الأحد ٣ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم السعيد موفقي

حدود سيمية في نص«يشمّ الوردات»

ليست وظيفة الفن أن يدخل الأبواب المفتوحة، بل يفتح الأبواب المغلقة.

 (أرنست فيشر)

قد تبدو بعض مظاهر النّصوص السردية مركّبة في سياقها العام، توحي بتفاصيل مجهدة للمتلقي، غير أنّها تكرّس ذلك بأسلوب مختلف، مستحوذ، ومثير، يشكل في النهاية قراءة إبداعية متناغمة قد لا ينجح فيها كل كتاب السرد، و لذلك يطغى الرمز في توظيف مختلف المجازات و مستويات النّص، تتعالق و تتفاعل مع لغة الحكي بشكل مشوق، نشعر إزاءها بمداعبات ذهنية و نفسية في وقت واحد...و لذا أقترح على القارئ هذه القراءة لنص أراه يستحق وقفة في تفاصيله و مكوناته من حيث ما تقتضيه في كثير من المواضع الرؤية السيميائية ممتزجة بحركة أسلوبية في تناول بلاغة النّص و لغته، باعتبار تجاور الجمل و تقارب الصور من شأنه أن ينتج أفكارا و يولّد معان، و يفجّر صياغات لدى السارد الذي خاض هذه التجربة في حدود ما تمليه رؤيته الذاتية...من عتبة العنوان "يشمّ الوردات" إذ الرمزية تبدأ بشكل بسيط قد تبدو عادية في سياقها، و هذا المستوى يقوي دلالات المتن و يجعل منه منتجا كثيفا مترابط الأجزاء، يدفعنا إلى تفكيكه، و من هنا نتناوله من حيث:

رمزية الحواس: حاسة الشمّ و تكثيف المعنى:

على بساطة الصورة فهي تحمل تعقيدا حسيّا في عملية التبادل التي استحدثها السارد بين البطل و بين الوردات، و هنا الصياغة لم تكن عشوائية بقدرما كانت مقصودة لذاتها كما يراها السارد نفسه " لايذكر تحديدا من منهما شد انتباه الثاني، أتكون قد أرسلت عبقا انتشاه فضمخ وجنتيه ببدء الخجل؟ أم تراه بشق نظرة قد أوحى لها؟ " و هنا تهيئة واضحة لدخول مستوى جديد "الحوار" و هو انعطاف ذكي للدخول في تجاويف الذات و التنقيب فيها، انتقال سلكه السارد ليوهمنا بالصورة الحقيقية الغامضة و يحاول أن يمكننا منها، فيحدث ما يسمى بالتجاوب على لغة السرد التي تجعل هذا المستوى يحقق من هذه الرمزية صورة تنتهي بحالة واقعية لا يتردد معها المتلقي، بل يتقرب منها أكثر و يقحم نفسه في نهاياتها و إن لم يظهر كثير منها بوضوح...هذه العلاقة الحميمية عن طريق حاسة الشمّ تنتهي بتغيّرات جذرية لعلها، الرؤية الافتراضية التي أراد أن يحققها السارد مع انتهاء النّص يوضّحها المخطط على هذا الترتيب:

الفعل __ الحاسة __ الشيء ___ النتيجة

يشمّ __ (النشاط)الشمّ ____ (الوردات)مفعول به_ تقارب قبل الرؤية(انفعال) 

البعد الإشاري بين حاسة الشم و الانفعال:

هي ليست عملية توصيف لحاسة الشمّ لذاتها، إنّما قراءة لمحتواها كفعل تضمّن مجموعة من القيم و الدلالات التي تشير إلى أكثر من موقف حسيّ و معنوي باعتبارالإشارة"لفظا مفردا دالا على حدث أو ذات أو موقع ما في الزمان أو المكان "1"بحضور لغة اللّون"نفسه / " لايذكر تحديدا من منهما شد انتباه الثاني، أتكون قد أرسلت عبقا انتشاه فضمخ وجنتيه ببدء الخجل؟ أم تراه بشق نظرة قد أوحى لها؟"المصدر نفسه/ هذه العتبة لم يدرجها السارد من باب العفوية بقدر ما كان يبحث عن مبرر للعلاقة التي تجمع بين الصورة الحسّية و اللّون و الشّكل و ترك المجال مفتوحا للمتلقي ليبحث عن العلاقة الحقيقية التي يعنيها في جملة المعطيات التي وزعها بين مراحل تفاصيل المتن و تنوّع مواقف البطلين و ليس بطلا واحد كما يبدو.

إيقاع الترادف:

تشكل هذه الظاهرة مرتكزا أساسيا في العملية النقدية من جانبها اللساني، ففهم النّص يتطلب حضورا خاصا لدى القارئ ليتمكّن من التجاوب مع قرائن النّص و تشكّله اللغوي و البلاغي / المجازي في بعده الرمزي / التصويري، و لكي تتحقق هذه الميزة فإنّ القراءة تجمع بين مقتضيات المستوى اللغوي و بين التعاملات النقدية الصافية التي عبّر عنها النقد الحديث في صور عديدة " خلال القراءة نحاول أن نبعد أي مشاغل تلهينا عن التركيز و هذا الابتعاد عن العالم الحقيقي إلى عالم منفصل يتحقق في مساحته استيعاب وعي النّص ذاته"2 " و نفسك قد جبلت على الإفتتان الذي تراه و الذي تلمسه يداك أو تخالها كذلك حين تخرج رغما عنك دهشتك:

 رائع..فاتن..ياه..

من بين كل تلك الأزهار قد عبقت " تحقق إيقاع الترادف لا يعني بالضرورة من تشابه أصوات الحروف و مصوِتاتها و ترتيبها بقدر ما تعنى بدرجة الوعي و تناغم المعاني ونسيح الأفكار /رائع..، فاتن..، ياه../، لا تخرج معاني هذه الألفاظ عن دائرة الإعجاب و الدهشة و أحيانا الذهول الذي تحدثه عملية استكناه دلالات النّص في شموليته، باعتبار هذه التقانة وسيلة متحولة من مستواها اللغوي المتعدد في المعجم إلى مستوى السرد الذي يمنحها خصوصية أخرى تتفاعل مع العملية الإبداعية التطبيقية.

التكرار و التضاد:

ينبغي ألاّ نفهم هذه الظاهرة في مستواها السطحي الذي تشكله عملية التشابه أو التضاد أو الحشو التي كثيرا ما تخل بالمعنى الجمالي لوظيفتها الحقيقية، غير أنّنا نبطل هذا الزعم عندما نقف بعمق على مستوها السيميوطيقي و إحالاته الشّعرية في النّص السّردي (القصة القصيرة) التي تعتمد الجمع بين ثنائية استراتيجية، "استراتيجية الإقناع...و استراتيجية الامتاع"3.

1.التكرار:

من حيث الإجراء يوظف نص (يشم الوردات) جملة من هذه الظواهر بدءا بـ
النداء: (يا)، (-يا أنت يا أيها القادم الآن، كنت أزهرت و ما كنت بحقلنا، و أينعت و ما سقيتني، هل يحل لك انتهاك الهواء لتشم عطري و شذاي؟ رحيقي توزعه النحل ليمكن لبذوري استنشاق الربيع، يا أنت يا أيها القادم الآن لكم شوقتني لو كنت تفيأت ظلك) وللنداء مجموعة من الدلالات التي تفي بغرض التنبيه الذي لا يبحث عن حدوث متغيّر مباشر بقدر ما يبحث في تبيلغ الرسالة / الخطاب و تنشيط البطل الافتراضي والمتلقي على حد سواء، يفتعل خلالها السارد صفة الصوت المركزي مصدر النداء / المخاطِب / (يا أنت...، يا أيّها...) على وتيرة واحدة تتلاحق بين منادى ضمير(أنت) و منادى (أيّ) ووتيرة أخرى للأفعال(ناقصة، تامة)، (كنت، أينعت، سقيتني، يحل، لتشم، توزعه، ليمكن، شوقتني، تفيأت، ) بين زمن منقض و زمن حاضر و زمن منتظر...، أما تكرار الضمير: (أنت) من باب إسناد المجهول للآخر بحضور الذات و للضمير وظيفة الربط بين أجزاء النّص بداية و نهاية، تحقيقا لنسق معيّن اقتضته طبيعة الخطاب، و من أجل التواصل كان لابد من ضرورة ضمير ( أنا ) تحقيقا لرغبة ذاتية ووصولا إلى ما تبقى من أجزاء الصورة التي لم تمكتمل في نظر السارد و لذلك استعان بالأسماء بتكراره لـ (الهواء) في أكثر من موضع، و تكثيفه ارتكز أكثر في المقاطع الأخيرة من النّص: (وجه تيار الهواء...الشمس تشرق و الهواء و الأزهار و الروح....صوت ضمخه هواء الغرب إلى سمعك…هل يحل لك انتهاك الهواء لتشم عطري و شذاي؟

….. تحاول بدورها مع تيار الهواء شرقا …. و الهواء عليل …..-…. هل يحل لك انتهاك …. الهواء الغربي يردد، من شأن هذا الإلحاح توليد المعاني بصيغة واحدة و في مواضع مختلفة (تيار الهواء" جملة مكرر" / تشرق و الهواء / ضمخه هواء / انتهاك الهواء / الهواء شرقا / الهواء عليل / الهواء الغربي / )

2.سيمات (Sème)4 التقابل و التضادContrariété5:

تتحدد هذه الوظيفة بلاغيا بما يسمى الطباق أو المقابلة و لكنّها تعتمد على سياقها الفاعل في المتن من حيث توالد المعاني الجزئية أو الصغرى "و يرمي هذا التحليل السيمي إلى رد المعاني و المدلولات إلى الحدود السيمية يعني إلى الشبكات المنظمة للحدود الإبتدائية "6، إجرائيا يمكن أن نتناول بعض ما جاء في هذا النّص السردي، التقابل بين ضميرين، بين (أنت) و (أنا)، أما "أنت" فمجموعة العلاقات و التصورات الخارجية التي تعتمد بنية سياقية مختلفة و تسمى أيضا الـ"هو" في مواضع التنظيم السيمي و تصنيف الأفكار و الأفعال و الانفعال تنتهي بانهيار مستويات الغموض و إزاحة لبس المعاني، أما " أنا " و تحددها مجموعة المشاعر و الأحاسيس الثابتة و المتغيّرة بالإضافة إلى مجموع الأفكار و القناعات التي قد تكون مؤيدة أو معارضة للمستوى الخارجي، يثبتها أو ينفيها المتلقي، و بين (مشدودة و مقطوعة) / بين (هنا و هناك)/ بين (هاته متفتحة و أصاب أوراقها بعض الوهن) / بين (اليمنى و اليسرى) / بين(تقف إلى الغرب... و فتن بالشرق، الشمس تشرق) / بين (أنت مقبل و أو مدبر)، فهذه الصورة "معطى لغوي تتحكم فيها التضادات الثنائية و تكمن جماليتها في أنّها تورط المتلقي "7 ليكتشف مقصدية متغيّرة قد تبدو ثابتة في نظر بعض القراءات السلبية، أحادية التوجه، سطحية التأويل، تتحكم فيها نوازع مسبقة، شديدة الانفلات، غائرة في المجهول ضعيفة الأدوات، قد لا تصنّف ضمن العملية النقدية، لافتقارها الواضح، و من هنا و من الظلم أن نترك النّص يغرق في مستوياته الحقيقية و ننشغل بما هو خارج عن جوهره.

جمالية الحكي:

للحكي نكهة خاصة تفرضها متعة القراءة و خصوصية النّص التشويقية و إلا كيف يمكن للسارد أن يخترق حواجز ذات الآخر و يستفز مكنوناتها كما شكّلتها التجربة و فعّلتها صيغة التبئير Focalisation و في هذا النّص ارتكز على النوع الثابت منه، حيث تهيمن صورة الراوي/الشخصية إذ "الراوي لا يقول إلا ما تعرفه الشخصية "8

" لايذكر تحديدا من منهما شد انتباه الثاني، أتكون قد أرسلت عبقا انتشاه فضمخ وجنتيه ببدء الخجل؟ أم تراه بشق نظرة قد أوحى لها؟ " هذا التداخل بين بطل القصة و الرّاوي يحمل دلالة الحضور الفاعل و التقاطع بين سيرة الأنا و سيرة الهو مشكلة تزامنا موضوعيا على استقامة واحدة غير متباينة، تتغيّر بدخول الخطاب مباشرة كرابط جديد يحقق التواصل و الاستمرار:

" -و انا خويا صغير

قديمة كطرازه تتهادى، عتيقة كما الوطن، الأيام الجميلة تلك التي تمر، الذكريات"، "-و انا خويا صغير يشم الوردات

بكبرياء تنتصب، تلاحظ ذلك من تمكنها من الصمود في وجه تيار الهواء الذي يداعب هذا البساط البهي من الورود فتميل معه جلها، لكنها تستعصي عليه."،"

و تمتزج في النّص حضور ضمير المتكلم("أنا") بضميري الغائب و الغائبة (كطراز"ه" وتمكّنـ "ها ")، قد يبدو من المفارقة أن يحضر الضميران بهذا الشكل، غير أنّ تركيب الجملتين توحدهما حتمية النتيجة " فتميل معه جلها، لكنها تستعصي عليه " فهذا التكيثف التوصيفي للبداية و النهاية يساهم في تجليManifestation الحقيقة التي يبحث عنها السارد بتشكيل رمزي / تشفيري" لوحة لاتزال تداعبها ريشة الرسام " لوحة / ريشة / رسام، تجانس الأشياء و مفضياتها ووجود علائقيات موضوعية غير أنّها مبررة بخلفية رمزية، و مقصدية جمالية - فكرية، يتحقق بها ما يسمى بالامتاع الذهني- الذاتي، نتصور من خلالها النهاية المنتظرة أو كما رسمها السارد منذ بداية المسرود و علاقته بالمسرود له.

جمالية سياقContexte المأثور:

بين عتبات هذا العنوان مجالات تقارب، أحيانا لا تكتمل جمالية النّص إلا بالاستعانة بها، و تقديرات الجمال تتوقف على مهارة السارد و قدرته على توظيف عناصر عديدة قد تبدو متباعدة من حيث طبيعة كلّ منها بما تحمله من نسق أدبي أو ذهني أو فكري، و لذلك نكتشف في نّص " يشمّ الوردات" مزجا واقعيا لبعض صوره المتداولة و تحليل بنيته كما تتصوره القاعدة البسيطة العامة و الساذجة في تقريب دلالات الملفوظ، فصيحا أو ملحونا، مشكلا بذلك مدركات أخرى، نعتبرها منبّهات- مذكرات مشتركة يتكئ عليها التأويل السيمي و التحليل البنوي للظواهر العامة و الخاصة و من هنا فإنّ جملة:" -و انا خويا صغير "، "-و انا خويا صغير يشم الوردات"، "-و انا خويا صغير يشم الوردات و يبرا" و تكرارها يشكل نسقا مختلفا و متشابكا مع ما تحدثه عملية التواصل بين ما يرويه الرواي و ما يتلقاه المروي له كعملية استئنافية، تتبع تفاصيل الأحداث و تناقض المواقف و تشابك التصورات مما يحيلنا إلى تكسير الفواصل المفترضة بين العالم الظاهر و الذي يكاد ينتهي عند حد معيّن من المستويات و بين مستوى مضمر، يخفي عالما موازيا، الوصول إليه يقتضي هذه الشيفرات المتلازمة و المتلاحقة، باعتبار الموروث الشعبي جملة من التقانات التي أصبحت تشكل المرفق الأساس لتوصيل الخطاب على خلفيته الاجتماعية الكثيرة و المتزاحمة في التداول و الترغيب و التشهير و الخلود، وهو ما يحققه النّص الناجح.

الخلاصة:

" يشمّ الوردات " نص مشبع بمختلف التصنيفات الأسلوبية، و المستويات السيميائية التي تكشف ما فيه من جماليات كامنة، أدبية ولغوية و بلاغية، باعتبار بنيته السردية قابلة لأكثر من قراءة و تأويل. 

*- النّص منشور بمجلة "أصوات الشمال" الإليكترونية و هذا رابطه (http://www.aswat-elchamal.com/ar/?p=98&a=16000).

1- الأزهر الزنّاد، نسيج النّص، بحث فيما يكون به الملفوظ نصا،المركز الثقافي العربي، ط 01 1993 ص:116و"جزءا من الملفوظ والملفوظ كاملا

2- Ingraden Roman,The Literary Work of Art ,Evanston ,Northwestern,University,press,1973,P,355.ص:84/

3- نسيج النّص، ص:14

4-( رشيد بن مالك، قاموس مصطلحات التحليل السيميائي للنصوص، دار الحكمة، ط 2000، ص: 167)

5-المصدر نفسه ص:45

6- نفسه، ص: 167

7- جاسم /خلف إلياس شعرية القصة القصيرة جدا، دراسة، دار نينوى للدراسات و النشر و التوزيع، ط 2010، ص:154

8- قاموس مصطلحات التحليل السيميائي للنصوص، ص:75


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى