الهامس الطيب
كان هناك قرية صغيرة تقع في أسفل جبل تطل علي بحيرة جميلة كانت تنعم بالهدوء والسكينة سكانها إناس طيبين (طيبون) يعملون بالزراعة وصيد الأسماك ويعيشون بسعادة. كان لهذه القرية شئ تميزت به عن غيرها حيث كانت تمتلك نجما خاصا بها يضئ ليلها ويجعل سمائها (سماءها) تشع نورا حتي في الليالي الأكثر ظلاما. وجد ذلك النجم منذ زمن بعيد حيث استطاع أحد رجال القرية الشجعان في أحد (إحدى) مغامراته الجريئة أن يجده ويأتي به إلي القرية ويطلقه في سمائها ومنذ ذلك الوقت والنجم يرسل ضوئه (ضوءه) في كل مكان والناس تستمتع بنوره.
كان أحد أطفال القرية ويدعي طارق طفلا يافعا يخرج مع أقرانه للعب واللهو عند البحيرة ويقضوا (ويقضون) أوقاتا سعيدة بين الطبيعة الخلابة غير عابئين بأي شئ من متاعب الحياة وعندما ينال منه التعب والإرهاق من كثرة اللعب يعود إلي منزله ليتناول بعض الطعام ثم يريح جسده قليلا وفي المساء كان جميع سكان القرية يخرجون للسمر والترويح عن أنفسهم ومعرفة أحوال بعضهم البعض.
وفي ليلة من الليالي كان سكان القرية مجتمعين مثل العادة وبدت تلك الليلة في البداية جميلة لطيفة كغيرها من الليالي حيث الجميع سعداء والنجم ضوءه يخترق كل ظلمة ولا يوجد أي شئ مريب إذ فوجئ سكان القرية بالنجم يزداد توهجه (توهجا) بشكل كبير لم يحدث من قبل مما أجبر بعض الناس علي وضع أيديهم علي أعينهم من شدة الضوء والبعض الآخر دفعه فضوله ليتحمل الرؤية لمعرفة ماذا يجري ولرؤية المنظر الذي كان حقا مدهشا إلا أن ذلك لم يستمر طويلا فقد أخذ توهج النجم يخفت شيئا فشيئا ثم أظلم فجأة وحل ظلام لم تشهده القرية منذ زمن بعيد وحدث مالم يخطر علي بال سكان القرية لقد انتهي نجمهم الرائع وعادت القرية للظلام مرة أخرى. شعر الناس بالحزن الشديد وأخذوا يشكون لبعضهم البعض عما يستطيعوا (يستطيعون) فعله الآن، ثم ذهب كل منهم إلي بيته لكن هذا لم يكن حال الجميع فقد توجه قادة القرية وأهل المشورة والرأي إلي منزل كبيرهم ليتشاوروا فيما حل بهم وفقدانهم نجمهم وضيائه وما هي البدائل وكان كثيرا (كثير) منهم يري إنه لا فائدة من الحديث ونسيان هذا الأمر وإنهم يجب أن يجدوا بدائل لإنارة شوارعهم ونواديهم وكان هذا رأيا عمليا وحكيما لكن حتي لو نفذ ذلك الرأي لن يعيد للسماء جمالها ولن يطيق أحد النظر إلي أعلي فليس هناك إلا الظلام وبعد جدال ونقاش حل الصمت علي الجميع كل منهم يفكر في أمر مختلف فمنهم من يفكر في بديل والأخر يترحم علي أيام نجمهم العظيم وبينما هم علي حالتهم تلك أخذت يد تطرق الباب فأذن (فأذنوا) لصاحبها بالدخول فإذا هو شيخ كبير يبدوا من منظره إنه عاش العديد والعديد من السنوات أكثر من أي أحد أخر من السكان تقدم الشيخ بخطوات هادئة ثم جلس علي كرسي يتوسط المجتمعين وقال بصوت هادئ يبدو إنكم تبحثون في مشكلة الظلام الذي حل بالقرية بعد دمار النجم. أجابه كبير القرية نعم أيها الشيخ نحن مجتمعون هنا لهذا السبب. قال الشيخ إذا هل تخبروني إلي ما توصلتم إليه من قرارات. أخبروه بكل ما دار في نقاشهم ظهر علي وجه العجوز التعجب وبدا واضحا أن ما أخبروه به لم يثر إهتمامه بل إستياءه صمت قليلا ثم قال يبدوا إنكم نسيتوا قصة ذلك الرجل الشجاع الذي جلب لنا النجم العظيم وجعله ينير السماء ماذا حدث لكم هل توقفت الأمهات والجدات عن قص حكايته أم ماذا؟ ظهرت تعابير السخرية علي وجه بعض الحضور فيما قال آخرون أيها الشيخ تلك مجرد خرافات وأساطير كيف لأحد القدرة علي الإتيان بذلك النجم لقد وجد من تلقاء نفسه ولم يجلبه إنسان وقصة ذلك الرجل ماهي إلا قصص مختلقة كانت ترويها الأمهات لأولادهن قبل النوم. نظر العجوز بغضب قائلا ليست خرافات إنها الحقيقة لقد كنت صغيرا عندما أقدم ذلك الرجل علي فعلها وأحضر لنا النجم العظيم ليحيل عتمة ليل القرية إلي نور باهر، وإذا ظللتم تنكرون حدوث تلك القصة فلن تحاولوا إحضار نجم أخر وستعيشون في ظلام ولن تستطيع شموعكم ومصابيحكم البالية أن تكسر عتمته، أما إذا صدقتم تلك القصة وقبلتم بحقيقة حدوثها فعليكم التعجيل بالتحرك وجلب نجم جديد وسماع نصائحي. أثارت كلمات العجوز إهتمام المجتمعين وبدأ عقلهم بتقبل كلامه وقنعوا ( واقتنعوا) إنه علي صواب خاصة كبيرهم الذي قال: أيها الشيخ أعتقد إنه ليس لنا إلا أن نستمع إليك هلا قلت لنا ما الذي يجب علينا القيام به؟.
قال العجوز: أحضروا إلي غدا شخصا قويا ذو (ذا ) شجاعة وإرادة قوية وصبر لأعطيه خارطة النجوم ومكانها. قال له كبير القرية : لك ماتريد أيها الشيخ ليذهب كل منكم الآن إلي منزله لينام ويستريح ونجتمع في الصباح مع باقي سكان القرية لنخبرهم بهذا الرأي ونختار أحدهم للقيام بتلك المهمة. ذهب الجميع إلي منازلهم ومن ضمنهم رجل ناله التعب من ذلك اليوم الطويل فأسرع بالذهاب إلي منزله الذي ما إن دخله حتي سارعت إليه زوجته التي كانت في إنتظاره لتعرف ما الذي دار في الاجتماع وما توصلوا إليه من رأي، لكن لم تكن زوجته فقط التي تريد أن تعرف حيث كانت هناك أذن تلتصق بأحد الأبواب تسترق السمع لتعرف ماذا حدث في الإجتماع، لم تكن تلك الأذن إلا أذن طارق الذي دفعه فضوله إلي عدم النوم و انتظار عودة أبيه من الاجتماع، لقد أحزنه فقدان نجمهم المضئ. قص والده ما حدث في الاجتماع وأخبر زوجته بأمر ذلك العجوز وموعد الإجتماع المنتظر في الصباح لجميع سكان القرية ثم ذهب للنوم. عاد طارق إلي سريره وسرح بخياله بعيدا بعد سماع قصة النجم وتخيل لو إنه هو من يستطيع الذهاب لمكان النجوم وإحضار نجم جديد ويتحول إلي أسطورة مثل المغامر الذي فعلها في المرة الأولي. أفكار كثيرة دارت بخلده لكن في النهاية غلبه النوم.
في الصباح خرج جميع سكان القرية لحضور الإجتماع وذهبوا عند منزل كبيرهم وعندما اكتمل الحضور خرج عليهم العجوز وأخبرهم بالقصة وبأمر الرجل الذي جاء بالنجم البائد ثم أخرج من جيبه خارطة النجوم وأراها للسكان وطلب منهم أن يتقدم شخصا قويا (شخص قوي) ليقوم بالمهمة الصعبة محذرا إياهم أن لا يستهينوا بها ومن يتقدم عليه أن يكون واثقا من إنه قادر علي القيام بها. أخذ العجوز يتفحص وجوه المجتمعين ليري من منهم سيتقدم. تمني طارق في تلك اللحظة أن يتقدم لكن حتي عين العجوز تخطته وكأنه غير موجود فقامته لم تكن بالطويلة لتلاحظها عين العجوز، ثم خرج من بين الجمع شابان إثنان أقوياء كل منهم (منهما) مستعد للقيام بها. عندما رأي العجوز ذلك قال هذه المهمة يجب أن يقوم بها رجل واحد فقط ثم اختار أحدهم وأعطاه الخريطة طالبا منه أن يستعد للرحلة الشاقة التي تبدأ صباح الغد ثم طلب من الناس الانصراف، وذهب الجميع إلي أعمالهم، وذهب طارق للعب مع أصدقائه وكان ما يزال معلقا في قلبه ذلك الأمل بالذهاب إلي مكان النجوم وحدث أصدقائه عن حلمه هذا إلا أن بعضهم سخر منه لأنه صغير جدا وتلك مهمة تحتاج إلي القوة بينما الآخرين (الآخرون) قالوا المهم النتيجة وليس من قام بها، طالما (مادامت) ستعود سماء قريتنا إلي جمالها السابق فهذا يكفي.
في صباح اليوم التالي كان موعد بدء الرحلة وإنطلق الشاب المختار في مغامرته تصاحبه دعوات وتمنيات الجميع بالعودة سالما حاملا معه نجم يبيد (يبدد) ظلام ليلهم. مرت ثلاثة أيام علي انطلاق رحلة الشاب ولم يسمع أحد عنه خبرا إلي أن جاء اليوم الرابع ووصل إلي قريته منهكا باديا علي هيئته التعب الشديد وخرج الجميع لاستقباله ومعرفة ماذا حدث في رحلته، وهل وفق في مسعاه، لكن وجه ذلك الشاب المسكين أخبرهم بما خجل لسانه عن قوله، لقد فشل في مهمته، وقد حزن الناس فقد كانوا ينتظرون عودته حاملا معه ضوء ليلهم. وتقدم العجوز منه ملاطفا إياه ثم قال له : قم أيها الشاب لتغتسل وتأكل جيدا وتستريح (وتسترح) من عناء الرحلة. قال الشاب: اعذرني أيها الشيخ لقد فشلت في مهمتي. نظر إليه العجوز بلطف قائلا: أعتقد أنك فعلت ما بوسعك أيها الشاب هيا إذهب الآن. ثم أخذ منه الخريطة ودفعها إلي الشاب الآخر الذي سبق أن تقدم والذي بدوره لم ينتظر طويلا فتجهز في الحال ولم يضع وقتا وإنطلق في رحلته متمنيا تحقيق ما فشل فيه صاحبه ولكن تمر الأيام ويعود خائب الرجاء، لقد عجز هو الأخر عن تحقيق الهدف المنشود، فواساه العجوز بكلمات لطيفة ثم استلم منه الخريطة ونادي في الناس عمن يتقدم لخوض المغامرة، لكن تلك المرة اختلفت عن سابقتها (سابقاتها). لقد رأي الناس إثنين من أفضل رجالهم عجزوا عن القيام بالمهمة فلم يرد أحد أن يجرب حظه فسيكون (خوفا من أن يكون) مصيرهم مثلهم أو أسوأ, ونكس الجميع رؤوسهم وبحث العجوز عن أحد يتقدم فلم يجد، وتفحص الوجوه فوجدها يائسة. كان طارق حاضرا ولم ينتظر أن تقع عليه عين العجوز بل تقدم بخطوات ثابتة واثقة ناحية العجوز. لقد كانت عين العجوز مشغولة بالبحث لدرجة إنها لم تلحظ ذلك الجسد الصغير الذي يقترب منها.
وقال طارق: إني لها أيها الشيخ. سمع العجوز تلك الكلمات فنظر إلي قائلها فأبصر طفلا ذو ( ذا) جسد صغير. تبسم العجوز بحب قائلا: أيها الشجاع الصغير هذه المهمة ليست سهلة لمثلك فهي تتطلب القوة والتحمل. قال طارق: أستطيع التحمل وأعتقد إني قوي كفاية ولدي إيمان شديد إني أستطيع القيام بها وأنا أرجوا منك أن تعطني الفرصة مثلما أعطيتها لمن سبقوني. إقترب العجوز من طارق وهمس في أذنه قائلا: أنا واثق من أن قلبك الصغير يمتلك من الشجاعة أضعاف ما يمتلكه الكثير من هؤلاء لكن تلك المهمة ليست الشجاعة وحدها كفيلة بالقيام بها. ثم وجه العجوز كلامه لسكان القرية: هل يتقدم أحد؟ فلم يجب أحد. لقد نال الإحباط من الجميع، وعندما رأي العجوز ذلك منهم نظر إلي طارق وقال: حسنا أيها الصغير يبدوا أن مقدرا (يبدو أنه مقدر) لك القيام بها، يجب أن تذهب وتستعد. تقدم والد طارق إليه وحاول أن يثنيه عن قراره لكن طارق أصر علي القيام بالمهمة وطلب من والده ألا يخاف عليه لإنه يحمل بداخله أكثر بكثير مما يظنه. أعطي العجوز الخريطة لطارق وتمني له التوفيق، ثم توجه طارق ووالده إلي المنزل للاستعداد للرحلة.
عندما علمت والدته بأمر الرحلة لم تبد القلق الكثير بل كان جل همها هو التجهيز والتحضير لما قد يحتاجه إبنها من ذاد (زاد) وملبس وعتاد. في الليل آوي طارق إلي فراشه لكنه لم ينم من فوره بل أخذ يفكر في رحلته وما سيواجهه من صعاب ومتاعب وما ينتظره من مفاجأت (مفاجآت) ولقد تسلل إلي قلبه الشك وعدم اليقين بنجاح مسعاه وأنه سيشارك من سبقوه الفشل، لكنه طرد تلك الأفكار وحدث نفسه بأن من الإمكان فعلها، ثم أسلم عينيه إلي النوم.
في الصباح أيقظته أمه وجهزت له طعام الإفطار وتركته يتناول طعامه بينما ذهبت هي للتجهيز لأغراضه (لتجهيز أغراضه) فيما كان والده في إصطبل الخيل يختار بعناية حصانا قوياً ومطيعا يستطيع خوض الرحلة ولا يجهد ابنه. أحضر الأب حصانا جيدا وجلس ينتظر خروج ابنه. تناول طارق طعامه وتجهز سريعا وودع والدته لكن والدته رأت القلق باديا علي وجهه فأمسكت برأسه وقالت له بحنان: لماذا القلق يابني؟ قال طارق: أخشي يا أمي أن لا أتمكن من إحضار النجم. ابتسمت أمه واحتضنته وهمست في أذنه قائلة: بل تستطيع فعلها أنت لست كغيرك ستحصل علي ذلك النجم وتضعه في جيبك الصغير وتأتي به الينا. ثم قبلت جبينه وودعته، فخرج وامتطي الحصان وصحبه أبوه إلي حدود القرية وسلمه الخريطة ولم تظهر علي والده أية تعابير من خوف أو ما شابه ربما لأنه لم يريد (لم يرد) أن يري ابنه ذلك فيتأثر بل أظهر له ملامح الجد والحزم ليعطي ابنه الثقة في نفسه ثم ودعه أبوه ودعا له بالتوفيق والعودة سالما غانما.
انطلق طارق بحصانه لكنه لم يسرع كثيرا مع إنه ماهرا (ماهر) في ركوب الخيل، ربما لإنه (لأنه) لأول مرة في حياته يصل لتلك المناطق أو للتفكر بروية في كافة الإحتمالات التي ممكن أن تحدث وكيفية التصرف بها.
كانت الخريطة ترشده إلي الشمال حيث الغابات كثيفة الأشجار، وكان في طريقه سيضطر لعبور مستنقعات ووديان. جاء الليل فنزل من علي صهوة جواده وربطه في أحد جذوع الأشجار تاركا إياه يأكل من حشائش الأرض فيما أشعل هو نارا وجلس حولها (قربها) يتناول طعامه ثم نام ليستعد لصباح منهك.
أشرقت الشمس وأطلقت أشعتها تنير الأرض و أستيقظ طارق وهو يشعر بالنشاط والحيوية. قام وأغتسل من مجري مائي بالقرب منه وسقي حصانه وتناول طعام الإفطار ثم ركب حصانه. لقد كان ينوي أن يصل في نهاية هذا اليوم الي الغابات الكثيفة واعتقد أن حصانه قد عقد النية علي ذلك أيضا فقد انطلق بسرعة وأخذ يعدو بكل قوة وكأنه في سباق مع حصان آخر، وساعده الجو اللطيف علي التحمل. وقبل أن تغرب شمس ذلك اليوم كان طارق قد وصل إلي الغابات الكثيفة الذي (التي) كان منظرها مخيفا بقدر ما كان مهيبا، فأشجارها عملاقة تلتف أغصانها حول بعضها البعض. نزل طارق من علي حصانه واقترب منها واختلس النظر بداخلها (إلى داخلها) فوجدها شبه مظلمة، مع أن الظلام لم يحل بعد، وكان من المستحيل أن يسير بحصانه بداخلها فتوجب عليه أن يخترقها راجلا، فترك حصانه بدون قيد وكان يرجو أن يجده مكانه عندما يرجع، وأخرج الخريطة ليعرف مساره ودخل إلي الغابة، وكان يعلم إنه إذا أراد العثور على النجوم فلن يتم ذلك إلا ليلا. إنطلق بين الأشجار و الأغصان المتلاصقة والجذور التي فقدت طريقها إلي باطن الأرض فخرجت إلي سطحها تتعانق مع بعضها البعض ثم عادت مرة أخرى إلي باطن الأرض، وكان لجسده الصغير فائدة كبيرة وسط ذلك كله فقد إنساب بمهارة بين كل تلك المعوقات وبينما هو يتوغل بين الأشجار إذ سمع صوتا هامسا في أذنه يطلب منه الرجوع. توقف وتفحص المكان، لكنه لم يجد أحدا. قال في نفسه ربما توهمت ذلك، ثم استمر في السير لكن ذلك الصوت همس مجددا في أذنه قائلا: عد أيها الصغير فمثلك لا ينبغي لهم (له) أن يكونوا (يكون) هنا. هذا خطر عليك. كان ذلك الهمس واضحا تلك المرة لكن طارق ظن أنها أوهام مرة أخري نتيجة الإرهاق من الرحلة وقال لنفسه ليتني أخذت قسطا ولو يسيرا من الراحة تجدد لي تركيزي. وأخرج خريطته ليتأكد إنه مازال علي المسار الصحيح، لكن عاوده الصوت الهامس مرة أخري قائلا: أيها الطفل البريء عد من حيث أتيت هذه الغابة الموحشة لن تستطيع المرور بها ومن المستحيل أن تصل إلي ما تريد. هنا تأكد طارق إنه لا يحلم أو يتوهم بل هناك حقا من يهمس بأذنه.
صاح قائلا: من أنت؟ لم يجبه الصوت ولم يسمع طارق سوي سكون الغابة. اعتقد طارق أن ذلك سحرا (سحر) ما وضع لمنع الوصول إلي جبل النجوم الذي يقع في منتصف الغابة. استمر طارق في التقدم ومضي الكثير من الوقت من دون أن يستريح وقطع مسافة كبيرة ثم بدأت كثافة الأشجار تقل شيئا فشيئا إلي أن اختفت تماما.
نظر طارق فإذا بالجبل جاثما أمامه و بأعلى قمته نور شديد لم يري (لم ير) مثله من قبل، شعر بالسعادة والفرح ولولا الإرهاق والتعب الذي يشعر به لكان رقص طربا. لقد ظن أن رحلته و مغامرته قد اقتربت من النهاية وسيعود بقبس من ذلك الضياء المتوهج، لكن مالم يكن يدركه أن كل ما قطعه من مسافات وما مر به من تعب و إرهاق وعبوره الغابة لم يكن هو الرحلة إنما القادم وما سيتعرض له هي الرحلة الحقيقية. انطلق طارق يهم (يحث) الخطا (الخطى) نحو جبل النجوم وما إن وصل إليه حتي تأمله فوجده متوسط الإرتفاع، انحداره ليس حادا، يستطيع تسلقه ببعض الجهد. أنزل طارق حقيبته التي بها ذاده (زاده) وعتاده ووضعها علي الأرض ثم خلع بعض ملابسه الواسعة التي قد تعيقه (تعوقه) أثناء تسلق الجبل وما إن وضع أول قدم علي الجبل حتي همس ذلك الصوت في أذنه مجددا قائلا: ألم أحذرك أيها الصغير أن تعود من حيث أتيت أتريد أن تعرض نفسك للخطر؟ أنزل طارق قدمه وصاح قائلا: من أنت أظهر لي هل أنت وهم يخيله إلي عقلي أم سحر ألقي بالمكان؟ ثم ظهر أمامه شيخ كبير يرتدي الملابس البيضاء ويمسك عصا يتكأ عليها وتظهر علي وجهه ملامح الطيبة وقال بصوت حنون: ها أنا ذا يا صغيري. بشحمي ولحمي لست أوهام (أوهاما) ينتجها عقلك أو سحرا. قال طارق:
من أنت؟ قال: أنا الهامس الطيب جئت لأنصحك ألا تكمل ما جئت لأجله فليس من المفترض أن تكون هنا بل أن تكون علي فراش وثير ووالدتك تقص عليك قصة ما قبل النوم. قال طارق: بل مكاني هنا لقد جئت في مهمة وسأنفذها. قال الهامس: يا صغيري أنا أعلم ما تريده ولكنه أمر يصعب تحقيقه، الجبل مرتفع ومن المحتمل أن تسقط وتهوي إلي الأرض وتتحطم عظامك. عد الآن وسأصحبك حتي حدود الغابة. هيا بنا. وهم بأن يمسك يد طارق لكن طارق أفلت يده ورجع بعض الخطوات وقال: بل يجب أن أصعد إلي قمة هذا الجبل وأحضر نجما لينير سماء قريتنا. قال الهامس: لقد حاول الكثيرون فعلها ولم ينالوا إلا الفشل ولا أعتقد أن هناك ما يميزك عنهم وسيكون مصيرك نفس مصيرهم. ثم اقترب منه وأشار إلي قمة الجبل وقال: أتري تلك القمة؟ إنها بعيدة جدا.
ما الذي يجعلك تظن إنك قادر علي بلوغها؟ انظر إلي الجبل نفسه هو خال من أي ممرات أو طريق يجعل صعوده أمرا هينا فكله منحدرات خطرة تجعل السقوط منه أمرا حتميا. نظر طارق إلي أعلي فوجد قمة الجبل كأنها ابتعدت أضعاف المرات عن أول مرة شاهدها وتفحص الجبل ومنحدراته فشعر كأن الهلاك نفسه استوطنه. أكمل الهامس كلامه قائلا: إني أخاف عليك يا صغيري وأرجو أن تستمع إلي جيدا. كن فتي مطيعا فأنا لا أريد إلا الخير لك. إني هنا منذ زمن طويل أنصح الجميع بدون كلل أو ملل دون إنتظار شكر من أحد، فأنا لا أريد أن يقتحم الناس المخاطر ويعرضوا أنفسهم للمتاعب حتي إنه جاء منذ بضعة أيام شابان أرادا الصعود لكني نصحتهم بلطف، وكان أحدهم ذكيا فاستمع إلي نصحي وعاد إلي قريته أما الآخر فلم يستمع لكلامي في البداية لكن بعد أن ناله التعب نصحته مرة أخري فاستمع إلي تلك المرة وعاد من حيث أتي. قال طارق: إنهم من قريتي لكني أريد أن أجرب حظي. صاح الهامس: تجرب حظك؟ ما الذي يجعلك تظن أنك مختلف عنهم لتأتي بما لم يستطعه الشابين (الشابان). قال طارق بثقة: أولا لأني لست مثلهما، أنا أعلم إني مختلف، ثانيا لأن هناك من استطاع أن يفعلها، إذن أنا أستطيع أيضا. لقد فعلها رجل منذ زمن بعيد من قريتي وسأفعل مثله. نظر الهامس بعيدا كأنه يتذكر شيئا ثم إبتسم وقال: أعتقد أنك تقصد ذلك الرجل المجنون الذي قدم إلي هنا منذ زمن بعيد، لقد كان فاقدا عقله، أنا أتذكره جيدا لم يستمع إلي نصحي وصم أذنه عن كلماتي فقد كانت تسيطر علي عقله فكرة مجنونة وهي إنه إنسان خارق ليس هناك مثله، مميزا عن الجميع، تعرض للكثير في أثناء صعوده لهذا الجبل، لقد تعرض للجروح والكدمات وتحطم بعض ضلوعه وأوشك علي الموت عددا من المرات. قاطعه طارق وقال : ثم ماذا؟. صمت الهامس ولم يجب وأكمل طارق قائلا : لقد حصل علي ما جاء لأجله وأعتقد أن كل ما شعر به من ألم قد اختفى في تلك اللحظة، ثم أن هناك شيء آخر (شيئا آخر) أهم من ذلك، أن أمي أخبرتني إني أستطيع أن أنجز تلك المهمة. قال له الهامس: يا صغيري أمك اخبرتك بهذا لأنها تحبك ثم ما الذي تعرفه أمك عن هذا العالم لتدرك ذلك؟ قال طارق: ربما أمي لا تعلم الكثير عن هذا العالم لكنها تعرف ابنها جيدا وتعلم ما أنا قادر عليه وأنا أصدق كل ما تقوله ولقد أخبرتني إني أستطيع أن آتي بذلك النجم وأضعه في جيبي الصغير ولهذا يجب ألا أضيع المزيد من الوقت. ثم إتجه طارق ناحية الجبل وبدأ في التسلق وأغلق أذنيه عن كلام الهامس الذي أخذ بالصياح ارجع أيها الصغير، توقف المكان خطر، لكن طارق استمر في التسلق الذي لم يكن هينا في بداية الأمر ثم أخذ في السهولة شيئا فشيئا وكأن يدوأرجل (يدي وقدمي) طارق تعرف الجبل جيدا/ ولم يكن الأمر خاليا (ولم يخل الأمر) من بعض الخدوش والكدمات البسيطة. لقد اقتربت القمة كثيرا كأنها تنزل إليه. بعد مدة وجد طارق نفسه علي قمة جبل النجوم وجلس علي ركبتيه يلتقط أنفاسه ثم وقف وتقدم ثم فوجئ بذلك الهامس واقفا أمامه لا يعلم كيف جاء وكيف صعد قبله حتي مظهره لا يبدو عليه آثار اتساخ أو غيره، وقال الهامس في صوت مخيف : هل أخبرتك أمك أنك تستطيع إحضار النجم وتضعه في جيبك الصغير؟ حسنا لقد كانت مخطئة أيها المدلل. وتحول وجهه إلي شئ بغيض ورفع عصاه التي كان يتكأ عليها فإذا هي تتحول إلي سيفا (إلى سيف) يشتعل لهبا، وحاول أن يضرب به طارق، لكن طارق أخرج سيفا صغيرا من طيات ملابسه وتلقي بها (به) الضربة، ثم أخذ الهامس يكثر الضربات علي طارق (X )، وكان طارق يتلقاها بسيفه مرة و يراوغ بجسده الصغير مرة أخرى، وأخذ الهامس يصرخ في غضب: أنت لست كفؤا لتصعد إلي هنا، ارجع من حيث أتيت بينما ماتزال هناك فرصة. لكنه وجد من طارق إصرارا وإرادة صامدة واخذ يصرخ ويحذر تارة ويضرب بسيفه الملتهب تارة أخرى لكن مع الوقت أخذت قوة ضرباته تضعف شيئا فشيئا ولهيب سيفه يخفت تدريجيا وصوته الصارخ أخذ في التلاشي حتي أصبح همسا ثم أصبح لا شئ مجرد هواء يخرج من فمه. وجد طارق تلك فرصة سانحة فسدد إليه ضربة قاضية جعلته يتبخر في الهواء. وضع طارق سيفه في غمده ثم تقدم حتي وصل إلي النجوم التي كانت معلقة في السماء. لقد كانت بعيدة لا يعرف طارق السبيل إليها ثم تذكر كلمات الشيخ العجوز عندما قال له إذا قطعت رحلتك وتحملت صعابها ووصلت إلي جبل النجوم فكل ما عليك فعله هو أن تقف أسفل النجم وتمد يدك عاليا، فرفع طارق يده عاليا وانتظر ما قد يحدث، ولم يمر الكثير من الوقت حتي شاهد طارق نجما كبيرا يهبط إلي أسفل ببطء وحجمه آخذ في التقلص تدريجيا إلي أن وصل إلي يد طارق وهو مثل حبة الليمون، أمسك به طارق وتأمل جماله ونوره الباهر وإبتسم وقال لنفسه نعم أنت تستحق تلك المعاناة، ثم وضعه في جيبه ونزل من الجبل واخترق الغابة في نشاط وسرعة كأن لم يلم به تعب حتي وصل في الصباح إلي نهاية الغابة فوجد حصانه منتظرا إياه فركبه وعاد إلي قريته من فوره. استغرقت رحلته في العودة مثلما استغرقت في الذهاب فوصل إلي قريته بعد أن حل الظلام وتوجه إلي منزله وطرق الباب ففتحت له أمه وعندما رأته أمامها صاحت من الفرحة واحتضنته وأعطته عددا كبيرا من القبلات وسألته عن صحته هل هو بخير؟ هل كان طعامه كافيا؟ أسئلة كثيرة لم يجب طارق علي أي منها لكنه وضع يده في جيبه وأخرج النجم وما أن أخرجه حتي حال (أحال) البيت إلي كتلة من النور، وما إن رأت أمه النجم حتى أصابها الذهول من ضيائه وأمسكت به تتأمله في فرح ثم نظرت إلي طارق بفخر وقالت:
لقد كنت أعلم يا بني إنك ستأتي به. خرج والد طارق من غرفته ليعرف سبب ذلك النور الباهر فوجد ابنه فأحتضنه واطمئن عليه ثم قص عليهم طارق ما حدث له في رحلته وأخبرهم بأمر ذلك الهامس وقال له والده: أنت كنت كفؤا لتلك المهمة والآن هيا بنا إلي منزل كبير القرية ولملاقاة الشيخ ولنخبرهم بعودتك بالنجم. ذهب الجميع وأثناء سيرهم خرج أهل القرية علي ضوء النجم وشعروا بسعادة بالغة لما رأوا النجم ولما عرفوا أن سماءهم ستنير مجددا، واتجه الجميع لمنزل كبير القرية وعندما وصلوا خرج لإستقبالهم الشيخ وما إن رآه طارق حتي توجه إليه وأعطاه النجم. أمسك العجوز بالنجم وتأمله وقال لطارق : لقد فعلتها أيها الصغير كان ينبغي أن اختارك منذ البداية، من المؤكد أن عثورك عليه لم يكن بالأمر السهل. هز طارق رأسه قائلا نعم لم يكن سهلا، والآن هل تجعله يأخذ مكانه في السماء؟ قال العجوز: هذا شرف لا أستحقه بل أنت من يجب أن يفعل ذلك. ثم أعطي النجم لطارق لكن طارق قال: ماذا أفعل؟ قال العجوز: كل ما عليك فعله هو أن تقف وترفع يدك عاليا وتترك النجم يرتفع. فعل طارق ذلك ورفع يده عاليا ثم صعد النجم إلي السماء ببطء وكلما صعد زاد حجمه، أخذت الناس تنظر في دهشة لم تري (لأنها لم تر) مثل ذلك الجمال من قبل حتي وصل النجم إلي مكانه وأخذ حجمه الطبيعي وأرسل ضياءه إلي كل أنحاء القرية.
حتفل القرويون بذلك الحدث السعيد واحتفي الجميع بطارق الذي كان السبب في عودة حياتهم كما كانت وعودة سمرهم مرة أخرى.
= انتهت =