الأربعاء ٢ أيار (مايو) ٢٠٠٧
بقلم حسن توفيق

حلب.. مدينة تنام على وسائد من أحلى النسمات

الشاهد على التاريخ قلعة.. والبسمة تتآخى مع الدمعة!

ليس للعشق أوان .. انه يأتي متسللا كالطير، دون استئذان.. هذا ما كان مع الجميلة - الأصيلة حلب .. على امتداد أيامها ولياليها المسكونة بالشعر والطرب.. هذا ما عايشته منذ خمس سنوات، وبالتحديد يوم الأول من مايو - سنة 2002 حيث انطلقت صباحاً من مطار الدوحة إلى مطار دمشق، ومكثت فيه عدة ساعات، تحالفت خلالها ضدي حرارة الشوق إلى حلب مع حرارة الجو داخل جدران المطار.. فجأة تذكرت المتنبي العبقري الذي كان قد توجه إلى الكوفة بعد أن نجح في الفرار من كافور الإخشيدي وخرج من مصر.. لابد أنه كان حزيناً، بل ربما كان ساخطا على نفسه وعلى الحياة.. لكن الفرحة لم تلبث ان اطلت عليه وهو في الكوفة، حيث تلقى هدية ثمينة من سيف الدولة الحمداني، حملها ابنه من حلب إلى الكوفة سنة 352 هجرية.. تكفلت حرارة الشوق في قلبي المتبني بأن تذكره بأيامه ولياليه التي قضاها في صحبة القائد العربي الشجاع بمدينة حلب.. أنضجت حرارة الشوق احدى روائع المتنبي.. خلال انتظاري في مطار دمشق للطائرة التي ستقلني إلى حلب، اخذت استعيد عدة أبيات من رائعة المتنبي.. ضحكت في سري عندما قارنت بين رحلة المتنبي من نجد الى حلب على ظهر ناقة، ورحلتي المعاصرة اليها من الدوحة مرورا بدمشق.. قال المتنبي العبقري وقتها:

نحن أدرى وقد سألنا بنجدٍ

أقصيرٌ طريقنا أم يطولُ

وكثير من السؤال اشتياقٌ

وكثير عن رده تعليلُ

لا أقمنا على مكان وإن طا

بَ ولا يمكن المكانَ الرحيلُ

كلما رحبتْ بنا الروض قلنا

حلبٌ قصدنا وأنتِ السبيلُ

في جوف الطائرة، نسيت المتنبي تماماً، فالمطبات الهوائية التي جعلت الطائرة تترنح بين حين وآخر تكفلت لا بأن أنسى المتنبي، وانما بأن انسى اسمي! وها هي الطائرة تهبط أخيرا في مطار حلب، وها هو الفنان الكبير ماجد العمري - مدير معهد حلب للموسيقا - يستقبلني أجمل استقبال مع ابنه المهندس الزراعي طلال ماجد العمري، وها هو الصفاء يعود الى روحي في الطريق من المطار إلى الفندق.

حلب الجميلة في المساء.. نسمات مدهشة ومنعشة، ليس في قاموسها كلمة رطوبة وقد أزاحت هذه النسمات المدهشة والمنعشة كثيرا مما كنت اعانيه من التعب والإرهاق، وفي غرفتي بالفندق اندفعت - قبل أي شيء - لأزيح عن جسدي كل التعب والإرهاق، حيث ظللت تحت سيمفونية ماء الدش في الحمام دقائق ممتعة، بعدها توجهت إلى شرفة الغرفة، لكي أرى ما يتيسر لي أن أراه من معالم المدينة في الليل، ولم أملك سوى أن اتنهد بارتياح: ما أجملك ياحلب.. ها أنت نائمة على وسائد من أحلى النسمات.

هذا أول صباح اعايشه وأحياه في حلب.. صحوت وأخرجت نفسي من قوقعة النوم وأنا أشعر بالحيوية وبالفرح.. من مكتبة الفندق قمت بشراء الجرائد السورية البعث - تشرين - الثورة وسألت عن جريدة الجماهير التي تصدر في حلب وحدها، لكني لم أجد ولو نسخة واحدة منها.. سعدت بشراء كتاب معالم حلب الأثرية الذي يتضمن فصلا كاملا عن قلعة حلب، وجاء طلال ماجد العمري ليصطحبني وليشرح لي شرحا وافيا تفاصيل ما أراه مما يتجلى أمامي.. المعالم.. البيوت.. أبواب حلب.. المساجد القديمة والحديثة.. الكنائس.. المتاحف.. وبين حين وآخر يزيح رذاذ المطر عن الزجاج الأمامي للسيارة التي نمتطيها والتي هي البديل العصري لناقة المتنبي!

أخيرا وصلنا إلى مقصدي.. ها نحن أمام شاهد شامخ على جلال التاريخ بكل ما فيه من انتصارات وانكسارات على امتداد عصور وعصور.. ها نحن أمام قلعة حلب التي كنت أتشوق لزيارتها وهاهي الباصات السياحية تقف بانتظام عند المدخل، لتفرغ حمولتها البشرية من السياح الأجانب ، وكان أغلبهم من الفرنسيين.

جولة مطولة وممتعة داخل قلعة حلب التي أقيمت على تلة ترتفع 61 متراً في وسط المدينة، وقد أتيح لي- من خلال الكافيتريا العصرية في أعلى القلعة- أن أسدد الكاميرا مرة تلو مرة تجاه المدينة ذاتها- المدينة التي كانت تنام ليلة أمس علي وسائد من أحلى النسمات ، وهاهي الآن مستيقظة، والحركة في شوارعها الفسيحة لاتكاد تتوقف ، ففي الحركة كما يقال - بركة.. ظللت أتابع حركة الحياة من أعلى القلعة، وأعود بين حين وآخر لأكتشف أن البسمة تكاد تتآخى في أعماقي مع الدمعة، فأنا في حضرة التاريخ، أستعيد ملامح الذين انتصروا والذين انكسروا، وأتذكر ما يقال: الأيام دول!

مر الوقت ممتعا داخل قلعة حلب، وكان لابد من الهبوط.. الهبوط أسهل وأسرع من الصعود.. لكن المطر الذي تجلى خجلان في البداية، سرعان ما أعلن نواياه الطيبة بالهطول بكل غزارة.. وهكذا احتمينا - لبعض الوقت- بمقهى شعبي أمام القلعة ، ثم انطلقنا إلى أسواق حلب القديمة والمغطاة والتي قيل لي إنها أكبر سوق مغطاة في العالم!.

ما العلاقة بين حلب المدينة و الحليب الذي نشر به عادة كل صباح؟!.. هناك علاقة توضحها الحكايات والأساطير القديمة، ولا أعتقد أن لها سندا تاريخيا حقيقيا، ففي هذه الحكايات والأساطير القديمة أن سيدنا إبراهيم عليه السلام كان يحلب غنمه في حلب كل يوم جمعة، ثم يتصدق به على الفقراء الذين يهتفون مبتهجين وفرحين.. حلب.. حلب.. وهكذا سميت المدينة حلب .. هذه الحكاية الطريفة تعني أن الناس في زمن سيدنا إبراهيم كانوا يتكلمون اللغة العربية ويهتفون حلب.. حلب أثناء حلب الغنم كل يوم جمعة!.

حلب الجميلة التي زرتها والتقيت مع كثيرين من أهلها منذ خمس سنوات ما تزال تسكن ذاكرتي، وإذا كنت لم أحصل علي أية نسخة من جريدتها الجماهير وقتها ،، فإن الكاتبة الموهوبة بيانكا ماضية قد تكفلت - فيما بعد- بأن أتابع هذه الجريدة الحلبية، فضلا عن أنها جعلتني أتابع تفاصيل الحملة الإعلامية للمطالبة -باسترداد جمجمة الثائر الحلبي العربي- سليمان الحلبي- والتي ماتزال مستقرة في متحف الإنسان بباريس ،على اعتبار أنها جمجمة مجرم وليست جمجمة الرجل الذي قتل الجنرال كليبر- القائد الثاني بعد نابليون - في حملته العسكرية ضد مصر.. وفي خاتمة هذه السطور لابد أن أعود إلى المتنبي مرددا:

كلما رحبتْ بنا الروضُ قلنا

حلب قصدنا وأنت السبيل

الشاهد على التاريخ قلعة.. والبسمة تتآخى مع الدمعة!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى