السبت ٨ تموز (يوليو) ٢٠٢٣
بقلم محمد الحوراني

الليبرالية الجديدة .. حرب على الأخلاق وثقافة الانتماء

تعودُ نشأةُ الليبراليةِ الجديدةِ، بمعناها المثير للجدل، إلى منتصفِ القرنِ الميلاديَّ الماضي، إذ نشأتْ كردِّ فعلٍ على إخفاقِ الليبراليةِ الكلاسيكيةِ في تجنيبِ العقلِ الأوربيِّ تبعاتِ التطرفِ العقائديِّ، وهو تطرُّفٌ استُعمِلَ مع ظهورِ حركاتِ الفاشيةِ والقوميةِ في أوربا، وإذا كانتِ الليبراليةُ الجديدةُ بدأت زحفَها للسيطرةِ على المجال الاقتصاديِّ العالميِّ، وكذلك السياسيِّ فإنَّ أخطرَ ما فيها هو الاتجاهُ الفكريُّ والأخلاقي والثقافي؛ الهادف إلى القضاء على المنظومة القيميَّة والدينيّة والأخلاقيّة والحضاريّة في العالم. الليبراليةُ الجديدةُ وقد شهدت الليبرالية الجديدة نمواً وازدهاراً في عصر العولمةِ من خلال المحاولاتِ الدؤوبةِ لإعادةِ صياغة الأيديولوجيةِ الرأسماليةِ بعد انهيارِ الاتحاد السوفييتي السابق، وهي الأيديولوجيا التي تسعى الولاياتُ المتحدةُ الأمريكيةُ لجعلِها سائدة في المجتمعاتِ الإنسانيةِ المعاصرة كلّها، وتهدفُ إلى كيِّ الوعي والقضاءَ على القيمِ والأخلاقِ الموجودةِ في المجتمعاتِ جميعِها ومنها المجتمعُ الأمريكيُّ، وهو ما جعلَ بعضَ الكتابِ والمفكّرينَ الأمريكيين ينتقدونها ويصوّبون سهامَهم نحوَها، ومنهم الأمريكيُّ "غاري نيلر" في كتابه "لعنة العام 1920" الذي تحدث فيه عن "تدمير الأسر الأمريكية والأخلاق، وزعزعةِ الاستقرار الماليِّ وغيابِ احترامِ القيمِ وقدسيّةِ الزواجِ، إذ إنَّ الليبراليةَ الجديدةَ أرادَتْ اغتصابَ الثقافةِ والمفاهيمِ الأخلاقيةِ للمجتمعاتِ، سعياً من أصحابها إلى النيل من كرامةِ الإنسانِ والإنسانيةِ وتدمير وعيهِ وتنميطه، وفقَ أنماطٍ تحدِّدُها مطالبُ الليبراليينَ الجُدُدِ الساعين إلى تحويلِ الإنسانِ إلى كيان مجرّدٍ من المشاعرِ والأحاسيسِ والقيمِ والأخلاق؛ وهو كيانٌ لا يعترفُ بالأخلاقِ المتوارثةِ ولا بالقيمِ الإنسانيةِ النبيلةِ، التي تُشكِّلُ واحدةً من أهمِّ أسس المجتمعاتِ القويةِ وركائزِها؛ ولهذا فإنَّ الحريةَ في المفهومِ الليبراليِّ الجديدِ تُعظّمُ المنفعةَ واللذةَ الفرديةَ، التي تتصادم مع الأخلاقِ والقيمِ بعدِّها إلزاماً وقيداً، كما أنَّها تتحرَّرُ من الأخلاقِ ولا تحتفي بها، وتهتمُّ بما يحقّقُ الرغباتِ، وخاصة الرّغبات الدونية، مهما كانت عبثيةً إذا حقّقتْ أهواءَ صاحبها ومنافعَهُ الشخصيّةَ فحسب، وهو ما يفسِّر تصاعدَ موجاتِ الانحلالِ في الإعلامِ والتربيةِ والثقافةِ على الصعيدِ العالميِّ مؤخَّراً. ولما كانتْ مخاطرُ الليبراليةِ الجديدةِ تُهدِّدُ مؤسساتِ الدولةِ وقيمَ المجتمعاتِ القائمةِ على الأخلاق، فقد تصدّى لها كثير من المثقفين والمفكرين بل وحتى الزعماء، كما حذَّروا من مخاطرها على الإنسانيةِ عامّةً وشعوبِهمِ خاصة، من خلال سعيها النيلَ من إنسانيةِ الإنسانِ مستخدمةً أدواتِها الهادفةَ إلى تسويق الانحلالِ الأخلاقيِّ، وفصلِ الإنسانِ عن المبادئِ والقيمِ والانتماءاتِ، والتأكيد على مرجعيةِ الفردِ ورغباتِهِ، واستهداف المرجعية القائمة على منظومة عقائدية جماعية قائمة على الأخلاق النبيلةِ. وهو ما يستهدف إعادة إنتاج هويّاتي لتلك المجتمعات بما يحقِّقُ استدامةَ الهيمنةِ من جهةِ، أو تسهيل عملية الهيمنة في المساحات التي تتطلعُ إلى التّمدُّدِ فيها؛ ولعلَّ أخطرَ ما يحمِلُهُ إعادةُ الإنتاجِ الهويّاتي في المنظومة الليبرالية، هو تلكَ الفكرةُ الأساسيةُ القائمةُ على تفكيك الهويات الصلبة وتحطيمها، والقضاء على الانتماءِ القائمِ على الثقافةِ الأصيلة النابعة من الفضائل والأخلاق والقيمِ والمشتركات الإنسانيةِ النبيلة. كما أنَّ من أخطرَ ما تحملُهُ الليبراليةُ الجديدةُ هو تبنّيها الشذوذ الجنسيّ ودفاعها عنه، لا بل إنَّ الرئيسَ الأمريكيَّ جو بايدن أعلنَ صراحةً بأنّ أمريكا "أمة المثليين"، وذلك خلالَ احتفالٍ في تاريخِ البيتِ الأبيضِ بالمثليينِ، جرى فيه رفعُ "عَلَمِ المثليَّة" على دار الحكمِ الأمريكيِّ، ومن المعروفِ أنَّ الرئيسَ "بايدن" وقّعَ قانوناً يمنحُ الحمايةَ الفيدراليةَ للزواجِ من الجنسِ نفسِهِ في أنحاءِ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ جميعِها، كما أنَّ إدارتَهُ تضمُّ بعضَ المسؤولينَ الشواذ جنسياً، ومنهم وزيرُ النقلِ "بيت بوتيجيج". لا بل إنّ ثمّة ما هو أخطر من الترويجِ للشذوذ الجنسيّ في الليبراليةِ وهو محاولةَ شرعنتها وقوننتها، وفرضِها بالقوّة على المجتمعاتِ الرافضةِ لها؛ ومعاقبة كل من يتصدّى لها ويرفضها، ولهذا وافقَتْ إدارةُ الرئيسِ (بايدن) على رفعِ علمِ الشذوذ على سفاراتِها في دولِ العالم وإطلاق "علم الفخر" عليه، الأمرِ الذي أغضبَ كثيراً من شعوبِ العالم وزعمائِهِ، لا بل إنَّ الرئيسَ الروسيَّ "فلاديمير بوتين" أعلنَ الحربَ على الشذوذ الجنسي وأصدرَ القوانينَ التي تُجرِمُ الدعايةَ والدعوةَ إليها منذ بداية عام 2013، كما أصدرَ قانوناً يُجرِمُ الشذوذ في تشرينَ الثاني 2022، بعد أن أقرَّ البرلمانُ الروسيُّ (الدوما) مشروعَ قانونٍ يحظِّرُ الترويجَ لها، ويحظِّرُ القانونُ الجديدُ ترويجَ العلاقاتِ الجنسيةِ غيرِ التقليديَّةِ للجميعِ في وسائلِ الإعلام وعلى الانترنيت، وفي الكتبِ والأفلامِ، فضلاً عن فرضِ غراماتِ ماليةٍ تصلُ إلى "160.000 يورو " على من يخالفُ ذلك القانونَ، كما أنَّ الصينَ أعلنتِ الحربَ على الليبراليةِ الجديدةِ؛ لأنَّها ترى فيها ذراعاً تخدمُ التسلسلَ لليبراليةِ الجديدةِ التي تهدِّدُ المجتمعاتِ والنظمَ القائمةَ فيها، ولهذا فقد وضَعتْ وزارةُ التعليمِ في الصين مؤخراً، خطةً لتنميةِ الرجولةِ لدى طلابِ المدارسِ من أجلِ حمايتهم من الشذوذ، كما أنَّ الوزارةَ عدَّتِ الرجولةَ مسألةَ أمنٍ قوميٍّ، لأن تأنيثَ الرجالِ الصينيينَ يهدِّدُ المجتمعَ بأسرِهِ.

أمَّا في سوريةَ فقد كانَ الدستورُ السوريَّ (2012م) سبَّاقاً في التركيزِ على ضرورةِ حمايةِ الأسرةِ وتقويةِ أواصرِها، كما تمَّ التأكيدُ على أنَّ الدولةَ تحمي الزواجَ، وتشجِّعُ عليهِ وتحمي الأمومَةَ والطفولةَ وترعى الشبابَ، حسْبَ ما وردَ في المادة (20) من الدستور. وكان نقدُ الرئيس السوريِّ بشارِ الأسدِ لليبراليةِ الجديدةِ لاذعاً خلال حديثه مع الدعاةِ في وزارة الأوقافِ بتاريخ (7/11/2020م)؛ مؤكِّداً أنَّ سُبُلَ مواجهةِ الليبراليةِ الجديدةِ تتمثَّلُ في تعزيز الهويةِ الوطنيةِ والعروبةِ وتحصينِ الأجيالِ وترسيخِ البنيةِ المجتمعيةِ المناهضةِ للتحلُّلِ والانسلاخِ من القيمِ والأخلاقِ؛ وهو ما تقومَ عليه الليبراليةَ الجديدةُ، مؤكِّداً على ضرورةِ الحفاظِ على القيمِ الفاضلةِ والروابط الأسريَّة والانتماء والحفاظ على مقاصدِ الدينِ والعقائد وأهدافِها الاجتماعية. لقد دخلتِ الليبراليةُ الجديدةُ في واحدة من أخطرِ مراحلِها على الإنسانية والمجتمعات القائمة على الأخلاق والقيم، وهي مرحلةٌ تستهدفُ فرضَها بالقوةِ على كثيرِ من دولِ العالمِ، من خلالِ الدَّعْمِ المطلَقِ للشواذِ، وعدم السماحِ لأيٍّ من الدولِ بالتعرُّضِ لَهم أو محاسبتِهم، بل إنَّ الوقاحةَ وصلتْ بالولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ وبعضِ الدولِ إلى حدِّ فرضِ عقوباتِ على الدول التي تفكِّرُ بمحاولةِ ملاحقةِ الشاذّينَ جنسيَّاً، أو الداعين إلى الانحلال الأخلاقي والتحلُّلِ من القيم والمبادئ، التي تقوم عليها مجتمعاتُهم، ولعلَّ آخرَهم (أوغندا) التي فَرضَتْ عقوبةَ الإعدام على الشواذ جنسياً، لعلَّها تكون رادعةً لهم، الأمرُ الذي دفعَ الولاياتِ المتحدةَ الأمريكيةَ إلى فرضِ عقوباتٍ على أوغندا، إذا تمَّ التوقيعُ على القانونِ من قبل الرئيس الأوغندي. كما أن الاتحادَ الأوربيَّ دعا إلى إلغاءِ القانونِ مشيراً إلى أن تجريمَ المثليةِ الجنسيةِ يتعارضُ مع القانونِ الدوليِّ لحقوق الإنسان. وإذا كانت بعضُ المجتمعاتِ الغربيةِ نادت بالحفاظ على الأخلاقِ والقيمِ والتصدي لليبراليةِ الجديدةِ فإنَّ المطلوبَ من مجتمعاتِنا والقيّمينَ على ثقافتنا ومناهجِنا التربويةِ والتعليميةِ أنْ تُشْهِرَ سلاحَها في وجه الليبراليةِ الجديدةِ ودعاتِها؛ حفاظاً على الأخلاقِ والقيم، والمُثلِ الإنسانية الرفيعةِ، حمايةً للفرد والأسرة والمجتمع ممّا يخطِّطَ له، لا سيّما أنَّ الثقافةَ والتربيةَ والإعلامَ تشكِّلُ واحدةً من أقوى السلطاتِ وأكثرِها تأثيراً.

كما أنَّ تعزيزَ القيمِ، من خلال الحفاظِ على الأسرةِ وقيمِها، تعدُّ الأساسَ في مواجهة الليبراليةِ والتصدي لها، وهي الخطوةُ الأولى لإفشالِ هذا النهجِ اللاأخلاقيِّ على المستويات كافةً. أخيراً: إنّنا بأمس الحاجة إلى استراتيجية ثقافية إعلامية تربوية دينية شاملة، تُحْشد فيها الإمكانيات جميعها للتصدي لليبرالية الجديدة بكل تفرعاتها وتشعباتها، وفرض تشريعات وقوانين تجرّم الدعوة إليها، وتفرض عقوبات صارمة على أتباعها. وهو ما يمكن تضمينه في المناهج التربوية والتعليمية والاشتغال عليه ثقافياً ودرامياً بالتنسيق مع الوزارات والمؤسسات المعنيّة، والتأكيد على القيم والأخلاق في المناهج التربويّة والتعليميّة من خلال تعريف الناشئة والأطفال بخطورة الدعوات الهادفة إلى تدمير الأسرة والمجتمعات وتشويه التاريخ والرموز الوطنية التي يمكن أن تكون مثالاً يحتذى في الأخلاق والانتماء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى