الخميس ١ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم حسن توفيق

حكاية أغاني الزاحفين وكيف أصبحت أغاني زواحف!

باستثناء قليلين منهم عبدالرزاق عبدالواحد ومحمود درويش

مع بدايات الستينيات من القرن العشرين الغارب، كنت أحاول أن أتحسس طريقي إلى الساحة الأدبية في القاهرة، وكان الحب للآخرين تاجاً جميلاً ليس مرئيا، يرصع قلوب كثيرين من الناس، ومنهم بل في مقدمتهم الأدباء والشعراء، حيث كان الكبار المرموقون يمدون أياديهم لمساندة كل موهبة تستحق المساندة، ولم تكن الأحقاد والدسائس والغيرة تنهش القلوب على النحو الذي نشهده الآن.

في بعض الجلسات الأدبية الحميمة، كنت ألاحظ أن الشعراء والنقاد الذين يكبرونني، يعلقون علي قصيدة قرأوها حديثا، قائلين إنها من نوع أغاني الزواحف، وبعدها تتواصل الأفكار وتهطل الدعابات.. حين سألت الشاعر محمد مهران السيد عن حكاية أغاني الزواحف التي تضحكه كما يقول أبناء جيله، تطوع بإفشاء السر -قال لي- في البداية- هل سمعت عن مشروع ملء الفراغ في الشرق الأوسط الذي أطلقه الرئيس الأمريكي دوايت ايزنهاور، ولكن جمال عبدالناصر رفضه بحسم؟ هززت رأسي، ثم سألته باندهاش عن علاقة مشروع ملء الفراغ بأغاني الزواحف، وعرفت منه أن مجموعة من الشعراء المصريين والسودانيين الذين كانوا يعيشون في مصر، ومعظمهم كانوا من اليساريين، قد أصدروا مجموعة شعرية صغيرة، تضم قصيدة لكل شاعر منهم، وما يجمع بين هذه القصائد أنها كلها تهاجم مشروع ايزنهاور، وقد صدرت هذه المجموعة بعنوان أغاني الزاحفين ونظرا لأن معظم قصائد المجموعة كانت قصائد رديئة فنياً، فقد كتب عنها أحد محرري مجلة روز اليوسف قائلاً إنها ليست أغاني الزاحفين وإنما أغاني الزواحف.. فيما بعد حصلت من محمد مهران السيد علي نسخة من هذه المجموعة، وضحكت حين اكتشفت أن له هو شخصياً قصيدة ضمن أغاني الزاحفين التي أصبحت أغاني زواحف! وهناك بالطبع شعراء آخرون، نشروا قصائدهم التي تصوروا أنها أغاني زاحفين، فإذا بالناقد الساخر يفاجئهم بأنها ليست كذلك، ومن هؤلاء الشعر إبراهيم شعراوي وتاج السر الحسن وجبلي عبدالرحمن وعبدالمنعم عواد يوسف وكمال عمر ونجيب سرور!.

تؤكد هذه المجموعة - بشكل تطبيقي- أنه ليس بالهدف النبيل وحده يمكن لقصائد الشعراء أن تتألق وأن تبقى مؤثرة في نفوس قرائها، وذلك لأن النيات الطيبة -كما يقال- قد لا تقود إلى الجنة، بل إلى الجحيم، وعلينا هنا أن نعود إلى قصائد عربية نشرت في جرائد أو مجلات، ثم جمعت في دواوين ومجموعات شعرية، وقد ارتبطت هذه القصائد بأحداث سياسية معينة، لكنها لم تستطع -علي صعيد الفن الجميل- أن ترقى إلى المستوي الذي يؤلها لأن
تسمي قصائد بالفعل!

خلال العدوان الثلاثي علي مصر، من جانب كل من بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني سنة 1956 كتب شعراء عرب كثيرون منددين بهذا العدوان، وخلال كفاح أبناء الجزائر لنيل استقلال الوطن وتحريره من الاستعمار الفرنسي كتب شعراء عرب كثيرون، لدرجة أني اطلعت على مجلدين كبيرين يضمان القصائد التي كتبها شعراء العراق وحدهم تأييداً لثورة الجزائر.. ومع تلاحق الأحداث السياسية كان الشعراء العرب يتابعون ويواكبون هذه الأحداث.. على سبيل المثال: كم من القصائد قيلت في تحية الفدائية اللبنانية سناء محيدلي التي قامت بأول عملية استشهادية ضد المحتل الصهيوني في جنوب لبنان؟!..

أما الشهيد الطفل محمد الدرة، فإن مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري رأت أن تنظم مسابقة شعرية عنه، والنتيجة صدور ثلاثة مجلدات ضخمة عن الشهيد محمد الدرة، ويبقى السؤال: كم من قصائد هذه المجلدات يستحق القراءة بل يستحق حتى أن يكتبه من كتبه؟!
الرصاص سلاح المقاتلين الذين يمسكون بالبنادق والمدافع، والكلمة المبدعة سلاح الشعراء الذين يعبرون عما يحسون، وإذا كان المقاتل الخائب هو الذي يفشل في توجيه رصاصاته نحو الهدف الذي يريد اصطياده أو قتله، فكذلك حال الشاعر الفاشل، بصرف النظر عن نبل مقصده وجمال هدفه.
كثيرون من الشعراء الذين ربطوا إبداعهم بقضية معينة أو بحزب سياسي، يمكن أن ندرج ما كتبوه ضمن أغاني الزاحفين التي هي أغاني زواحف باعتراف أصحابها أنفسهم، وعلى سبيل المثال فإن قصائد عديدة لكل من مظفر النواب وأحمد فؤاد نجم لم تعد لها قيمة، منذ أن انتهت المرحلة التي كانت تواجهها علي الصعيد السياسي. أما الشعراء الجادون من الموهوبين الكبار، فإنهم لا يخلصون إلا للشعر وحده، يعطونه الكثير الكثير من دمهم وأعصابهم وتغلغلهم الذي لا يحل في أسرار القصيدة التي لا تبوح إلا لمن يخلصون، لكن هؤلاء الشعراء - في كل زمان ومكان - ليسوا كثيرين، وإنما هم قليلون ونادرون، ولهذا فإنهم قد يرتبطون بقضايا سياسية خلال مراحل تاريخية معينة، لكن ما يبدعونه يظل باقيا ومتجدداً، لأنه إبداع قد استطاع أن يلتقط الجوهر الإنساني، دون أن تبهره ألوان الأصداف الفارغة!

من هؤلاء القليلين النادرين، يمكنني أن أشير إلي كل من عبد الرزاق عبد الواحد ومحمود درويش، فهذان الشاعران اللذان ارتبطا بقضايا سياسية مازالا يبدعان شعراً إنسانياً حقيقياً، وليس مجرد قعقعة ألفاظ جوفاء، ومن الجيل الجديد من الشعراء العرب لابد أن أشير وأنا أشيد بالشاعرة العراقية الشابة ريم قيس كبة، فهي تكتب عما يجري في العراق من أحداث دموية مرعبة من خلال إحساسها الإنساني بقيمة الإنسان الفرد، لكن رصاصة طائشة أو قاصدة قد تفقده حياته في أية لحظة، وعلى النقيض مما تبدعه الآن ريم قيس كبة، أتذكر أمسية شعرية ضخمة أقيمت في البصرة سنة 1986، وكنت واحداً ممن حضروها، بعد زيارة خاصة لعائلة الشاعر العظيم بدر شاكر السياب، فقد ظل الشعراء يتتابعون واحداً إثر آخر على المنصة، بينما كان المستمعون الحاضرون يهربون من القاعة واحداً إثر آخر، لدرجة أني قلت وأنا أداعب عبد الرزاق عبد الواحد وحميد سعيد: كان لابد من الإتيان بحبال قوية، لكي تربط بها أقدام الحاضرين، لكي يظلوا جالسين في القاعة، ودون أن يهر
بوا من هذا السيل المتلاحق الذي تهدر به أفواه الشعراء العباقرة !.
أشرت إلى الفارق بين أغاني الزاحفين وأغاني الزواحف، وآن لي أن أتساءل عن الفارق بين أزهار ذابلة - لا أقصد الديوان الأول لبدر شاكر السياب بالطبع - وبين الأزهار الصناعية.. وهنا أقول إن الفارق يكمن في معايشة الواقع، فالقصيدة التي تنطلق من واقع معين هي زهرة، لكنها قد تكون جميلة وذات رائحة مسكرة، وقد تكون زهرة ذابلة بمجرد ظهورها، والأمر في الحالتين يتوقف على الموهبة وعلى المهارة الفنية، أما القصيدة التي يتصور صاحبها أن الحداثة تعني أن ينقلها نقلاً غبياً مباشراً تماماً مع أية زهرة صناعية، قد تكون جميلة، لكنها بلا رائحة، وقد تكون مسكرة للعيون، لكنها ليست زهرة حية!

باستثناء قليلين منهم عبدالرزاق عبدالواحد ومحمود درويش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى