انتقاد بريخت في مسرح يونسكو
إذا كانت العلامة المسرحية هي كل عنصر مفرد من عناصر العرض المسرحي سواء كان هذا العنصر مرئياً أو سمعياً فإن الدلالة الناشئة عن هذه العناصر – العلامات – تعتمد في المقام الأول على تفاعلها فيما بينها من ناحية و تفاعلها مع مواضعات السياق الاجتماعي الذي يهيمن على عمليتي الإنتاج و التلقي من ناحية أخرى.
و تمتلىء مسرحيات الكاتب الفرنسي "يوجين يونسكو" بالكثير من العلامات التي تتعلق بقضايا المسرح و التي غالباً ما تركز على الدعوة للمسرح الطليعي والدفاع عن مسرح العبث بصفة عامة و مسرح يونسكو على وجه الخصوص. و هذه العلامات تتجاوز مجتمع المسرحية المفردة إلى عالم المسرح كنشاط إنساني حيث تخرج الشخصية الدرامية من فرديتها و خصوصيتها الدرامية داخل المسرحية لتتحدث بلسان "يونسكو" لتعكس آراءه النقدية الشخصية في الكثير من القضايا المسرحية، و هو الأمر الذي يصل إلى ذروته في مسرحية (مرتجلة ألما) عندما تتطابق الشخصية الدرامية مع شخصية "يونسكو" اسما و فعلاً. بل إن "يونسكو" لا يتورع عن أن يمتدح نفسه على لسان إحدى شخصيات مسرحيته (ضحايا الواجب) فعندما يطلب رجل الشرطة من "نيكولا" أن يواصل كتابة المسرح يرد الأخير: ((نيكولا: لا فائدة. فلدينا يونسكو، و يونسكو يكفي !))
و من بين كافة أسماء المؤلفين المسرحيين الذين يأتي ذكرهم على ألسنة شخصيات "يونسكو" الدرامية، سواء مدحاً أو ذماً أو حتى على سبيل الدعابة، فإن الكاتب المسرحي الألماني "برتولت بريخت" يظل هو صاحب النصيب الأكبر من هجوم "يونسكو"، فعلى الرغم من أنهما يتفقان في النظرة الانتقادية للمسرح الأرسطي التقليدي وسعيهما إلى طرح قيم جمالية مغايرة، إلا أن "يونسكو" - وفي مواضع كثيرة من مسرحياته - لا يتوانى عن توجيه سهام انتقاداته الساخرة للكاتب الألماني الذي لا يمكن إنكار تأثيره الهائل على فن المسرح، سواء بنظريته الخاصة عن المسرح الملحمي أو بأعماله المسرحية وما طرحه فيها من تقنيات وأفكار تتعلق بكافة عناصر العرض المسرحي.
وإذا ما حاولنا الوصول إلى أسباب تكرار هذا الهجوم الساخر فإننا نستطيع أن نجد مجموعة من العوامل التي قد يبدو بعضها أقرب ما يكون إلى الخلاف العقائدي - في المسرح بالطبع - في حين يتخذ بعضها الآخر سمات شديدة الذاتية، ويمكن إجمال هذه الأسباب فيما يلي:
إن المسرح الذي يدعو إليه ”بريخت“ ليس هو ذلك الذي ينشده ”يونسكو“ الذي - وخلافا لبريخت - يعلن رفضه لأية أيديولوچية حيث يرى فيها نوعا من أنواع الانقياد الأعمى من الجماهير لصالح نخبة متسلطة. إن جماليات مسرح ”بريخت“ التي تسعى إلى إيقاظ وعى المتفرج فيما يراه فوق خشبة المسرح سعيا إلى الوصول للحقيقة يتناقض مع أحد المفاهيم الأساسية في مسرح ”يونسكو“ والمتعلق بمعنى الحقيقة نفسها ليس فقط نسبيتها بل وحتى في إمكانية وجود هذه الحقيقة أصلا – سواء في الحياة الواقعية أو في حياة الشخصيات الدرامية – وبقدر ما يبدو العالم من وجهة نظر "يونسكو" جحيماً غير قابل للتغيير فإن مسرح "بريخت" يؤمن ليس فقط بإمكانية تغيير العالم بل و بقدرة المسرح على إحداث هذا التغير على نحو ما يشير الناقد الفرنسى ”چاك دى سوشيه “: (( ... هناك بالنسبة إلى بريشت ، علم لتغيير المجتمعات: إنه الماركسية التي تتيح السيطرة على العالم الإنسانى ، لقد قادته ماركسيته إلى التفكير في أن مسرح عصر صعود البروليتاريا ينبغى له هو أيضا (كما فعلت المعرفة العلمية) أن يتحرر من سحر الخرافات اللاعقلانية . ينبغى له أن يستخدم تقنية محددة ، موضوعية ”علمية“ لتحليل الواقع الاجتماعى ومعرفته... ))
وبقدر ما تصف هذه الكلمات نوعا من المسرح مغايرا لمفهوم "يونسكو"، بقدر ما تكشف عن الكثير من الإعجاب - أو على الأقل الاهتمام - الذي أبداه عدة نقاد فرنسيين ولاسيما نقاد اليسار تجاه أعمال "بريخت"، وهو ما تزامن مع نجاح عروض فرقة ”برلينر انسامبل Berliner Ensemble“ في فرنسا حيث قامت الفرقة بزيارة باريس في عام 1954 وقدمت عرض ( الأم شجاعة ) وفي عام 1955 كانت الرحلة الثانية وقدمت عرض ( دائرة الطباشير القوقازية ).
و في مقابل احتفاء نقاد اليسار بصفة عامة - والفرنسيين منهم على وجه الخصوص- ببريخت فإنهم قد هاجموا مسرح ”يونسكو“ باستثناء القليل منهم ولذلك فإنه ليس من قبيل المصادفة أن ناقدا فرنسيا مثل ”برناردور“ والذي يعد واحدا من أبرز مناصرى ”بريخت“ قد هاجم مسرح ”يونسكو“ بصورة واضحة، فقد كتب ”برناردور“ في العدد الثامن عشر من ( المسرح الشعبى ) الصادر في مارس 1956 يقول: (( أن يرفض المشاهد (...) أو يقبل مسرح الرعب هذا، ليس لاختياره في الحقيقة أية أهمية، إذ في النهاية لا شئ قد حدث ، لقد ألغى هذا المسرح العالم لكن بطريقة خيالية وهمية، ولهذا السبب فإن هذا المسرح هو الذي ألغى نفسه، أنكر نفسه بنفسه...))
كما أنه ليس من قبيل المصادفة أيضا أن تشيع في كلمات النقاد الثلاثة الذين عرضهم ”يونسكو“ ساخرا في مسرحيته ( مرتجلة ألما ) الكثير من المصطلحات التي تعكس ميولهم اليسارية في النقد بصفة عامة والنقد المسرحي على وجه الخصوص.
و مع ازدياد عداء ”يونسكو“ للتجربة السوفيتية الستالينية في فترة الحرب الباردة، فإن ”بريخت“ على العكس من ذلك قد امتدح ”ستالين“ بل و قام في عام 1955 باستلام الجائزة التي تحمل اسم "ستالين" و التي منحت له بعد وفاة الأخير. و حتى قبل أن يستقر ”بريخت“ أخيرا في ألمانيا الشرقية - التي مثلت رأس حربة الدول الشيوعية تحت زعامة روسيا في مرحلة الحرب الباردة، كان قد خضع أثناء تواجده في الولايات المتحدة إلى التحقيق من قبل ( لجنة النشاطات المعادية لأمريكا) في عام 1947 و قد ارتكزت اللجنة في هجومها عليه على ميوله اليسارية.
وعلى الرغم من النفور الذي يمكن أن يتوقعه المرء من جانب ”يونسكو“ تجاه أية أنشطة من شأنها تقييد حرية الكاتب – أي كاتب – ومحاكمته من خلال أعماله إلا أن كراهية ”يونسكو“ الشديدة لكل ما يمت للفاشية بصفة عامة والاتحاد السوفيتي على وجه الخصوص جعلته لا يقبل من "بريخت" أن يقوم باستلام جائزة تحمل اسم ”ستالين“ الذي يرى فيه ”يونسكو“ نموذجاً صارخاً للأنظمة الفاشية التي لايكف عن انتقادها والهجوم عليها سواء على ألسنة شخصياته الدرامية أو في كتاباته غير المسرحية.
وأخيراً فقد يكون اهتمام ”بريخت“ بمسرحية ”صمويل بيكيت“ ( في انتظار جودو) سببا في حنق ”يونسكو“ على الكاتب الألمانى: ((... تؤكد لنا ملاحظات أوردها ”بريخت“ على نسخة من مسرحية (في انتظار غودو) لصامويل بيكيت، على أن هذه المسرحية كانت قد أثارت لديه أكثر من مجرد اهتمام عابر. بل وربما فكر بكتابة نوع من "غودو – مضاد" ))
ربما كان واحد من بين هذه الأسباب أو كانت جميعها هي ما دفع ”يونسكو“ إلى انتقاد ”بريخت“ صراحة - أو ضمنيا - أو ربما كانت هناك أسباب أخرى لذلك و أياً ما كان الأمر فإن مسرحية (مرتجلة ألما) على سبيل المثال تمتلئ بالكثير من العلامات اللفظية على ألسنة النقاد الثلاثة بحيث تبدو هذه العلامات في صورة موجهات تؤكد على دلالة واحدة هي انتقاد ”يونسكو“ للكاتب المسرحي الألماني ”برتولت بريخت“ سواء فيما يتعلق بمصطلحات "بريخت" الخاصة أو بمنهجه سواء على مستوى العلامات الديكورية أو أداء الممثل.
وفيما يتعلق باستخدام علامات الديكور في مسرح بريخت، نجد أن النقاد الثلاثة عندما يريدون تحويل غرفة ”يونسكو“ إلى مسرح فإنهم يبدءون في وضع اللافتات على الأشياء الموجودة في الحجرة، وهم يفعلون هذا الأمر بطريقة مبالغ بها، مما يؤكد على سخرية ”يونسكو“ بصورة لا تخطئها العين: (( ... بارتولوميوس(2) يلقى أرضا بالكتب والدفاتر التي كانت موجودة فوق الطاولة ويضع مكانها لافتة مكتوب عليها (طاولة مزيفة) (...) بار(1) و بار(2) يضعان فوق مقعد قديم موسد وفوق كرسى آخر لافتتين مكتوب عليهما "وهمى" ))
و كان الشكلانيون الروس من أوائل الذين نبهوا إلى قصدية العمل الأدبى في الإشارة إلى تقنية كاتبه فيما أطلق عليه "فيكتور شيكلوفسكى" إسم: (إماطة اللثام)، بمعنى قيام الأديب بالكشف عن أدواته الخاصة بصنعته للقارئ تحقيقا لما أسماه الشكلانيون (التغريب)- بالروسية ostranenie - وفي المسرح استفاد بريخت من مفهوم إماطة اللثام في تجاوز اهتمامات الشكلانية - التي انصبت على التقنية ذاتها- إلى توظيف هذه التقنية لتحقيق أهداف سياسية واجتماعية.
إن ما يقوم عليه مسرح بريخت من الكشف المتعمَد للصنعة المسرحية هو ما يسخر منه ”يونسكو“ هنا، و يستدعى ذلك إحساسا بالتناقض إذ أن ”يونسكو“ نفسه كثيرا ما يعمد إلى هذا الكشف المقصود لصنعة الكاتب، إن مسرحيات ”يونسكو“ - ومسرحيته (مرتجلة ألما) نفسها هي دليل واضح على ذلك - تمتلئ بالكثير من العلامات سواء كانت لفظية أو مرئية على مستوى علامات المنظر أو الممثل والتي تهدف إلى الإلحاح على طبيعتها المسرحية .
هذا التناقض يزول إذا ما حاولنا إدراك الفارق بين استخدام كل من ”بريخت“ و ”يونسكو“ لهذا الكشف المتعمد للصنعة المسرحية - فعلى العكس من بريخت - لا يقدم "يونسكو" عالما إيهاميا ثم يقوم عامدا بتحطيم هذا الإيهام من أجل إيقاظ وعى المتفرج، إن الصورة التي يقدمها ”يونسكو“ للعالم هى صورة غائمة ما بين الإيهام وكشف الصنعة، إنه عالم لا يقطعه الشك بقدر ما يمثل الشك جوهر وجوده. و لعل هذا التشابه الظاهري هو ما دفع "لورانس كيتشين" إلى التأكيد على ما اعتبره عناصرً مشتركة ما بين الكاتبين: ((... إختبر يونسكو قضية الإيهام جذرياً عندما استطاع عمليا أن يملأ الخشبة - كما فعل في الكراسى - بزحام ناشىء من أناس ليسوا موجودين(...) إن يونسكو يشبه يريشت أكثر مما قد يقترح أى تصنيف يعتمد على تقييم فلسفي ، فعلى سبـيـل المـثال قـام بـريـخـت بـكتابة قـصيدة حـول المهـمـات المسرحـيـة الخـاصة (بـزوجـته الممثلة) "فـايجـل" ، كما أكد بشدة على أهمية تلك الأشياء المتحركة فوق الخشبة ... ))
و بقدر ما يشترك "يونسكو" و "بريخت" في التشكيك العمدى في إيهامية العلامات المسرحية إلا أن الفارق ما بين الكاتبين لا ينتج فقط من التقييم الفلسفي - الذي يشير إليه "كيتشين" في الاقتباس السابق- هذا الفارق إنما ينتج، بالأحرى، من التفرقة ما بين استخدام كشف الصنعة كأداة من ناحية، و الغرض من استخدامها، من ناحية أخرى. إن "يونسكو" لا يسعى إلى تعطيل قدرة المسرح على الإيهام بالواقع بقدر ما يتشكك في صلاحية هذا الواقع نفسه لكي يتم الإيهام به، فهذا الواقع نفسه ليس حقيقياً.
إن الشخصيات غير المرئية في مسرحية (الكراسي) تجبرنا على التشكك ليس فقط في وجودها المسرحي بل إن وجودها الواقعي نفسه يبدو محل تساؤل، و من الخطأ الجزم بحالة وجود هذه الشخصيات غير المرئية سواء إيجاباً أو سلباً، لأن هذه المنطقة الضبابية الغائمة من الوجود و عدم الوجود هي تحديداً ما تهدف مسرحية (الكراسي) إلى التأكيد عليه.
فنسبية الحقيقة هي الفكرة المفتاحية التي تفسر لنا هذه الحالة المزدوجة من الحضور و الغياب، و كنا نستطيع القول بأن هذه الشخصيات غير المرئية - من قِبل المشاهدين - لا تعدو أن تكون مجرد أوهام تسكن رأس الزوجين العجوزين و في هذه الحالة فإن ما يصدرانه من علامات لفظية و حركية هو التجسيد السمعي و المرئي لتلك الأوهام، و لكن نهاية المسرحية تتشكك في هذه الفكرة لأن هؤلاء المشاهدين سيجدون أنفسهم مجبرين على افتراض وجود الضيوف بسبب تلك الأصوات الصادرة عنهم: ((... تسمع لأول مرة الضوضاء البشرية التي تصدر عن الجماهير الوهمية (...) هذه الضوضاء تكون خفيفة في البداية، ثم تعلو مع الوقت، ثم تعود من جديد فتخفت تدريجياً. كل ذلك يجب أن يستمر وقتا كافيا حتى ينصرف الجمهور (...) و هذه النهاية محفورة في ذهنه... ))
و تجدر الإشارة هنا إلى أن الترجمة العربية تقوم بما يشبه التفسير الضمنى لوجود هؤلاء الضيوف بما يغاير النص الأصلى:
)) On entend pour la première Bruits humains de la foule invisible…))
إن مصدر الضوضاء هو الأصوات التي تصدر عن الزحام البشرى للشخصيات التي يصفها "يونسكو" بأنها "غير مرئية invisible" و ليست "وهمية" كما تقول الترجمة، و من جديد فإن ذلك لا يعنى الجزم بأن تلك الشخصيات حقيقية، إنها شأن كافة الحقائق في مسرح "يونسكو" تظل غير مؤكدة، فربما لا يوجد هؤلاء الضيوف على خشبة المسرح و ربما يوجدون و لكن في مكان آخر أو زمان آخر، بل ربما يوجدون و لكننا نحن الذين لا نستطيع أن نراهم !
و أياً ما كان الأمر فإن ”يونسكو“يسخر - في موضعين من مرتجلة ألما- من واحد من بين أكثر مصطلحات "بريخت" شيوعاً: ( متعة عصر العلم ) و هو ما يمكن إختصاره في أن يظل المسرح قادراً على تحقيق المتعة على الرغم مما يحمله من رسالة: ((... كان بريخت يسعى لتقديم "مسرحيات تعليمية" و "تكون مسلية بقدر ما هى مسرح ناجح": مستشهداً برأى شيلر بأنه ليس هناك سبب يجعل الإهتمام بالأخلاق غير ممتع كلياً. كان المقصود أن يكون مسرح بريخت مسرحاً تعليمياً للعصر العلمى ... )) هكذا تصبح الدلالة واضحة تماماً عندما يعلق ”بار 2“ لافتة مكتوب فوقها (عصر بريخت) وعندما يقول ”بار 1“ : "إننا معشر أبناء العصر العلمى"
و "الجستوس Gestus"، هو مصطلح آخر ينتمى إلى أدبيات "بريخت" و هو الذي ابتكره بالإشتقاق من الكلمة الألمانية Geste التي تعادل في الإنجليزية Gesture و تعنيان الإشارة أو الإيماءة و لكن "الجستوس" كما يشرحه "بريخت" يتجاوز هذا المعنى الضيق ليتخذ بعداً إجتماعياً بحيث يمكن اعتباره لفتة اجتماعية أو إيماءة اجتماعية و هو ما يعنى أن أداء الممثل في مسرح "بريخت" يأخذ على عاتقه مهمة إظهار الموقف الإجتماعى لهذا الممثل عاكساً وجهة نظره من الحياة.
و في (مرتجلة ألما) فإن ”موليير“ الذي يلقى إعجاب ”يونسكو“ ليس سوى كاتب ردىء وفقاً لتقييم هؤلاء النقاد، والسبب في ذلك لا يعود إلا لكون مسرحياته لا تتفق مع وجهة نظرهم التي ترتكز - أساساً - على أفكار "بريخت": « بار (1): وهذا يعنى ببساطة أن "موليير" لم يعبر عن الجستوس الخاص بعصره. »
كما يسخر ”يونسكو“ على ألسنة النقاد الثلاثة من منهج ”بريخت“ على مستوى الأداء التمثيلى فيما يتعلق بفكرته عن "الإبعاد": (( لا تتقمص شخصيتك (...) باعد بينك وبين نفسك (...) لاحظ نفسك وأنت تلعب... حاول أن تكون يونسكو دون أن تكون يونسكو.))
إن فكرة الإبعاد كما يطرحها "بريخت" تشكل ركناً هاماً في نظريته عن المسرح الملحمي و هي تطالب الممثل بأن يقف على مسافة جمالية من الشخصية التي يعرضها - و لا نقول يحاكيها - عليه أن يكون كذلك الشخص الذي يروى لمستمعيه الحادثة التي رآها هو دون أن يتماهى مع تلك الشخصيات التي يعرضها، و هو ما يعني بالتالي ألاّ يحاول إحداث تأثير عاطفي في مستمعيه، عليه دوماً أن ينتبه - و ينبه مشاهديه - بحقيقته كسارد للحادثة.
و لا يفوت "يونسكو" أن يغمز "بريخت" حتى فيما يتعلق بأسماء مسرحياته فآخر ما تنطق به شخصيات مسرحية (مرتجلة ألما) تشير بوضوح إلى تلك المحاكاة التهكمية Parody من جانب ”يونسكو“ لواحدٍ من أشهر عناوين مسرحيات ”بريخت“ ( الاستثناء والقاعدة ):
« يونسكو: ... عفوا ، لن أعود إلى ذلك مرة أخرى ، فهذه المرة هى الاستثناء .
ماريا : وليس القاعدة ... »
أما الاسم الذي اختاره "يونسكو" لشخصيات النقاد الثلاثة و هو "بارتولوميوس Bartholoméus" فإنه يبدو و كأنه تشويه متعمد لكلمة Barthes التي تشكل لقب الناقد الفرنسي الشهير "رولان بارت Roland Barthes"، الذي قد يكون مبرر هجوم "يونسكو" عليه هو ميوله اليسارية الواضحة التي دفعته - أي بارت - إلى الاحتفاء ببريخت" و انتقاد "يونسكو" و هو ما يبدو و كأنه انتقام مزدوج من جانب "يونسكو".
و على الرغم من أن مسرحيات "يونسكو" المتأخرة نسبياً عكست بشكل أكبر هموم المجتمع الأوربي بصفة عامة و الفرنسي على وجه الخصوص إلا أن "بارت" لم يتوقف عن التقليل من شأن كتاب مسرح العبث و لاسيما في مقارنتهم مع "بريخت" على نحو ما تكشف لنا المقابلة التي أجرتها معه مجلة "Tel Quel" عام 1963 و أعاد "بارت" نشرها في كتابه: (مقالات نقدية) حيث يمتدح ما تحدثه تقنيات "بريخت" من "هزة" لدى المتلقي من خلال الفصل ما بين العلامات المسرحية من ناحية و تأثيرها في هذا المتلقي، أي دلالاتها، من ناحية أخرى و هي العملية التي ((... سبقت بأشواط بعيدة بجرأتها و صعوبتها و حتى بضرورتها، عملية تعليق المعنى التي مارسها المسرح الطليعي عن طريق قلب اللغة العادية و خرق قواعد المسرح التقليدى فالأسئلة المبهمة تبقى اقل قوة من التساؤلات ذات الأجوبة المعلقة لكن الممكنة...))
و لعل مثل هذه المقولات و غيرها مما يفترض أن "يونسكو" قد قرأه يكون هو الدافع إلى الهجوم على "بريخت" في مسرحية (العطش و الجوع) التي عرضت على المسرح لأول مرة في الثلاثين من ديسمبر من عام 1964 – أي في السنة التالية مباشرة لمقابلة "بارت" تلك - و هو العرض الذي شهدته ألمانيا على مسرح (Schauspielhaus, Düsseldorf) من إخراج "كارل هاينز ستروكس Karl-Heinz Stroux"، إن الكلمات التي يصف بها الراهب ”تاراباس“ المسرحية الداخلية التي يتم تقديمها في الجزء الثالث من (العطش والجوع) تحمل إشارات واضحة لمسرح "بريخت": ((... نرجوك أن تغفر عيوب إخراج هذا العرض الذي أرجو أن يكون مسليا كما قلت، والذي قد يكون تربويا (الفائدة مع المتعة) وأخيرا، فنحن نبذل قصارى جهدنا (...) والمسرحية التعليمية التي ستشاهدها الآن والتي بدأت فعلاً ، هى من إخراج الراهب التربوي ... ))
وتكتمل دلالة هذه العلامات اللفظية بالاسم الذي أطلقه ”يونسكو“ على أحد الراهبيْن اللذين يقومان بالتمثيل، وهو ”بريختول“ الذي ليس سوى تشويه متعمد لاسم ”بريخت“ مع ملاحظة أن هذا هو الاسم الذي يتم إطلاقه على الراهب أثناء تمثيله في المسرحية فقط بينما يسميه ”يونسكو“ فيما بعد اسما لا يميزه عن بقية الرهبان بقدر ما يعتبره واحدا منهم هو ”الراهب السادس".
و لكن "يونسكو" كعادته في الكتابات غير المسرحية كثيرا ما يعمد إلى محاولة خلق اللبس و الغموض حتى فيما يتعلق برأيه في المسرح التعليمي، و يتضح ذلك بجلاء من خلال ذلك التحليل الذي قدمه لمسرحية (خراتيت) في صورة حوار يدور فيما بينه و بين نفسه، يناير 1960:
"...أنا: ... إنني أقدم مسرحا تعليميا تهذيبيا !
نفسي: إنـك تدهشني بـهـذا الكلام ! ألـم تـكـن حــتـى هـذه
الأيام الأخيرة العدو اللدود لهذا اللون من المسرح؟
أنا: لا يـمـكن للإنـسان أن يـقـدم مـسرحـاً تـهذيبـيا أو تعليميا
إن كان جاهلا. لقد كنت جاهلا، على الأقل ببعض الأشياء،
حـتى مـنذ شهـور قليلة. فأخذت أجد و أعمل، و الآن أعلم
كل شيء... "
لا يكشف هذا الحوار بحسم ما إذا كانت سخرية "يونسكو" تلك هي استمرار في هجومه على المسرح التعليمي أم أنه كان يبرر على استحياء ارتفاع النغمة السياسية - لا نقول التعليمية - في (خراتيت) و هو الأمر الذي كان يتحدث عنه و كأنه جريمة لا يريد اقترافها، و أياً ما كان الأمر فإن مسرحيات "يونسكو" نفسها تثبت أنه قد ظل إلى النهاية يسخر من تلك التعليمية على نحو ما رأينا في (العطش و الجوع) و التي كتبها بعد مرور ست سنوات على هذا الحوار الذاتي.
يوجين يونسكو "ضحايا الواجب" الأعمال الكاملة ليونسكو: الجزء الأول ترجمة حمادة إبراهيم القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998 ص ص 186 – 187
چاك دى سوشيه برتولت بريشت ترجمة صيّام الجهيّم، دمشق: منشورات وزارة الثقافة 1993 ص ص 16 - 17.
عن كلود ابستادو يوچين يونسكو ترجمة فيس خضّور، دمشق: منشورات اتحاد الكتاب العرب 1999 الفصل التاسع: يونسكو والنقد
http://www.awu-dam.org/book/99/study99/213-h-k/book99-sd010.htm
انظر فردريك أوين برتولت بريخت : حياته ، فنه ، عصره ترجمة إبراهيم العريس ، بيروت: دار ابن خلدون الطبعة الثانية 1983 ص ص 345 – 351
السابق ص 416
يوجين يونسكو "مرتجلة ألما" مصدر سابق ص 312
رامان سلدن النظرية الأدبية المعاصرة ترجمة: جابر عصفور القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، الطبعة الثانية، 1985 ص ص 34 – 36
Laurence Kitchin Mid-Century Drama London: Faber & Faber 1960 p. 82
يوجين يونسكو "الكراسي" مصدر سابق ص 146
Eugène Ionesco "Les Chaises" Théâtre d’ Eugène Ionesco: Tome I Paris: Gallimard, N.R.F; 1954, p. 173
ج. ل. ستيان الدراما الحديثة بين النظرية و التطبيق ترجمة محمد جمّول ، دمشق: منشورات وزارة الثقافة 1995 ص ص 575 - 576
و يتم عرض هذا الموضوع على نطاق واسع في كتاب الفن في عصر العلم من تأليف أرسينى غوليكا و ترجمة جابر أبى جابر دمشق: منشورات وزارة الثقافة 1985
يوجين يونسكو "مرتجلة ألما" مصدر سابق ص ص 312، 313
السابق ص 300
السابق ص 316
السابق ص 322
رولان بارت مقالات نقدية في المسرح ترجمة سهى بشّور، دمشق: منشورات وزارة الثقافة، المعهد العالى للفنون المسرحية، 1987 ص 62
يوچين يونسكو "العطش والجوع" الأعمال الكاملة ليونسكو: الجزء الثاني ترجمة حمادة إبراهيم القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998 ص 128
عن لطفي فام دراسة موجزة حول المسرح الفرنسي المعاصر القاهرة: الدار القومية للطباعة و النشر 1964 ص ص 251 – 252
مشاركة منتدى
16 تموز (يوليو) 2007, 22:34, بقلم حاتم حافظ
مقال رائع يا استاذ علاء
ورغم علميته الشديدة فأنا اراه متواطئا مع يونسكو ضد بريخت
وعلى كل فإن بريخت يستأهل كل خير!!
صديقك حاتم حافظ
14 آب (أغسطس) 2007, 11:13
الصديق العزيز الكاتب و الناقد المبدع حاتم حافظ
أشكر اهتمامك و أرفض اتهامك فلم أكن منحازا للرائع يونسكو بقدر ما حاولت أن أكون موضوعيا في رصد انتقاداته ل "بريخت" الذي لن يستطيع يونسكو أو غيره التقليل من أهميته و دوره على الرغم من أنه أكثر من تعرض لسوء الفهم و الشرح الخاطىء على يد من يعلنون أنهم اصحاب التوكيل الرسمي لتسويقه في الكتابات العربية.
أيا ما كان الأمر فإن افتتاني بتقنيات بريخت الجمالية لا يمنعني من أن أعترض على بعض شطحاته الأيديولوجية لاسيما في مسرحيته الآسرة دائرة الطباشير القوقازية
محبتي و احترامي الدائمين