الجمعة ٢٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥
بقلم فراس حج محمد

تداعيات في محراب القراءة: «إبادة الكتب» نموذجاً

كتاب "إبادة الكتب"؛ اقتنيته عام 2018، وقد صدر في حينه مترجماً عن سلسلة عالم المعرفة الكويتيّة، ومكث في رفّ مكتبتـي، غارقاً في عتمة الممرّ الحاضن للمكتبة سبع سنين بل أكثر، كلّما بحثت عن كتابٍ احتجت إليه رأيته أمامي، بل إنّه يصادفني في المكتبة التـي أزورها بين الفينة والأخرى لشراء الدوريّات والكتب الجديدة مرّات عديدة، أعود إلى البيت، وأودع الكتب الجديدة على الرفّ، كيفما اتّفق حسب ما هو متاح من فراغ بين الكتب أو أعلى الرفوف المكتظّة، وأراه أمامي كذلك. لن أبالغ لو قلت إنّني أراه يوميّاً منذ اقتنيته، ولم أفكّر يوماً بقراءته، إذاً، هو الكتاب الذي لن أتوه عنه، ولم أتعب في العثور عليه.

في شهر ديسمبر وأنا أودّع عام 2025 رأيته، وقفت أمامه، وقرّرت قراءته، رأيته كتاباً مختلفاً ومهمّاً جدّاً، أثار فيّ أسئلة شتّى، حول المفهوم وعلاقته بالمفاهيم الأخرى التـي ترتبط به (الإبادة الجماعيّة، الإبادة الإثنيّة الثقافيّة، العنصريّة)، لماذا لم أنتبه من قبلُ لموضوعه وعنوانه؟ إنّه يتحدّث عن أفعال أراها يوميّاً، ورأيتها فيما سبق، وتابعتها إعلاميّاً، فحالتان من الحالات التـي تحدّثت عنها المؤلّفة ربيكا نوث (Rebecca Knuth) كنت واعياً لها، احتلال صدّام حسين للكويت، وحدوث مذبحة سبيرنتشا، وأمّا الحالات الأخرى فليست بعيدة عن اهتمامي، وكنت قرأت عنها، إلّا أنّ الكتاب أدخلني في تفاصيل لم أكن صادفتها وقرأت عنها، فحتّى المفهوم "إبادة الكتب" لم يكن من ضمن المفاهيم التـي صادفتني أو قرأت عنها قبل هذا الكتاب، وتقرّ المؤلّفة أنّه مفهوم حديث غير مستقرّ، وظلّ تعريفه مع غيره من المفاهيم المرتبطة به "في حالة سيولة".

لم يفدني الكتاب فقط في موضوع إبادة الكتب، وإظهار الحقد البشري على الكتب بوصفها كائنات حيّة لها روح، وإنّما جعلني أفكّر في مسائل رمزيّة، تتعلّق بالكتاب والتخلّص منه، حادثة أبي حيّان التوحيدي وما شاع من أنّه أحرق كتبه، لقد اكتشفتُ في أحد المصادر التـي قرأتها ونسيتها أنّ الكاتب يقول إنّ التوحيدي لم يحرق كتبه التـي ألّفها، وإنّما أحرق كتبه التـي يملكها، وفي المسألة نظر، وهذه الحالة إن كانت فعلاً هكذا فإنّ أبا حيّان التوحيدي قد أباد مكتبته، وتخلّص منها، ولكنْ إذا تخلّص من كتبه التـي ألّفها فالمسألة مختلفة، تندرج في باب التراجع عمّا كتب، والتأسُّف عليها، لأنّه رأها لا معنـى لها، وهذه الحالة ليست "إبادة كتب"، فثمّة مؤلّفون تخلّصوا من كتب ألّفوها لعلمهم أنّها لم تَعُدْ مهمّة أو أنّها كتب تافهة، كما حدث مع محمود درويش في تخلّصه من ديوانه الأوّل "عصافير بلا أجنحة" (1960). إنّه كتاب مراهق بالفعل، وقد قرأته مؤخّراً، لكنّه يحمل بذور إبداع درويش الشعري، حادثة أبي حيّان التوحيدي أرجعتني كذلك لشخصيّة "مرزوق أبو الحسن" في مسلسل "سامحوني ماكنش قصدي" حيث أحرق كتابه.

يتّصل بهذه المسألة كذلك من يتخلّص من مكتبته ليتبـرع بها، إنّها مسألة في غاية الأهمّيّة، إنّ كثيرين من العلماء والأساتذة يصلون إلى مرحلة لم يعودوا قادرين على القراءة أو الاستفادة من الكتب، فيتبرّعون بها إلى مكتبات الجامعات أو المكتبات العامّة، وربّما دفعهم لذلك أنْ لا يوجد لديهم ابن أو ابنة أو أخ له اهتمام بالكتب، فلمن يتـركون هذه الثروة العظيمة؟ فالحلّ الأنسب التبـرّع بها، إنّهم بهذه الطريقة يحافظون عليها، ويوفّرون لها عمراً افتراضيّاً طويلاً قد يمتدّ إلى مئات السنوات، وقد شهدتُ شيئاً من ذلك في مكتبة بلديّة نابلس العامّة، حيث مكتبات كلّ من الأستاذ حافظ طوقان، والأديب عادل زعيتر، والشيخ عادل صلاح، والأستاذ راسم يونس، والدكتور والباحث محمود عطا الله، إنّها موجودة بكلّ أشيائها ومراجعها ورفوفها، إنّ هذا الفعل نوع من الخلود لأصحابها ولكتبهم وتكشف عن اهتماماتهم، ودراساتهم، وبحدّ ذاتها تصلح لتكون موضوع دراسة في علم الاجتماع الثقافي.

ثمّة آخرون يتخلّصون من مكتباتهم لأنّهم لا يريدون أن يقرؤوا، لقد وصلوا إلى حافّة لا يرون منفعة في الكتب، ولا في قراءتها، وتتحوّل إلى عبء إضافيّ في البيت، وتشوّه (الديكورات) العصريّة، سيحتفظ هؤلاء فقط بكميّة مختارة من الكتب لإكمال (الديكور)، ولإعطاء وَهْمٍ للزوّار أنّه مثقّف، ذو ثقافة نخبويّة كلاسيكيّة وأجنبيّة، لا سيّما إنْ ترك في مكتبته كتباً مكتوبة بلغات أجنبيّة، على الرغم من أنّه قد لا يحسن القراءة بتلك اللغات، وأيضاً عايشت مثل هذه الحالات، إنّهم يتخلّصون من الكتب، لا يتبرّعون بها، ولا يعنيهم مصيرها، ويا للمفارقة، لقد وصلني بفعل هذه الجناية كمّ هائل من الكتب المهمّة والمجلّات الأدبيّة التـي يندر وجودها في فلسطين.

وإضافة لهذه الجوانب من التعامل مع المكتبات الشخصيّة، ثمّة من يبيع كتبه أو يفكّر ببيعها، كما حدث مع الكاتبة المصريّة صفيناز كاظم التـي أعلنت على صفحتها في الفيسبوك أنّها تنوي بيع مكتبتها بمليون جنيه، ربّما جاء الإعلان من أجل الحصول على المال، وربّما أرادت التخلّص منها، لكنْ ليس دون ثمن، على أيّة حال، كثيرون من يفكّرون ببيع مكتباتهم، ومررْتُ بما يشبه ذلك، وكنتُ أنوي بيع مكتبتي لظرف قاسٍ مررْت به، لكنّها نجت، وإن لم أنجُ أنا نهائيّاً من هذه المحنة.
مسألة أخرى، تفتّحت مناقشتها معي وأنا أقرأ كتاب "إبادة الكتب"، وهي نزعة الانتقام بالكتب ومن الكتب، فما يسيّر هؤلاء الطغاة هو نزعة الانتقام من شعب، لأنّه شعب ذو تراث، وذو حضارة وتاريخ عريق، لكنّني أخذت الانتقام إلى فلك الانتقام الشخصيّ، فكيف تكيد إنساناً يحبّ كتبه إلّا بالانتقام منه بإبادتها؟

قرأت في كتاب مصطفى السباعي "من روائع حضارتنا" في آخر فصل خصّصه للحديث عن الكتب: "كان للأمير ابن فاتك- من أمراء مصر في القرن الخامس الهجري- مكتبة ضخمة، يجلس فيها أكثـر أوقاته ولا يفارقها، وله زوجة كبيـرة القدْر من أرباب الدولة، ولكنْ داخلتها الغيـرة من الكتب، فلما توفّي نهضت هي وجواريها إلى خزائن كتبه وفي قلبها لوعة من الكتب؛ لأنّه كان يشتغل بها عنها، فجعلت تبكيه وتندبه، وفي أثناء ذلك ترمي الكتب في بركة ماء كبيـرة في وسط الدار هي وجواريها، هكذا فعلت زوجة أحنقها ولع زوجها بالكتب، فانتقمت من الكتب بعد وفاته". "وقديماً كانت زوجة الإمام الزهري تقول له حين تراه غارقاً في الكتب: "والله لهذه الكتب أشدّ عليّ من ثلاث ضرائر!"، ويتّصل بهذا الانتقام تهديد الزوجة لزوجها إن تزوّج عليها أن تطعم كتبه النار، وتحرق قلبه عليها.

أمّا المسألة الثالثة التـي تأخذ بعداً رمزيّاً في مسألة "إبادة الكتب"، ما شاع في الغرب من مشهديّات الانتقام من المسلمين والإسلام بحرق نسخ من المصحف الشريف. تتكرّر هذه الحوادث بين فينة وأخرى في كثيـر من البلدان الغربيّة، يقوم بها أشخاص جهلة وحاقدون على الإسلام والمسلمين، معتبـرين أنّ أساس الشرّ والإرهاب هو هذا القرآن الكريم، فيقومون بحرق نسخ منه، إنّهم بالتأكيد لا يستطيعون "إبادة القرآن الكريم" لكنّها مشهديّة تحمل معنـى رمزيّاً تحريضيّاً على المسلمين، وتزجّهم في خانة الإرهاب والإرهابيّين، ومهما فعلوا أو قدّموا للمجتمعات الغربيّة من خدمات جليلة واستثنائيّة، فإنّهم سيظلّون يحملون صفة "الإرهابي المحتمل" في أيّة لحظة.

إنّ حوادث حرق المصحف الشريف في الغرب مقبولة في الذهنيّة الغربيّة الاستعماريّة، فلا تفسّر لديهم في القانون إلّا أنّها "حرّيّة تعبيـر"، بينما وطء علَم من أعلام الدول الاستعماريّة أو حرقه في مظاهرة غاضبة فإنّه عمل مُجَرّم وعنصري ويستحقّ فاعله المحاكمة.

يتّصل بإبادة الكتب محاربة الكتاب وقتلهم أو نفيهم، أو اضطهادهم في بلدانهم وسجنهم، وحرمانهم من الوظيفة، ومحاصرتهم. لقد ناقش الكتاب تلك الجرائم الذي فعلها النظام السياسي الصيني في عقد من الزمن (1966- 1976) في ما عرف بالثورة الثقافيّة، كيف عاقب كثيراً من المعلّمين والكتّاب والمثقّفين، وصادر كتبهم، وأجاد أيّما إجادة في ترويعهم بدءاً من الاعتقال والتعذيب حتّى القتل، ليضطرّ بعضهم أن يتخلّص بنفسه من كتبه.

يرتدّ بي الزمن أيّام الانتفاضة الأولى (1987- 1993)، وكنت يافعاً عاشقاً للكتب، ثمّ طالباً في الجامعة، وشغوفاً بجمع الكتب ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، رأيتُ خوف العائلة من احتفاظي ببعض الكتب السياسيّة والمجلّات الحزبيّة، وكانوا يطالبونني دوماً بالتخلّص منها، كنت أسمع عن مداهمات دوريّات الاحتلال الليليّة لبعض البيوت في القريّة أو القرى المجاورة، ومعاقبة من يُضبط عنده كتب ممنوعة، فكانت العائلة تزداد خوفاً عليّ، فليس لي طاقة "على البهدلة والسجن"، لقد تخلّصت من تلك المواد التحريضيّة بطريقة مغايرة، ومخاتلة، فاستبدلت بها كتباً أدبيّة من صديق لي، اكتشفت بعد سنوات عديدة أنّه اضطر للتخلّص منها بالحرق، نظراً لمعارضة والده لوجودها، فعندما سُجن قامت عائلته بحرقها، كأنّها موادّ وأدلّة على جُرْم كبير.

أستذكر في هذا السياق رواية الكاتبة الفلسطينيّة كوثر الزين "ذاكرة في الحِجْر" حيث تحتلّ المكتبة والكتب والقراءة وما فيها ودلالتها مساحة مهمّة من السرد، فتتعرّض للتفتيش من قبل قوّات الأمن، وتفكّر الأمّ ببيعها لسداد فواتير الكهرباء؛ كي لا يظلّوا على ضوء الشمعة، وتظهر المكتبة ضمن الأجواء الرومانسيّة، وجسراً للعاطفة، عندما عدْتُ للرواية، وراجعت دَوْر المكتبة في الحدث الروائي وجدتها تشكل عصباً رئيسيّاً من أعصاب السرد.

إنّ الكتب الممنوعة مسألة شائعة في حياتنا- نحن الفلسطينييّـن- فمن عنده كتب كمن عنده "مخدّرات" أو "أسلحة"، وخاصّة تلك الكتب المحظورة، هذه المسألة لا تتّصل بالعلاقة مع الاحتلال فقط، بل أيضاً يعاني منها الفلسطيني تحت حكم "سلطة أوسلو" التـي منعت منذ سنواتها الأولى تداول كتب إدوارد سعيد بناء على موقفه السياسي من اتّفاقيّة أوسلو، ومنعوا تداول كتاب "فيصل درّاج" "بؤس الثقافة في المؤسّسة الفلسطينيّة" وكتب أخرى كثيرة بعد ذلك، وسحبوا من المدارس كتاب "فلسطين التاريخ المصوّر" للمفكّر الكويتي طارق سويدان، وذلك "بحجّة أنّ الكتاب يحتوي على مضامين جهاديّة يعتبرها الاحتلال تحريضيّة، بالإضافة إلى انتقاد الكاتب لعمليّة التسوية بين السلطة الفلسطينيّة والاحتلال"، وهذه المسألة تتشعّب وتطول، ليختلف المنع تبعاً للوزير المسؤول ومن حوله ممّن يلقّنه التعليمات، فقد سُحب أيضاً كتاب "قول يا طير" بحجّة اشتماله على ألفاظ خادشة للحياء العامّ، كما رفضت وزارة التربية والتعليم إدخال كتاب أحلام بشارات "اسمي الحركي فراشة" بحجّة مخالفته للقيم والتقاليد الاجتماعيّة، والأسباب كثيرة ومتنوّعة مع كلّ كتاب يقرّر الرقيب الغبيّ منعه.
في كتاب "إبادة الكتب" ثمّة حديث مطوّل حول "الثورة الثقافيّة" في الصين وما رافقها من تحديد من هو الصالح من الطالح بناء على ولائه الحزبي، والشيء نفسه تقوم به "سلطة أوسلو" عندما تقرّر من هو صالح للتعليم أو التعيين في الوظائف الحكوميّة، عليك أن تجتاز الفحص المخابراتي والأمن الوقائي لتكون محظيّاً بالوظيفة، وإلّا لن يكون لك دور في ذلك، إنّها مكارثيّة بشكل أو بآخر، لقد كان لهذه السياسة المتهوّرة عوائد سقيمة على كلّ المناحي، فتسلّم الوظائفَ اللصوص والمنافقون وغيـر الأكْفاء والمحميّون بأحد المتنفّذين، وصارت جودة كلّ إنتاج تتراجع بشكل مذهل، وها أنا أعيش ذلك وأشاهده في المحيط الذي أعمل فيه، فلا شيء يوقف التراجع والتردّي والرداءة ما دام هذا النهج الفاسد جدّاً هو العامل الحاسم فيمن يقود البلد ومن يعمل في مفاصلها الحيويّة، إنّ تلك العقليّة لا يمكن لها أن تبني مجتمعاً متماسكاً وقويّاً يعدّه القادة المفترضون أنّهم وطنيّون لمجابهة الاحتلال ومقاومته، إنّ هذه السياسة لن تزيد المجتمع ومؤسّساته إلّا بؤساً وتخلّفاً، فمتى يجنـي المرء عنباً وقد زرع الشوك؟ ولكنْ هيهات لكلّ هؤلاء الغارقين في أوهامهم أن يدركوا عظم الكارثة، ما داموا مستفيدين وتحقّق مصالحهم الآنيّة، داسّين رؤوسهم في الرمل كالنعامات لا يريدون أن يروا الحقيقة.

لقد تراجعت الصين عن ثورتها الثقافية تلك بعد عقد من انتهاجها وأدركت خطأها، ولكنّني لا أظنّ أنّ "سلطة أسلو" ستتخلّى- كونها صورة ممسوخة عن أسوأ نظام عربي- عن نهجها هذا؛ لأنّها "سلطة" ليس لديها مفكّرون، أو عقول راجحة قادرة على أن تراجع السياسات وخطرها ومآلاتها الواقعيّة، لذلك ستظلّ "سلطة أوسلو" برموزها المتسلّطين يعملون على خراب المجتمع لينهار بهم، فيكونوا أوّل ضحاياه، لأنّ لكلّ فاسد نهاية، هكذا يعلّمنا التاريخ، ولا يعلّمهم إلّا بعد فوات الأوان، على الرغم من أنّ كتاب روبيكا نوث "إبادة الكتب" لا يقول هذا صراحة أو ضمناً، لكنّ شواهد التاريخ خارج دفّتيْ هذا الكتاب تقول أكثر ممّا يظنّ أيّ قارئ سطحي عَجول لكتاب على هذا النحو من الأهمّيّة والفائدة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى