حالة نفسية
"هذه ليست مذكرات كما قد يظن البعض .. ولكنها جزء من العلاج .. ومرحلة أوجب علي الطبيب أن أسير فيها حتى أتخلص من مشكلتي . وعموماً تبدو لي هذه الطريقة جميلة فأنا لست مضطراً للكلام لكي أعبر عن مشاعري .. وما أكتبه هنا ربما لا يراه غيري .. وهذا الشيء يريحني كثيراً .
في البداية لم أكن مقتنعاً كثيراً بهذه الطريقة .. ولكن وحتى أقطع الطريق على إصرار الدكتور فقد وافقت أن أكتب كل شيء يدور بخاطري .. ثم سأكون مخيراً هل أعطي ماكتبت له ليقرأه .. أم أخفي أوراقي ليبقى الجميع في حيرة يفكرون في سبب صمتي المفاجئ" .
أغلق الدكتور سامي الملف الموضوع أمامه .. واتصل بسكرتيره وطلب منه ألا يدخل أحد عليه .. ثم طلب كوباً كبيراً من القهوة وعاد للقراءة من جديد .. كان هذا الملف يتعلق بمريض اسمه سعد .. شاب في الثانية والثلاثين من عمره .. قدم إليه قبل فترة مع رجل آخر يعرفه سامي .. وبدا بصحة جيدة إلا أنه كان يرفض الكلام أو الإجابة على أي إنسان .. ولذلك لجأ الدكتور إلى هذه الطريقة عله يخرج سعد عن صمته ويعرف السر خلف هذا الجدار الذي يجلس أمامه .
قلب الصفحات ليلقي نظرة على مواطن متفرقة واستوقفته هذه الكلمات "أنا لا أدري متى شعرت بالتعارض حولي .. كان كل شيء يبدو لي منقسماً... البيت والمدرسة .. الأقارب والأصدقاء .. كنت أشعر أنني أعيش في المكان الواحد بأكثر من صورة .. فأبي يأمرني بشيء تأمرني أمي بعكسه في بعض الأوقات .. وفي المدرسة يطلب الأستاذ منا ألا ندخن ، ثم يأتي لزميلي ليطلب منه سيجارة .. وهكذا كل شيء حولي" .. توقف سامي عند هذه النقطة وأخذ يفكر .. صحيح ربما كنا في أنفسنا نحمل تناقضاً يدركه هذا المريض .. ترى ماذا نفعل بأطفالنا ؟ وأي شخصيات سنكّون فيهم .
أخذ سامي رشفة من القهوة وعاد يقرأ .. "موضوع الكتابة هذا بدأ يروق لي .. لا أدري لماذا!! ربما لأنني أشعر أنني أعبر عما في نفسي دون قيود أو خوف .. أنا أكتب لنفسي فقط .. وإذا أراد الدكتور أن يقرأ فهو مسئول عن نفسه . ولكنني سأكتب ما في نفسي .. وسأعبر كما أريد .. أذكر أن المدرس ضربني وأنا صغير .. لم أفعل شيئاً .. فقط قلت له أنني لم أتكلم .. وأن الذي تكلم هو ابن المدير .. فضربني واتهمني بالكذب .. ولكنني حقيقة لم أتكلم .. يومها عوقبت مرتين .. من أجل الكلام .. ومن أجل الكذب .. مع أنني قلت الحقيقة" .. توقف سامي وأخذ يفكر .. هل أفعل هكذا في أبنائي ؟ أأنا مجرم في حق أولادي ؟ هل يتكلم سعد عني ؟
ترك الأسئلة وعاد يقرأ من جديد .. "يظن الدكتور أنني مريض نفسي .. أنا ابتسم الآن .. منذ مدة لم أشعر بهذه السعادة .. ولكن هل يشعر الآخرون بما أشعر به ؟ ترى لو طلبت من الدكتور أن يكتب كما أكتب الآن ، ماذا سيقول ؟" توقف سامي وأخذ يفكر .. نعم صحيح ماذا سأكتب .. هل سأدون مواعيدي؟ .. ومشاكل العيادة المالية؟ .. أم التباين في شخصيات المرضى؟ .. أم زوجتي الغاضبة؟ .. أم جاري الذي لم التقي به منذ أشهر؟ .. شعر بصداع من كثرة الأسئلة وعاد للقراءة .. "ربما سيكتب الكثير .. ولكن هل سيشعر بالسعادة مثلي الآن .. وهل سيكون صريحاً كما أفعل الآن .. مشكلة الذين لا يعلمون أنهم ليسوا بصرحاء .. أي أن من لم يجرب أن يكتب سيكذب على نفسه .. لأنه يكتب للآخرين .. ولذلك سيحرص أن يظهر بينهم بصورة حسنة" .. صعق سامي لهذه الفلسفة .. ترى من هو المريض الآن؟ لايمكن أن يكون كاتب هذه الكلمات مريضاً .. شعر أن سعد يعريه أمام نفسه .. شعر أنه يعري كل شيء أمامه .. كان يتقازم مع الكلمات .. كم يحتاج لشخص مثل سعد يكسر أصنام الكذب في داخله .. المركز والشهادات .. المجتمع والنفاق الاجتماعي .. كل هذا الكذب يحتاج إلى تكسير .
"منذ أن رحلت أمي رحمها الله شعرت بوحدتي .. كانت تعني كل شيء بالنسبة لي .. حتى أبي رحمه الله لم يكن قريباً مني مثلها .. كانت هي الأم والأخت والرفيقة وكل المعاني .. إذا أردت الصدق فانظر له في موقفين .. في ضحكة طفل برئ .. وفي لمسة أم لأبنائها .. كل الصدق يرحل مع هذين" .
ألقى سامي الأوراق ولبس معطفه وخرج من المكتب مسرعاً .. لا يمكن أن يجد سعداً لأن سعد رحل ولن يعود .. انقطع عن الحضور إلى العيادة ولكنه أرسل له هذه الأوراق بالبريد .. أخذ سامي يقطع الطريق في عجلة .. وهناك في الجزء الآخر من المدينة وقف بيت في الظلمة .. توقفت السيارة ونزل سامي يجري ليقرع باباً بدا مهترئاً نوعاً ما .. وينتظر الرد من الداخل .. شعر بالثواني تمر كحد السيف تمزق عنقه .. وقرع الباب ثانية وردد الصمت صدى الباب المهترئ .. وعاد سامي ينتظر الرد من الداخل .. وصله صوت ضعيف .
– من هناك ؟
– هذا أنا .. الدكتـ .. هذا أنا سامي .
وانقطع الصوت .. ووقف سامي ينتظر أحداً يفتح له الباب .. ولكن لم يأتي أحد .. وفجأة فتح الباب وظهرت امرأة عجوز .. كانت في السبعين من عمرها تقريباً .. غطت رأسها بشال أبيض كعادة نساء القرى .. وألقت شيئاً منه على وجهها .. فتحت الباب في هدوء ونظرت إلى الواقف أمامها في شيء من الشك .
– من أنت يا بني ؟
– أنا .. سامي يا أمي .
– لم ترد عليه العجوز .. ولكن نشيجاً حمله الصمت حكى القصة .
– سامحيني يا أمي .. وألقى نفسه على يد أمه يقبلها .
– الله يسامحك يا بني .
عاد سامي مع أمه في تلك الليلة .. وتحلق الأطفال حول الجدة وهم يجرون .. وسامي ينظر إليهم .. نعم لقد كانت حالة نفسية .. وكان يحتاج طبيباً مبدعاً صادقاً كسعد .