بشكل كبیر فالذي عشتھ وما شاھدتھ من دمار و شھداء و فقدان، كثیر على أي عقل استیعابھ، لقد استخدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي ضدنا كل أنواع الأسلحة الفتاكة غیر المشروعة، منھا ما یطیر و منھا ما یسیر على عجلات، إضافة إلى طائرات صغیرة مسیرة، وأخرى طائرات انتحاریة، كما استخدمت الذكاء الاصطناعي حیث وظفت التكنولوجیا لصالح

الموت، لا تستغربوا الموت في غزة بسیط والأرواح لا تعنى لجیش الاحتلال شیئا.

الغالبیة العظمى ممن قتلوا أو أصیبوا أبریاء، كانوا نائمین أو سائرین في الشارع، الإعلام لا یصور الواقع بكل حقيقته، فالمقابر لا تتسع للجثث و باتت تُدفن على الطرقات و في زوایا البیوت و الأراضي الفارغة و بین العمارات و منتصف الشوارع.
شيء یدمي القلب ھناك جثث بقیت تحت ركام بیوتھا و مفقودین أحیاء، و أموات شُيعت جنازاتھم دون معرفة أھل الشھید فقط لحرمة المیت، أحیانا یقال بسیطة یمكن التعرف علیھم من ملابسھم.. ما أبسط الموت ھناك!

أصوات القصف لا تصم الاذن فقط، بل تشعر بأعضائك الداخلیة تكاد أن تتفجر، القلب دقاته تتعدى المقاییس، المعدة تنتفخ مع كل صوت، وتلفظ ما فیھا مع كل منظر، عراك داخلي بین النفس والجسد، وكأنهم نسوا أننا نحن أیضا بشر نخاف و نرتعب و نبكي رغم شح البكاء... نعم أنا عشت و أعیش صدمة لا أستطیع البكاء أو التفكير أشعر أحیانا بعدم التوازن كل ھذا یرجع لاستخدام القوة المفرطة تجاھنا وظروف حیاتیة لا توصف.

أحیانا نخفي رؤوسنا تحت الوسادة، و لكنه تصرف غریب من أجل البقاء، في حین شظیة یمكنھا اختراق أجسام صلبة فھل یستعصي علیھا كومة قطن على شكل وسادة؟.. لا مكان یحمیني.

حیاتنا التنقل من مكان لمكان نزوح مستمر في وضع اجتماعي و اقتصادي قاتل مع شح المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة. وتعدد وجوه الموت فإن لم نمت من القصف متنا مرضا أو جوعا، ھو تیه في صحراء الإنسانية العمیاء، و الأنانية المفرطة، والطغیان الذي لا حد له، ھو أكثر من التیه..ھو نزوح.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى