

حبر الثقافة لا يعرف الحدود

في زمن تتشابك فيه القضايا الثقافية والسياسية وتغدو الترجمة وسيلة حيوية لبناء الجسور بين الشعوب، تتّجه الأنظار إلى المبادرات التي تتجاوز الحدود الجغرافية لتعزيز التفاهم الإنساني. وفي هذا السياق، تبرز الجهود المتنامية لوزارة الثقافة القطرية في فتح نوافذ جديدة على العالم الفارسي، انطلاقا من إدراك عميق لما تمثله الترجمة من أداة فعّالة للتواصل الحضاري.
شهدت السنوات الأخيرة تحركا ملموسا في الدوحة نحو تعزيز التبادل الثقافي مع الدول الناطقة بالفارسية، وهي إيران وطاجيكستان وأفغانستان، عبر تشجيع حركة الترجمة بين اللغتين العربية والفارسية. ويُعدّ هذا التوجّه جزءا من رؤية أوسع تستهدف مدّ جسور ثقافية بين الشعوب المجاورة، مستندا إلى القرب الجغرافي والتاريخي، وأيضا إلى الإرث الحضاري المشترك بين الضفتين. ورغم أن هذا التوجه ليس وليد اللحظة وكان حاضرا لدى عدد من الوزراء السابقين، لكنه شهد تطورا لافتا منذ تولّي سعادة الشيخ عبد الرحمن بن حمد بن جاسم بن حمد آل ثاني حقيبة وزارة الثقافة، حيث أصبح دعم الترجمة إلى الفارسية من أولويات العمل الثقافي القطري.
فمنذ عام 2022، بذل مركز قطر للشعر (ديوان العرب)، التابع لوزارة الثقافة، جهودا حثيثة في ترجمة مختارات من الشعر القطري إلى عدد من اللغات، وفي طليعتها اللغة الفارسية. وقد صدر حتى الآن ثلاثة أجزاء من سلسلة "عيون الشعر القطري"، تناولت مجالات الغزل، والحكمة والوطنيات، وقدمت نماذج لأبرز شعراء قطر عبر العصور.
وجاء الجزء الأول مخصصا لشعر الغزل، وضمّ نماذج منتقاة لشعراء قطريين بارزين مثل محمد بن عبد الوهاب الفيحاني، وسعد بن علي المسند، وسعيد بن سالم البديد المناعي، وعمير بن راشد بن عفيشة الهاجري، وحسن بن فرحان النعيمي، وغيرهم. أما الجزء الثاني فقد ركّز على شعر الحكمة، مع مشاركة أسماء لامعة مثل سعيد بن عبد الله المحرول النعيمي، ومنصور بن حوبان المري، وجبر بن محمد آل دلهم الكواري، وعبد المحسن بن جاسم الفياض. وجاء الجزء الثالث ليسلط الضوء على الشعر الوطني، حيث برزت أسماء مثل سعيد بن عبد الله النعيمي، وعبد الله بن سعد المسند المهندي، وعلي بن سعيد المنصوري، وصالح بن سلطان الكواري، وغيرهم من الشعراء الذين عبّروا عن الانتماء الوطني بروح عالية.
وقد جرى اختيار هذه النصوص بعناية فائقة من قبل مركز قطر للشعر (ديوان العرب)، الذي يديره الشاعر القطري شبيب بن عرار النعيمي، ما يعكس رؤية ثقافية ناضجة في تقديم صورة أدبية متكاملة عن الشعر الشعبي القطري إلى القارئ الناطق بالفارسية.
وفي إطار العمل المؤسسي، تؤدي إدارة الترجمة والإصدارات في وزارة الثقافة، دورا محوريا في هذا التوجه. ويبرز قسم الترجمة، كأحد الأذرع الفاعلة في نشر الثقافة القطرية عالميا، خاصة فيما يتعلق بإنتاج الكتب المترجمة ونشرها بالعديد من اللغات من ضمنها الفارسية. ومن المشاريع المهمة التي أنجزتها الإدارة المذكورة، كتاب يوثق مسيرة دار الكتب القطرية وهو مترجم إلى الفارسية بجهود إدارة الإصدارات والترجمة، إلى جانب مشاريع أخرى قيد الترجمة تتناول جوهر الثقافة القطرية، وهي قضايا ليست بغريبة على قاطني سواحل الضفة الشرقية للخليج، خاصة في محافظات هرمزكان وبوشهر وفارس، الذين يتقاسمون مع الضفة الغربية إرثا حضاريا مشتركا.
وفي المقابل، يُلاحظ اهتمام متزايد في الأوساط الأكاديمية الإيرانية بالأدب القطري، خصوصا في مجال الرواية، حيث تناولت دراسات ورسائل في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة آزاد الإسلامية في مدينة كرج غربي طهران، أعمال عدد من الروائيين القطريين، مثل جمال فايز، وعبدالعزيز آل الشيخ، ودلال خليفة، وشمة شاهين الكواري، وغيرهم من الكتّاب القطريين المرموقين.
ولا يخفى أن القارئ الفارسي، المعروف بشغفه بالأدب العربي، بات يولي اهتماما متزايدا بالأدب القطري، خاصة بعد أن أصبحت الدوحة عاصمة للثقافة الإسلامية والعربية، واحتضنت فعاليات دولية مرموقة مثل جائزة كتارا للرواية العربية، وجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي. وفي خضمّ هذا الحراك الثقافي النشط، يبدو المشهد كما لو أنه يُجسّد قول الشاعر العربي المخضرم سويد بن أبي كاهل اليشكري:
بَسَــــــطَـتْ رابـعَةُ الحبلَ لنا
فوصلنا الحبلَ منها ما اتّسَع
فالثقافة القطرية، بدعم مباشر من وزارة الثقافة، تبسط خيوط التفاهم والتلاقي، بينما يلاقيها القارئ والمثقف الفارسي بالترحيب والتفاعل، في مشهد يُجسّد تآلفا أدبيا وإنسانيا يتجاوز الجغرافيا والسياسة، ليصبح النتاج الثقافي القطري محط اهتمام القراء الناطقين بالفارسية أكثر من أيّ وقت مضى. وهكذا تمضي قطر بخطى واثقة نحو تعميق علاقاتها الثقافية مع إيران وطاجيكستان وأفغانستان من خلال الترجمة، التي تُعدّ جسرا أصيلا بين الشعوب.