

تحت القصف
كنتُ أضع القلم على الورق لأدوّن ما رأيته في غزة. كصحفي، اعتدت على هذه اللحظات، ولكن لا شيء يمكن أن يُحضّرني لما رأيته في الأيام الماضية. شيرين أبو عاقلة، زميلتي، كانت هنا، تشاركنا نفس الحلم: أن نروي الحقيقة.
عند الفجر، انطلقتُ إلى حي الشجاعية، حيث سمعنا أن القصف بدأ يشتد. كنت أستمع إلى صرخات الأطفال وعبارات الأمهات اللاتي فقدن كل شيء. كلما اقتربت، زادت حدة الصوت، لكنني كنت مُصمماً على البقاء. نحن هنا لنشهد على ما يحدث، لنروي قصص هؤلاء الذين لا تُسمع أصواتهم.
في أحد الزوايا، رأيتُ شيرين. كانت تحمل الكاميرا، تنقل الصورة إلى العالم. كانت تبتسم، حتى وسط الدمار. ولكن ابتسامتها لم تدم طويلاً. فجأة، دوّى صوت رصاصة قنّاص قريب! هرع الجميع، وأنا معهم. لكن، في خضم الفوضى، شعرتُ بشيء غريب. كان ذلك إحساساً بالفقد، وكأنني فقدت جزءاً مني.
وبينما كنت ألتقط الصور، رأيتُ عائلات تُفقد ذويها، أطفال يُحملون بلا حراك. لكن ما زلتُ أسمع صدى صوت شيرين، تحثّني على الاستمرار، على نقل الحقيقة، مهما كانت مؤلمة. "علينا أن نتحدث بصوت عالٍ"، كانت تقول دائماً.
بعد ساعات من القصف، جاء خبر اغتيال شيرين. الصدمة كانت قاتلة. لم أستطع أن أصدق ما يحدث، وكأن قلب المدينة قد انكسر. رحتُ أسترجع كل لحظة قضيناها معاً، وكل ضحكة، وكل حلم. كنا نأمل في عالم أفضل، عالم يراعي كرامتنا.
وقفتُ في مكانها، عازماً على إكمال رسالتها. أعددتُ مقالة عن تلك اللحظات، عن الجرائم التي شهدتها عيني، عن الألم الذي لا يُحتمل. فكل صورة كنت ألتقطها كانت بمثابة وعد: سنستمر في الكفاح، وسنكون صوت من فقدوا أصواتهم.
وبعد أن وضعت القلم، نظرتُ إلى السماء. كانت غائمة، لكنني كنت أشعر بشعاع من الأمل. لأن شيرين، وبالرغم من رحيلها، ستبقى حية في قلوبنا، وفي كل كلمة نكتبها، وفي كل حقيقة نرويها للعالم.
في الأيام التالية، كان للشروق طعم آخر، رأيتُ شيئًا غريبًا يعبر الأفق. لم تكن طيورًا كما اعتقدت للوهلة الأولى، بل كانت طائرات شراعية ترفرف برشاقة، وتنتشر، متحدّيةً رياح الموت. المقاتلون كانوا يحلقون في سماء غزة، يُعلنون عن بدء "طوفان الأقصى".
مشهدهم كان مهيبًا، وكأنهم استلهموا من آية قرآنية، "ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا". تجسيد حرفي لتلك الكلمات، إذ كانت السماء تتفتح، وينهمر منها المقاتلون كالمطر، يروون أرضهم الحبيبة. بدت لي تلك الطائرات وكأنها رسل يحملون رسالة الخلاص.
تلا ذلك قصفٌ عنيف، ضجّ بالآلام، ومع كل انفجار، كنتُ أرى أشباحًا تتراقص في سماء الدمار، كأنها روح شيرين تراقب من بعيد، تُشجعني على توثيق كل لحظة، كل صرخة، كل دمعة. أصبحتُ أرى العالم من خلال عدسة مختلفة، أبحث عن الجمال حتى في الحطام، أرى الأطفال الذين ما يزالون يضحكون، رغم كل شيء.
كلما مرت الأيام، كلما كانت غزة تُظهر قوة لم يُعرف لها مثيل. كنت أرى الناس يتجمعون في الساحات، يُعبرون عن وحدتهم، عن تضامنهم، وعن رفضهم لكل محاولات الإخضاع. كانوا يرددون أناشيد المقاومة، ويحاربون الاحتلال بكل ما يُتاح لهم، كأن أصواتهم تتسابق نحو السماء، لتتلاقى مع تلك الطائرات التي كانت تُحلق فوقهم، تُشعل فيهم شعلة الأمل.
في خضم الأجواء المليئة بالقلِ والفَخر، بدأت النّاس خارج غزّة تتعلم لغة جديدة من نبض الشارع المُقاوم، مثل "المسافة صفر"، التي تعبر عن الشجاعة المطلقة التي يُظهرها المقاتل الفلسطيني أمام عدو يمتلك كل أسلحة العالم، لكنه جبان في جوهره لأنه مغتصب للأرض.
وفي كل لحظة من تلك اللحظات، كنت أعيش الصراع .. أكتب .. وأشعر بأنني لست وحيدًا. كانت كل الأرواح المظلومة تُرافقني، تُشجعني على الاستمرار، على جعل الحقيقة تتردد في الآذان، حتى تُصبح صدى يتردد في كل ركن من أركان العالم.
تزايد القصف، ورأيت صورًا جديدة تتجلى أمامي. عائلات تتجمع تحت نيران المدفعية، يلتفون حول بعضهم كأنهم يشكلون جدارًا من الحب والأمل. كانت تلك اللحظات تُعيد لي الأمل، وتذكرني بأن الألم لا يمكن أن يُطفئ شعلة الإرادة.
كتبت عن شجاعة المقاتلين، والنساء اللاتي يجمعن الحطب والطعام لأطفالهن، والأطفال الذين يرسمون على الجدران بألوان الطفولة، كأنهم يرسمون أحلامهم على أنقاض الحرب.
وها أنا اليوم، أكتب هذه الكلمات "تحت القصف" اليومي الذي استمر عامًا منذ السابع من أكتوبر، آملًا أن تجد صداها لدى الإنسانية. لقد أصبحت هذه الكلمات ملاذًا لي، وسيلة لأعبر عن الألم والمرارة، لكن أيضًا عن الأمل والشجاعة التي تُعبر عنها أرواح من يعيشون هنا.
عبر عدسة كاميرتي، وثقتُ الأوجاع والابتسامات، الدموع والضحكات، لتكون شاهدة على حياة متواصلة رغم الدمار. كنت أرى الناس يسيرون وسط الأنقاض، ويعيدون بناء حياتهم من جديد، كأن الأمل لا يُقهر.