حداء الصحارى
في مجموعة الشاعر الاردني جلال برجس التي طبعت بدعم من وزارة الثقافة الاردنية 2008(كاي غصن على شجر) تعود القصيدة المبدعة الخلاقة التي افتقدناها مع نهاية التسعينيات لتُعلي من شأن الشعرية المتحركة والأيناس الشعري، تلك الشعرية التي تحتفي بالهامشي والاشياء التي انحاز الشاعر الى انسنتها وبث الروح التواقة فيها الى الحياة. اذ يبدو المزاج الشعري في مدى القصائد متمنطقاً بترنيمة صحراوية لاتمل من مساحات السراب الواسعة بحثاً عن الماء الذي ينز من الحلم الذي صاغه جلال برجس بشفافية عالية تليق ببدوي حد الرعونة في قراءة الحياة التي في نصوصه تنقر خطواتها باتجاه اهم الثيمات الانسانية مسيراً، لتتوالد الحيواة غناء يعلي من شان الماء والشجر والطير والحجر والحب والوطن لتحفي الساحة الشعرية الاردنية بولادة شاعر اردني انجزته الصحارى البعيدة والترحال الذي هو في الاصل تميمة بدوية تشي برؤيته المتفردة لليومي والذي لم يُحتفى به من قبل.
مع علمنا بان جلال برجس كشاعر قد ولد مبكراً ولكنه كان قد فضل التواري عن الانظار والنشر بعيداً قبل ان يدفع باولى اعماله الى الطبع.
فنراه يحدو على امتداد قصائده بلغة لها مجاز حالات الليل في الصحارى وايماءة النجم للنجم قبيل تَمَطي الشمس من خلدها وكونشيرتو الهاجرة وهي تنجز سرابا على انثيال الرمل في بيداء ممتدة مد الظن في البصر. حداءه صارخ حد الوله بالحياة ونحن نتلمس توقه للحرية التي اعلن عنها عنوان المجموعة (كاي غصن على شجر) ذلك الغصن الذي ينمو على سجيته وعلى فطرته التي لايشبهها الا فطرة البداوة نفسها تلك الفطرة التي لها ان تفتح شبابيك المخيلة على مصرعيها لتبتكر الماء والهواء والشجر والاغنيات، كما قال في قصيدته كاي غصن على شجر ص3:
(كأي غصن على شجرينمو على وقع المدىدون انتباه لنافذةاو حائطمنذ انصهار الناي في وجع الرعاةلم يعر للشمس ادنى انتباه)
هذا الانتباه للحظة يضمخها بالقادم المأمول على الصعيد الذاتي والصعيد الموضوعي الذي تكرس من خلال ترميزاته وايحاءاته الشعرية التي اتت في مكانها اسئلة حياة واسئلة موت وهو يشتاق لانجاز الآني على سجية القادم،كما يقول في نفس القصيدة:
(كأي غصن على شجرأو كمالسافر دونما جهةاشتاق اشتاقان انمووأعلي شأن اغنيتي)
فهي رؤى زاخرة بالحلم اراد عبرها جلال برجس ان يكرس رؤاه الخاصة تجاه الحياة ولكي يستطيع ان يشكل معادلته الموضوعية لفلسفة خاصة تنتج مادة الحياة الطازجة، وضع لبنات اساسية ينطلق من خلالها، هذه اللبنات يراها الشاعر مكونات حقيقة في المحصلة:
الحلم كطاقة متحركة وهائلة لانتاج الحياة، الارث الحضاري والفكري كذاكرة تؤثث ادواتها للانتاج، المرأة كشريك فاعل في الانتاج، اما المنتَج كما يراه الشاعر، هو غصن اخضر على شجرة الحياة، يحمل ترميزاً عالياً وفريداً للحرية والانعتاق،ففي المحور الاول وهو الحلم فان الشاعر انهمك في تكريس حلمه في اكثر من قصيدة وموقع في المجموعة، ففي قصيدة كالصغار المطيعين والتي قال في المقطوعة السادسة منها:
(عندما كنت صغيراً،اسابق الطير الى ماتبقى من بذار الحقول،احلم بامتطاء السماء الشاسعة)
تتبدى الشهوة العارمة في الانعتاق،ويتبدى غرض الشاعر من التأريخ الشعري لزمن هذه الشهوة في تحديدة وتاكيدة على زمن الطفولة،كما ويبدو في ذلك المقطع علاقة الارتباط الوثيق بين فعل الحلم كاساس لاستدراج التوهجات التي يتأملها واقتناص القادم، والهدف نفسه كنتيجة طبيعية للحلم, ولعل المباشرة الواضحة في هذا المقطع لطرح الشاعر لهذا الحلم هي مباشرة مقصودة كرد فعل على إرهاصات وتداعيات الحلم في النفس الشاعرة التي ترى الاشياء على غير عادتها وتسبح في فضاء فسيح من الخيالات المعقولة وغير المعقولة، ففي لحظة من اللحظات ينهر الواقعُ المر خيال الشاعر ليقول الحقيقة صارخة كما هي دون مواربة، حين يرى الشاعر ان الواقع اصعب بكثير من المتخيل، هناك حالة من اللاتطابق ففي قصيدة وتر في ركام يثور الشاعر على الواقع المتشظي بادوات خلت من الزعيق ومن الصراخ ليعلي من شأن اللحظة القادمة رغم الخراب الذي حل:
(تعالوا لنقنع هذا الخراب،بان الحقيقة اوسع من شاشة الرادارفي مرمى الاباتشي،تعالوا فلابد من وتر تبقى في الركام، لنصلح هيبة المعنى،ونسرف في السؤال)
اذاً هو حلم في الاصل سادر في الذاكرة الجمعية يؤدي قطعاً الى غاية جمعية يشكله في منولوجيا ذاتية تبدو ظاهرة في اغلب قصائد المجموعه، حيث يطلق مقولته الوجودية عبر قصائده ملوحاً بالحياة كما في قصيدة سوناتا المطر:
(انا الذي ياماء قالتني العناصر،فاختلطتُ منتبهاً إليّ،منحازا لما يرتاحخلف الكناية في ذرى جسديجسدي كتاب الغيبروزنة العناصر)
فهو يرتاح- أي الشاعر- الى حلمه الكبير الذي يملأ جسده من الوريد الى الوريد ثم يؤطر لهذا الحلم ويخرجه من ذاتيته كما في موضع اخر من نفس القصيدة:
(فكنتُ مبتلاً من ندى بلدي، ومرتعشاً بومض النفخة الاولى)
واما المحور الثاني الذي يكرسه الشاعر للوصول الى غايته القصوى هو ارثه الحضاري والفكري والمتمثل بكونه ابن الريف تارة وابن البادية تارة اخرى فنراه يعيد صوغ المشهد الذي يأتي هنا قطعاً سينمائيا إشكالياً متطوراً في القصيدة نفسها:
(ولد على نهد الرعونة،يرضع الاغواءيركض الان تحت المزاريبممتشقاً صهيل الماء في كفيهويعتلي شجراً- تسلق للمدىدرج الهواءويعلن روحهشباك أمنية لها في الغيمما باح الفضاء)
هنا تندلق الذاكرة على مصرعيها حيث يجيء زمان الطفولة الحالم واضحاً ومليئاً بوجه آخر للسائد، عبر لغة تبتعد عن الاجهاد الشعري، وعبر مفردة تجيء في مكانها الطبيعي بسلاسة لذيذة على نفس المتلقي،اذ ان الوطن في هذه القيصيدة لايجيء عند جلال برجس مؤطراً بحدود وسمات ما، العالم بل الكون عنده هو الوطن, من هنا نلاحظ انتشار مفردات كونية في مجموعته مثل مجرة, نجم, سماء كواكب, اذ يتبدى لنا ميل الشاعر للنزعة الانسانية التي باتت تدير ظهرها في الشعر الحديث لكل اشكال الانحياز على مستوى القصيدة.
وفي قصيدة (ظل مترف بالاتجاه) يقف الشاعر على رُبى روحه التي هنا قاربت روح سادن الصحراء ابراهيم الكوني، ويعلن صحراءه التي اتت معادلاً موضوعيا للنقاء الذي ينشده حد الثمالة, رغم الحالة التمويهية الشعرية التي تلوح من شرفة النص:
(هنا الصحراء تتبعنيكظل مترف بالاتجاه،وتعصف بيرمال من صحاري القيظ،رغم اني احتسي كأس النضارة والاخضرار)
اذاً لعل الشاعر تدرج في السكنى من البادية الى الريف، وهي حقيقة الطبوغرافيا الاردنية الحديثة، حيث بدأ التطور المجتمعي منذ اوائل الثمانينات، حيث تمثل بانحسار الفجوة الكبيرة بين مناطق العيش الثلاث البادية والريف والمدنية، فالصحراء لها سماتها الطبيعية، الظاهرة في تجربة الشاعر من حيث العادات والتقاليد ومن حيث السمات المكانية، والمعنوية التي دفعته لابتكار حلمه الخاص النقي، هذه الصحراء التي طافت معه اينما حل، ففي اشارة في اخر المجموعة عن اماكن كتابة القصائد وزمانها، يلوح لنا ذلك وهو يتجول مابين بانكوك وتايوان وكاوشنغ وبلدان اخرى، ومابين الصحراء و الجبل والسهل والبحر والقرى في الداخل الاردني.
فجلال برجس امضى مايقارب العشرين عاما في الصحراء الاردنية الشرقية حيث مكان عمله في هندسة الطيران التي احدث تقاطعات مهمة بينها وبين الشعر كتحليق. عشرون عاماً وضعته امام ذاته التي عرفها جيدا واكتشف مجاهيلها وقدرتها على ابتكار ادواتها لمواجهة قسوة الواقع الذي كان يدركه وهي يدري انه يوماً ما سوف يخلف الصحراء وراءه ميمماً المدينة، تلك المدة الزمنية الصحراوية الطويلة بكل تفاصيلها الصحراوية حيث الصحراء الممتدة مد الظن في البصر والسماء المترعة بالنجوم والاحلام والعشق والاغنيات والرمال التي لم تلوثها قسوة الجديد، وحيث الخيال الصافي الذي له ان يبتكر ادواته التأملية واداوات احلامه، فالصحراء تخلو من الايائل والشجر لكن جلال برجس حاله حال الشاعر العربي الذي عاش في الصحراء القفر فانتج اعذب الشعر بخلاف الغربي الذي عاش في سهوب خضراء تتوسطها المياه، او في مدن تترع بالاسمنت والدخان، ففي قصيدة (على اهبة الحلم) يتبدى ذلك جيداً حيث العزف المنفرد على قثيارة متفردة اذ يقول:
(على أهبة العشقيرسمنيمجازُ الاغنياتفتجيء من قمم الجبالأيائل ممهورة بالصحوتؤكد لهفتي للريحتؤكد لهجتي للطيرتؤكد كوكباً في مجرات الكلاميثمل بالشهيق وبالبريق)
اذ ياتي الحلم هنا صارخا ومتطرفاً بلذعته الحياتية، الايائل وهي تهبط من قمم الجبال التي تناثرت في الامتدادات الصحراوية ماهي الا حلم يشي باتساع المخيلة ورهافتها، والاغنيات التي على اهبة العشق ترسمه بدويا يعشق التحليق فما الشعر الا تحليق في سماء الروح وهنا تتبدى الثنائية مابين مهنته (هندسة الطيران) ومابين شعريتة التي يهندس حياته واحلامه من خلالها وهو يفترش رمال الصحارى ليلا هائما في مطر النيازك والشهب وحالماً بنجوم قد تاتي الى الارض ذات يوم، النجوم التي رآها كانت في الاصل على دروب الارض تسير لكنها فرت من فرط القسوة, ففي قصيدة (اكثر حنكة) يسرد لنا ما يتقافز في مخيلته:
على هذه الارضهاهنا ذات يومسوف تأتي النجومتزفها الاقماروطير المجراتمن البعيد البعيد
وكأنه يود القول ان طيوراً سوف تأتي من البعيد وتجعل الحلم حقيقة، اذ يستخدم الشاعر هنا اجمل ادواته الفنية لاحداث الاسقاطات وتقاطعاتها، ثم نراه يقول:
ستأتي كغبار الزنابقمن اعلى مفازات الشهيقبوجد المسافر في تخوم الرملوهو يحمل وردة الخذلانباصابع الاطفال وهي تنفض ماتبقىمن غبار قد تثائب واعتلى وجه الحياة
وكانه يسرد اسباباً لحالات الاغتراب التي راحت تتفشى بين الحين والاخر، وهو يرى ان الكون مناطا بالحب:
لذا علينا
ان نصير اكثر حنكةلكي لاتفر النجومكما صار ذات عام قديمحين فرت الى السماء.
وتأتي المرأة في مجموعة جلال برجس معادلا للخصب والنماء الذي يتوق اليه، اذ نشهده على امتداد نصوصه يسفح رذاذ شعره مغنياً للمرأة التي ارادها امرأة تحوي في تكوينها الام والاخت والحبيبة والوطن، مُحْدِثاً اسقاطاته وتقاطعاته مع الكون كحالة فلسفية ومع المرأة كحالة وجودية، وكشرط نماء, لكن المرأة في في هذه المجموعة الشعرية لاتاتي نمطية تقتصر على مشاهد جسدية سردية، او عبر وجدانيات كانت سائدة في القصيدة الكلاسيكية، انما المرأة هنا حالة روحية تكاد تلمسها في اغلب مكون المجموعة الشعرية متماهية بالطير والحجر والريح والسماء والنجوم والوطن، ناهيك عن كونها موضوعاً رئيسياً في اكثر من قصيدة، تلك القصائد التي احدث امتزاجاً جريئاً مابين المرأة كوطن ومابين المرأة كمحبوبة، اذ ان الشعر في هذه الحالة يؤكد نفسه من خلال تمرده على السائد والراكد واحداث التجديد الذي يتجلى عند جلال برجس في كثير من الانزياحات اللغوية، وفرادة الصورة الشعرية، والادهاش الذي لاتخلو قصيدة واحدة منه، بحيث ان ثمة هاوية في نهاية كل نص شعري، ففي قصيدة (امرأة تعشوشب ذهباً) تجيء المرأة بكل طاقتها متمردة على الصمت، بحيث تنفتح لها عوالم غير نمطية:
امرأةأبلغ من أنثىتخدش طود الصمتتهمسللماءوترمي للشمسكلاماً لبنيّا:ياشمس \خذي ضوئي الباهتواعطي \مادار بخلد دميآخر يعشوشب ذهباًعلّ مجازييمنح قافيتي عنباً او ماء
اذ اننا نلاحظ هنا تطور الخطاب الشعري فيما يخص المرأة من حيث اخراجها من ثقافة الاستهلاك الى فضاء الانعتاق الذي هنا يتقاطع مع رغبة الشاعر الملحة في الانعتاق والحرية، وكأن جلال برجس في هذا النص الشعري يدفع المرأة للاعتراف بتناقص جذوة انوثتها التي عليها ان تُعلي من شأنها.
وفي قصيدة (ماتيسّر من يديّ) يتطور هذا الخطاب الشعري الذي يحتمل اكثر من مستوى للقراءة باتجاه المرأة بحيث ان الشاعر هنا يربط المرأة بثيمة الحياة ومكونات الخصب والنماء:
(تصبحين في قلبي عليّسأجدد الدنياوأمنحها الحقيقة:ماتبقى من ضلوع القمحماتبادر من حكايات الجدودماتأثث في يديْ من لوثة الشعراء
وتأتي الحرية التي بانت من العنوان (كأي غصن على شجر) في هذه المجموعة، كأهم مكونات القصائد، بحيث تتقاطع مع المرأة والارث الحضاري والحلم بشكل لاذع، هذا التوق الذي تبدى عبر كثير من المفردات التي اتت في سياقتها الصحيحة في قصائد أثثت المجموعة الشعرية هذه بفضاء متحرك ونشيط يسعى لابتكار ادوات خاصة لتوسيع مدى الحرية والارتقاء بسويتها بعيداً عن المباشرة ولغة التثوير، الا ان التثوير هنا يأتي عبر احتفاءات بالهامشي واليومي والتفاصيل المهملة، ويلوح ذلك في الجزء الاول من قصيدة(رسائل) والمروّسة بالرقم واحد، حيث تأتي هذه المقطوعة الشعرية كما لو انها مشهد سينمائي اشكالي يتكيء على لغة الترميز المحمل بالفنتازيا:
(اذنٌ تنظرْوتحملقعبر الشباكتحاول رسم خيال ما:غيمشجرصدر امرأةويد تختزل القضبان)
اذ ان اللعب على التناقض هنا يأتي خدمة لخطاب القصيدة التي أتى عبر طرح غرائبي، فالاذن لا تنظر ولاتحملق انما تسمع، لكن هنا يأتي الاسقاط واضحاً ومهماً لكن ربما الشاعر هنا حاول اختصار حالة كونية من تضاؤل ألق الحرية وانتشار عطب ما في تكوينها بحيث تصير الدنيا في هذه الحالة عبارة عن سجن كبير، تماما كما كان الروائي مؤنس الرزاز يرى المدينةَ كما لو أنها كاتم صوت كبير. وتتضح الرغبة للاشتغال على ثيمة الحرية والاعلاء من شأنها في قصيدة (كأي غصن على شجر) هذه القصيدة التي أتت كعنوان للمجموعة،حيث يتضح من سياق العنوان حد الانعتاق اللانهائي الذي يبتغيه الشاعر، فبما أن الغصن على الشجرة ينمو على سجيته فان الحرية التي يريدها، يريدها كغصن ينمو على سجيته او كما قال في نفس القصيدة:
كاي غصنعلى شجرينمو على وقع المدىدون انتباه لنافذةاو حائطمنذ انصهار النايفي وجع الرعاةلم يعر للشمسادنى انتباه
* * *
كأي غصن على شجر مجموعة شعرية تبشر بشاعرمتمكن من رؤاه وأدواته، شاعر فعلت الصحراء وطقوسها الاسطورية بروحه الكثير الكثير، لتجيء الصورة متميزة, والمفردة مرهفة، والوجع نافر من الجرح على سجية الحل والترحال، ولتجيء القصيدة كذئب صحراوي جريح يطوف بزقاق المدينة يفتش عن ظالته وهو ينثر من على صوفه الابيض نجوم تلك المساحات المطعمة بلوثة الرمال. كأي غصن على شجر، حداء الصحارى للحرية.