السبت ١٥ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم محمد الحوراني

جوائزُ زمنِ التفاهة

إذا كانت الثقافةُ العالمية عامّةً، والعربية خاصّة، تُعاني من ثغرات ومشكلات كبيرة أسهمت في ضعفها وجعلها غيرَ قادرةٍ على القيام بالدور المطلوب منها، فإن هذا يُحتّم علينا القيام بمراجعة نقديّة ذاتيّة تُسهمُ في تنقية ثقافتنا وإبطال التزوير الذي تغلغلَ في كثير من مفاصلها، بغيةَ العودة بها إلى نقائها وجعلها قادرةً على الفعل المُؤثّر، وهو ما لا يتحقّقُ إلّا بجهود كبيرة من أولي العزم من المثقفين الصادقين.

صحيحٌ أنّ الكاتبَ العربيّ عامّةً يعيشُ وضعاً مادياً بالغَ البؤس، ذلك أنّ الغالبية العُظمى من الأنظمة العربية وأنظمة العالم الثالث تنظرُ إلى الثقافة نظرةً أقلَّ بكثير ممّا ينبغي، كما أنها تتعاملُ مع الثقافة بوصفها واحدةً من كماليّاتِ شعوبها، ولا تتعاملُ معها على أنها حاجةٌ عُليا ومن أهمِّ عوامل النهوض المجتمعيّ ومُرتكزاتِه، وبناءً على ذلكَ، فإنّ عدداً من الكُتّاب والمُثقّفين غدا همُّه الوحيد من كتاباته البحث عن المردود الماديّ من الجوائز المُنتشِرَة هُنا وهناك، بل إنّ قسماً من هؤلاء أصبحَ من مرتزقة الجوائز والأدب الذين وجدُوا ضالّتَهم في حفنة من (الدولارات) التي تهافَتُوا عليها لسدِّ حاجاتهم أو لنيلِ شُهرةٍ ظنّوا أنّها ستجعلُ منهم كُتّاباً كباراً أو مبدعين يُشارُ إليهم بالبنان، مُتناسينَ أنّ الأهميةَ للنصّ قبلَ المال أو العلاقات العامّة والتنازلات الرخيصة، وهذا ما أدّى إلى خلقِ بيئةٍ ثقافيّة فاسدة نخرَتْ بنيةَ غالبيّةِ المؤسّسات الثقافية، فسَبَّبتْ تكريسَ الشّلليّة والمافيات الثقافية.

إنّ مَنْحَ الجوائز بهذه الطرائق من شأنه أن يُبعدَ الكاتب عن روح النصّ، ويجعله أسيراً للمبلغ الذي سيُقدّمُ إليه أو للشهادة التي سيُكرَّم بها، وسيغدو هذا الكاتبُ مع نصِّه مَحْضَ فقاعةٍ سُرعانَ ما تنتهي بعد انتهاء مراسم توزيع الجوائز، ولهذا فإنّ أيَّ كاتب عاقل لا يسمحُ لنفسه أن يُفكّرَ ويكتب لأجلِ الجائزة، لأنّ الجائزةَ فعلُ اعترافٍ يدلُّ على أنّ للمجهودِ المبذولِ صدىً ليس على مستوى القارئ العاديّ فحسب، وإنّما على مستوى القارئ المُختصّ أيضاً، ومن هنا تتجلّى قيمةُ الجائزة التي ينبغي أن تلعبَ دوراً تدعيميّاً، وأن تتحوّلَ إلى رمزٍ صادقٍ بحسبِ رؤيةِ الروائيّ الجزائريّ "واسيني الأعرج".

الكاتبُ الحقيقيّ لا يكتبُ أبداً لأجلِ أيّ جائزة تُمنَحُ له، وربّما تستلزمُ منه بعضَ التنازلات، نتيجةَ إحساسٍ وهميّ لدى بعض الكُتّاب بأنّهم حقيقيّون وأدباء مُبدعون قبضُوا على خُلاصة السرّ الأعظم في نتاجاتهم الثقافية والأدبية بسبب شُعورهم الزائف بأنّهم قادَةُ رأيٍ وصُنّاع معرفة وأدب، ولهذا فقد غدَونا أمامَ كمٍّ كبير من حَمَلةِ الجوائز الوهمية الذين لا علاقةَ لهم بالإبداع والمعرفة، كما أنّنا أصبحنا نفتقرُ بشدّة إلى المبدعين الحقيقيّين في مختلف الأجناس الأدبية، وهو ما يتقاطعُ إلى حدٍّ كبير مع حَمَلة شهادات الدكتوراه الفخريّة أو الممنوحة من جهاتٍ لا علاقةَ لها بالعلم والمعرفة، وهذا ما جَعَلَنا نعيشُ عصرَ التفاهة في العلم والإبداع والمعرفة عبرَ تكريسِ التسطيح والابتذال لتجهيل المجتمع وجعلِهِ يعيشُ حالةً من الارتكاس في العلم والأدب، وهو ما عبَّرَ عنه الروائيّ الإسبانيّ المشهور "كارلوس زافون" في كتابه "ظلّ الريح" إذ يقول: "لن يفنى العالمُ بسبب قنبلة نوويّة، بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة التي ستُحوِّلُ العالم إلى نكتة سخيفة"، وهو ما يتقاطعُ مع رؤية الفيلسوف الكنديّ "آلان دونو" في كتابه "نظام التفاهة" الذي حذّر فيه من ترذيل الأكاديمية وتعويم الثقافة، واستبدال رجُل العلم بالخبير وتهميش العقل والفكر.

إنّهُ باختصار عصرُ تحويل الإبداع والثقافة والقيم الإنسانية النبيلة إلى مشروع تجاريّ رابح لا يخضعُ لمنظومات أخلاقية ولا لقيم عُليا أو أُسسٍ فنية من شأنها أن ترتقيَ بالعمل الإبداعيّ، وهذا كله نتيجة تَسيُّدِ النظام الليبراليّ الجديد للمشهد.

لقد آنَ الأوانُ لإعادة النظر في كثير من الجوائز المنتشرة هنا وهناك لجعلها جوائزَ تنهضُ بالثقافة والأدب والمعرفة عربياً وعالمياً، عبرَ أُسسٍ موضوعية في التحكيم وآليّاتٍ دقيقة تمتازُ بالشفافية والموضوعية، لتكونَ هذه الجوائزُ قادرةً على الارتقاء بالمُنجَز الإبداعيّ العربيّ وتعزيز حضوره العالميّ عبرَ نصوصٍ إبداعيةٍ حقيقيةٍ قادرةٍ على تحقيق إضافةٍ نوعيةٍ وغنىً حقيقيّ للثقافة العربية، وعلى تخليص الإبداع ممّا عَلِقَ به من سلبيات وثغرات أدّت إلى ما أدّت إليه من خللٍ وعجزٍ وضعفٍ في المشهد الثقافي والإبداعي.

أخيراً، لا بُدّ من تأكيدِ أنّ ما سبقَ لا يعني عدم وجود جوائز حقيقية قائمة على أسس علمية وموضوعية، ولكنّها قليلة جداً مُقارنةً بغيرها من الجوائز المغشوشة والرخيصة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى