

بين صليل وخالد
كنت أستمع إلى صدح الموسيقار محمد عبد الوهاب بأبيات قصيدة"فلسطين"لشاعرنا علي محمود طه..حتى جاء إلى مقطع:"وَلَيْسُوا بِغَيْرِ صَلِيلِ السُّيُوفِ.. يُجِيبُونَ صَوْتًا لَنَا أَوْ صَدَا".
إذ بلغني عبر الهاتف نبأ مولودي الجديد..فسميته"صليل".
أما أنا فعَرَبِيٌّ حُرٌّ مُكَبَّلٌ بالْقُطرِيَّة.
منذ قرابة العام توقف فجأة بدراجته الصغيرة أمام التلفاز، وأخذ يصفق رافعًا زراعيه، ويتهلل وجهه وهو يقرأ"عاجل"على الشاشة، ويصيح: ها، قتلنا منهم ستمائة..
ثم ألقى دراجته فَرِحًا..
ثم ثبت عينيه على الشاشة لعاجلٍ آخر: بلغ عدد الشهداء(...) شهيدا، و(...) جرِيحًا من المدنيين..ومضى يلعب.
قال ببراءة: ما الشهداء و"المدنيين"؟
لم أشأ وأمه أن نحزنه.
لم يعلم صليل ذو العاشرة، قبل، كم قتلوا منا في الماضي، كم اغتالوا، اجتاحوا، شَرَّدُوا، وعاثوا فسادا.
لم يعلم عن أطفال مدرسة بحر البقر ومذابح صابرا وشاتيلا ودير ياسين وقتل الأسرى...
علم أن إسرائيل عدو يقتل أقرباء لنا، ويحتل أرضهم،علم مُبَكِّرًا في سن الزهور، وفينا كبارٌ شَبُّوا على نسيان الحقيقة.
علم عقب السابع من أكتوبر.
– أقرباؤنا هم؟
– نعم.
– فلماذا لا نضرب كلنا من يضربهم، ونقتل إسرائيل، هذه التي تقتلهم؟!..
قلت مقالاً يلائم سنه، وأكظم غيظي..
لماذا لا نقاتلهم كافة كما يقاتلوننا كافة؟
سؤال منذ النكبة التي تمخضت عنها قصيدة"فلسطين".
كان يتابع بشغف في البداية..
فعل ما بوسعه..لعن إسرائيل، رسم بالأزرق خطين ونجمة على ورقة بيضاء ولصقها ببلاط الشقة، وجعل يدهسها بقدميه، ويشد يدي وأمه وإخوته يَحُثُّنَا لدهسها..
في العيد أشترى بندقية ومسدس وسيف يضيء، وأعد ما استطاع من قوة الألعاب الهجومية، وجعل يصوبها تجاه الشاشة إذا تَزَيَّتَت بصورة لجنود العدو..
توانت شيئًا فشيئًا متابعته للأخبار العاجلة وشريطها الأحمر بلون الدم.
خيرًا فعلت يا صغيري لألا ترى الأشلاء وجثث الأبرياء..
أطفال مثلك يحتضنون الموت، وألعابهم ودمياتهم الصغيرة تخضبها دماؤهم النضرة..
مثل أمك ثكلى أو قتلى، شيوخ وشباب، حتى الخُدَّجٌ والمرضى في أسرتهم، المصلون في المساجد و الكنائس.
النسل والحرث..
المآوي، المشافي، المطاعم، المساقي، المدارس، المصانع.. دور العلم ودواوين العمل.. الدنيا والدين أهدافٌ للتدمير.. لم يرقبوا في عربي إلاً ولا زِمَّة، لا أعراف، لا قوانين حرب، لا حقوق إنسان، ولا ضمير..
صار حديثنا اليومي.
زوجتي آسية لا تتمالك الدمع:
– أرأيت رضيعًا، استخرجوه من تحت الأنقاض حَيًّا!
– نجا ليثأر يومًا ما.
– أتظن قادرون، وأمريكا تعلن الدعم ودول أوروبية عظمى، وتحركت أساطيلهم وحاملات الطائرات؟
بشهيق، استحضرتُ وعد الله:
– نعم قادرون...
بيان لجامعة الدول العربية.. الرئيس الفلاني يناشد..الملك الفلاني يندد..وهذا يشجب...
العدو يقتحم..الغزاويون يستغيثون يصرخون محاصرون، يُهَجَّرون قسرا..لا ملجأ لهم إلا الله..
لا مستجيب لهم في الأرض، إلا حزب في لبنان والعراق وجماعة في اليمن البعيد..
يا ألله..!
لو نظر جيرانهم بالجنب لرأوهم..
ثَمَّة جيوش جرارة، لكنها خامدة، لا تتحرك إلا لقمع شعوبها!
ما هذه الأمة المطروحة أرضًا، كخريطتها الممَدَّدَة من المحيط إلى الخليج؟!
كغثاء السيل..صدق رسول الله.
ثَمَّةَ مهرجان للترفيه.
فرقعة ألعاب نارية، يتصاعد شررها ودُخَانٌ صناعي ملوَّن، وصيحات جماهير منتشية، في سماء تحتها فريق للكرة يحتفل بكأس اللعبة.
قلبت القناة.. مهرجانٌ للموت، قنابل وطائرات قاذفات تُمَعِنُ قتلا..
لا ألعاب نارية، بل نيران تتلاعب بما حرقت، شظاها تذهب بالأشلاء، ودخان أسود برائحة الردى..
زوجتي القابعة بجواري، تخشى حتى النهوض إلى الأريكة؛ تلوذ بالأرض، تتماسك بالكاد، من هول ما يُبَثّ.. خُدَّجٌ صرعى وهم مصفوفون في حضاناتهم بمستشفى الشفاء...
لا نُرِي صليل هذه المشاهد..
نستدعيه فقط عندما يأتي بيان أبي عبيدة..
أصبح يتمثله، بحث في دولاب الملابس عن غترة تشبه غترته المميزة، لم يعثر عليها، فجاء بِشَالٍ لي أتوشحها شتاءً..
مُستَاءٌ وهو يعاين في المرآة لثمة أمه لها؛ لا هي شكل غترة أبي عبيدة ولا لونها..
استخرجت له - وسط حزنه - الغترة الأصلية..
لازلت احتفظ بها منذ أيام الجامعة.
توشحتها أول مرة في مظاهرات الطلبة إبَّان انتفاضة الحجارة الأولى.
بدأ صليل إذن يلقي أول بياناته، رَافِعًا سبابته قبالة صدره...
تثلج الصدور بيانات أبي عبيدة الأصيل.. صارت الضوء الباهر في نفق الوصول.
وتشفي الغليل..
ترفع الهامات.
تَسمُق أُنُوفًا، تشرع راية التحدي، وصوته الواثق من وراء اللثام يشيع الأمل..
نقتلهم كما يقتلون، نأتيهم من حيث لا يحتسبون، نقعد لهم كل مرصد، قنص وحصد لجنودهم الهامانيين، نريهم ما كانوا يحذرون..تدمير الميركافا المنيعة، رشقات القسام وسرايا القدس والجهاد وجبهات الدعم، مسومة من أكنانها..تصبح وتمسي ممطرة أرجاءً وعمْقًا مَطَرَ السوء، أسدودهم وتل أبيبهم.
صوته صار يشجيني ويطربني، أيما شجن وطرب!..
عرفنا صاروخ القسام ١,٢,٣عرفنا الياسين ١٠٥، رجوم، وسجيل ٥٥، عرفنا ناسفات شواط.. و صيد جنود العدو من المسافة صفر.
صار مع الألم من يصنع الأمل.
يصنعون الأمل صُنعًا، كما صنعوا صواريخهم وقاذفاتهم وبنادقهم وعبوات النسف، ويصنعونها بأيديهم تحت القصف. ويبددون اليأس.
هذا ما نُسمِع صليل ونريه.. وما الحرب إلا كَرٌ وفَرٌ، والعاقبة للقابض على شعلة النصر، لا يولي الدبر إلا متحرِّفًا لقِتَالٍ أو إلى فئة متحيِّزًا.
"القسام، سرايا القدس،الجهاد". عرف شعاراتهم المرفقة ببيانات عملياتهم، وعرف حزب الله.
جاء يسألني:
– قرأت، حزب الشيطان وحزب الله في سورة المجادلة..هل اسرائيل مع حزب الشيطان؟
حسناً أدركت وأنت صغير، ولم يبلغك جدل السفهاء والغوغاء.
مثل هذا المتباهي بلحيته ويكتفي، أو ذاك الذي يتقيأ العلمانية ويختفي، وما بينهما الراقصون على حبال الوسطية والسلمية والخانعون بطبعهم، والمطبعون..
لم تسمع شتات أقوالهم، وتجتمع في خندق الفتنة..
وأولئك القاعدين من غير أولى الضرر!.
علامات التعجب لا تكفي...
المنافقون. المرجفون.. الطابور الخامس..الخالفون..المنبطحون..المتصهينون... ماذا أسميهم؟
فأخذت بالآية الكريمة هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ...
قد شُوِّهَت أدمغة الجاهلين عبر عقود تشويها...
لا تمهلني الأحداث التوقف أمام الترهات، وقد قلى أبو عبيدة فترة.
مراسل القناة التلفزيونية، تفنى أسرته بكاملها وينجو بأعجوبة، ويواصل البث.
أقف ومعي صليل، عند هذا الصبي الذي يبحث بعينين زائغتين، ووجهٍ مُقَنَّعٍ بخليط الدم والتراب، مكفَهِرَّ الملامح.. يبحث وسط الركام، وأبنية كأشباح رمادية ذات نتوءات أسمنتية وذات حفر عميقة..
عن أمه..جاءت قبل قليل فَرِحَةً، بإِنَاءٍ بهِ شَيءٌ من الطعام، وأرغفة خبز معدودة، بعد مكابدة في طابور المساعدات..
عن أبيه..كان مُقعَدًا بركنه مبتور الساق من مقذوفٍ أصابه قبل يومين..
عن إخوته الصغار.. كانوا يلهون معه، سبقوه إلى المطبخ صحبة أمهم يشهدون مباركة الإناء بخليط الماء، وتسخينه..
عن أخويه الكبيرين.. كانا بشرفة البيت بسلاحيهما يترقبان صيدًا من جنود العدو.
عن دراجته..
أبحث معه، وأعلم أن ما يبحث عنهم عند ربهم يرزقون طعامًا ألَذَّ وأشبع.. أما الدراجة، فقد سَلَّمَهُ صليل دراجته، سَلَّمَهُ ما يملك.
أربّتُ على كتفيه، وأمسح برأسه.
يلتفت إليّ، بين الرجاء والخوف،
يتأرجح بين أن يبسُط وجهه فيبادلني ابتسامة،
وأن يقبضه حزنًا.
فجأة، قبض وجهه،
وتبهت ابتسامة كانت قد أشرقت للحظات، بين خليطٍ الدم والتراب الكاسي ملامحه الصغيرة.
تعارفنا:
– أنا عمَّك، أبو صليل، وهذا صليل.
–وأنا خالد.
أهمُّ بحمله، فيسبقني ويصلب عوده.
عيناه تلمحان صغارًا مثله، وعلى هيئته، يعتلون ركامًا صار تَبَّة،
يلفتني هو وصليل إليهم،
يشير بيده، وتشرق ابتسامته من جديد.
نراهم، محتشدين فوق التَبَّة،
صفوفًا متدرجة، تتسع في المقدّمة، ثم تضيق نحو الخلف، يرسمون، مع التبة، مجسمًا شامخًا، كأنه نصبٌ هرمي للكرامة.
الصمتُ يلفّهم، إلا من صرخةٍ تشقّ الركام، أو آهةٍ تصدر من تحت الأنقاض.
والقَحل يمتد بامتداد الهشيم،
ممرات رمادية، ترابٌ يعلو، ودخانٌ يتسلّل بين الخرائب.
أبنيةٌ تعانق الأرض، شمسٌ تطوي صفحة اليوم، وأشجارٌ على جانبي الطريق تساقطت أوراقها، وهي في ريعان الربيع.
لكني عندما أشرت إليهم،أراهم باسمين رافعين أياديهم الصغيرة بعلامة النصر، ويصيحون كنفير البعث موقظا.
فهل يُهزَم هؤلاء ؟!
يشدّ بيدي:
– خذوني إليهم..
صليل:
– وأنا يا أبي
– هيا إلى هناك..
يتقدمان ممسكان بمقبضي الدراجة.، وأسير خلفهما...
أتوسط الحشد،أهديهم غترتي وعلم فلسطين التقطته من بين الركام..
يأتي المصورون..
صليل: لعل أمي تراني على الشاشة..
أعود إلى يقظتي..
يستغرقني القوم ؛ في سفههم يعمهون، وهم قاعدون...
يقولون:
– لقد استدرجت إيران قائد"حماس"ليقتل على أرضها!
وفرحوا باغتيال قائد المقاومة اللبنانية !.
أتَذَكَّر الذي سجد شكرًا عقب نكسة بلده ؛ لأنه يكره جمال عبد الناصر، والذين باركوا العدوان الثلاثي من قبل ؛ ليعيدهم إلى ملكيتهم وإقطاعهم!.
أتابع موائدكم العامرة.. تسرفون حتى في الحج والعمرة، وتتواصون بتعدد الأزواج، واللحية والجلباب القصير.
و أخرى تشتهونها: النساء والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب و الفضة..
العروش والبطون والفروج همومكم..!
وتنسون أوامر الله.. وَجَاهِدُوا... وَقَاتِلُوا... وَاقْتُلُوهُمْ..انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا.. وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ...
منكم من يهادن العدو، ومن يتخذه وَلِيًّا، ومنكم المثَبِّطون والشامتون.. بل منكم الخائنون..
الآن تبكون السنوار!.. ألا تملكون إلا البكاء؟!
أتذكَّر قول غسان كنفاني:"في الوقت الذي كان يناضل فيه بعض الناس ويتفرج بعض آخر، كان هناك بعض آخر يقوم بدور الخائن."
تطربهم الشعارات المذهبية،
وتجارة يخشون كسادها.
ألا يبيعونا سكوتهم؛ والسكوت من ذهب؟..
لم ينتشلني إلا هذا الفرح، فرحٌ بإشعال سماوات العدو والأرض المحتلة، بوابل من الصواريخ والْمَسَيَّرات المدمرة، اجتاحتهم، أسكنتهم الجحور.. انطلقت متزامنة من غزة ولبنان وإيران..
فرحٌ لم استدع للاحتفال به إلا صليل..فعادت بهجته بعاجل الأخبار.
ويَتهَلَّل وجهه: هل هزمناهم؟
قلت مُوَلِّيًا عنه: لم نهزمهم بعد حتى نقاتلهم جمِيعًا، ولن يهزمونا ما دام في الأمة بقية وعي وعزيمة وتمسّكٌ بالحق والنضال..وأخذت أُرَدِّدُ قول الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري:
"حُمَاةُ الدَّارِ مَسَّ الدَّارَ ضُرٌ..وَنَادَى بِافْتِقَادِكم الْمُنَادِي".
ثم توَجَّهتُ إليه: الحرب لم تنتَهِ بعد يا صليل...