

حياة ثانية لِغسّان
أدركَ بأنهُ مَيّتٌ لا محالة، وبأن هذا اليوم، ورُبّما هذه الساعات هي الأخيرة في حياته القصيرة، لم يجزع من اقتراب الموت، ولم يخف من اقتراب دبابات وجنود العدوّ المُحتَلّ، وأيضًا لن يرحل، لن ينجو هذه المرة كما المرات السابقة، هذه المرة مُختلفة تمامًا، فالعدو أدرك هزيمته وعلم بأن زواله قريب، لذلك سيُدمّر كل شيء في طريقه، لا مفر من الموت، إذا لم يكن في هذه الساعات فسيكون اليوم، أو الأيام القادمة، عاش ثلاثون عامًا هنا، وسيموت هنا؛ على أرضه.. في بيته.
يسمع دويّ انفجار عنيف بالخارج، لم يهتزّ، كأنه ولِد من قذيفة وتربّى بين النيران، نظر إلى السماء من النافذة المُحطّمة، فرأى سحابة من دُخان أسود تحجب الشمس، يبتسم بأسى؛ ويُتمتم: بعد قليل ستزول الغيوم ويعود الضياء، هكذا الحال دائمًا.
یقول لنفسه: أنجُ بنفسك
یرُدّ في صمت: وإلى أین وكل الأماكن مدمّرة!
یسمع ذاك الصوت یھمس في أذنیه: ستموت یا غسّان
یبتسم بسخریة ممزوجة بالمرارة، ویجیب بصوت خافت: وما الفرق! فجمیعنا ولدنا لنموت، وما أجمل أن نموت فداءًا للوطن.
یسمع صوت الطائرات تحوم في السماء القریبة، تملأ الدنيا رُعبًا وضجيجًا، لا يكترث لها؛ فقد اعتاد عليها منذ زمن، منذ أن ولِد، يتذكر حين كان طفلًا بريئًا لا يعرف عن العالم شيئًا، يلعب في الشارع ويستكشف الكون، حين سمع ذلك الصوت المريع فنظر لأعلى، رأى الطائرة لا تكفّ عن الدوران في سماء البلدة، سأل أمّه: ما هذا يا أمي؟
يبتسم بأسى وهو يستعيد صوت أمّه الطيبة: هذا شرٌ مُطلَق، وهذه يا وَلَدي غربان الشيطان.
لم ينسَ قول أمّه أبدًا، ومنذ ذلك اليوم وهو يُبغض هذه الطائرات ويلعَن ذلك الصوت.
يلتقط عودًا جافًا من الحطب، ويرسم على التراب خريطة فلسطين، ثم يكتب تحتها بخط مُتعرّج مقولة محمود درويش الخالدة " على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة ".
ينظر إلى المسدس في يده الأخرى، ويُردّد ما كتبه غسّان كنفاني ذات يوم " إن كلماتي ما هي إلا تعويض صفيق عن غياب السلاح "
يحب كل ما كتبه غسان كنفاني، يؤمن بكل كلماته، وقد قرأ كثيرا له، تأثّر به، حتى أنه يحاول تقليده عندما يكتب، وذلك شيء واضح جدا، وقد نبّهه الكثير من قرائه بذلك، لكن ذلك يسعده ويشعره بقيمته، يعتبره قدوته في الحياة والنضال، لذلك سمّى نفسه غسّان، حتى أنه أطلق شاربه ليتشبّه به، وقد كان بالفعل يُشبهه، لذلك لاقَت صفحته على موقع التواصل الاجتماعي رواجًا وشهرة لا بأس بهما، ممّا جعل الأنظار تتركّز عليه، وبعد فترة قصيرة من انتشار كتاباته الثوريّة، علم بأنه مُراقَب، وبأن كاميرات وبنادق العدوّ تترصّد له وتتربّص به، لكنه لم يكترث، وواصل كتابة قصصه التي تُنادي بالنضال ومُقاومة الاحتلال.
يقف غسّان ويتّجه نحو النافذة الكبيرة، شعر برغبة عارمة في رؤية الحي، وقف دون تفكير في المخاطر، وأخذ يتطلّع إلى البنايات التي أصبحت أنقاض، وإلى شوارع الحي التي صارت كالصحراء، تمنَّ لو أنه شاعرًا حتى يبكي على الأطلال، لكنه لا يُجيد كتابة الشعر، ولا رغبة لديه في البُكاء اليوم.
ينظر هنا وهناك؛ قريبًا وبعيدًا، لا يرى سوى الخراب؛ الحي أصبح رماديّ اللون، لقد دمّره الملاعين، لم يتوقّف القصف طوال الليل، رغم أن أهل الحي قد رحلوا، لملموا أشيائهم وذكرياتهم ونزحوا، لكنه لم يرحل معهم، ظل واقفًا أمام بيته يُتابع أهل الحي وهم يغادرون، كان مشهدًا مهيبًا، ذكّره بما حدث في النكبة الأولى، هو لم يشهد النكبة، لكنه سمع عنها كثيرًا، حضرها بروحه، وتألّم كما تألّم أجداده، وها هي النكبة تتكرّر مرة أخرى، وها هو يُحاول استعادة روح غسّان في كتاباته، يُجاهد لكي يترك أثرًا لا يُنسى.
أخذ يودّع النازحين في صمت، يتفحّص الوجوه ويحتفظ بملامحهم في ذاكرته، يخفق قلبه حزنًا عندما تذكر قول العم أيوب؛ البقّال العجوز، مرّ من أمامه وهو مُنكّس الرأس، يتكئ على عصاه ويحمل على كتفه حقيبة قديمة، كان يُردّد في قهر " وين نروح يا الله؟ وين العرب؟ لماذا تخلّوا عنّا وتركونا للموت؟ "
يضع كفّه على موضع قلبه، كأنه يمنعه من الانفجار، يستحضر صوت خالته صفيّة التي استشهدت منذ شهر في خان يونس، كان قد زارها قبل الحرب بأيام، جلس معها ومع أبنائها الخمسة، وكان على الجدار صورة لزوجها الذي مات في سجون الاحتلال من أثر التعذيب.
قالت له بعد حديث قصير عن أحوال البلد
" ستتحرّر فلسطين يا ولدي؛ لا تقلق، فنحن شعب عنيد لا ولن يُهزَم، وستظل أرحام النساء تلد المُقاومين، وسنظل نُقاوم ونُحارب ما دُمنا أحياء، وإذا لم نشهد لحظة التحرير؛ فبالتأكيد ستشهدها الأجيال القادمة "
يتنهّد غسّان ويترحّم على خالته، لطالما أعطته الأمل، وكانت تُربّي أبنائها على الكفاح والمُقاومة، تُعدّهم لكي تُقدّمهم ثوّارًا على جبهة النضال، لطالما شبّهها بأُم سعد التي كتب عنها غسّان كنفاني، يراها نموذج أصيل للمرأة الفلسطينية الصابرة والصامدة، الأُمهات اللاتي يلدن المجاهدين كما تُنبت الأرض أشجار الزيتون.
ينظر إلى قُرص الشمس، يُحاول تجاهل غصّة في حلقه ونغزة ألم في صدره، ويسأل نفسه ذلك السؤال الذي لم يعثر له على جواب: لماذا لم تتحرّر هذه الأرض منذ خمس وسبعون عامًا؟
يزفر ضيقًا وحنقًا، يسُبّ العالم أجمَع، ويلعَن ذلك الكيان المُغتصب، لِمامة الشعوب، لصوص.. أوغاد.. قتَلة.. عديمي الأخلاق والشرَف؛ تخلّص منهم العالم وألقاهم على هذه الأرض الطيبة.
يُغمض عينيه ليستعيد هدوئه، لا يجب أن يفقد اتّزانه في هذا الوقت، اللحظات القادمة تحتاج بشدّة للكثير من الثبات والشجاعة.
يستعيد ذلك الشعور الذي اعتراه في ذلك المساء، حين اجتمع مع بعض المُثقفين في مقهى الميدان، وأخذوا يتناقشون عن الماضي والمُستقبل والسياسة والكُتُب والفن.
كان ذلك اليوم مميزا لكثرة الحاضرين، التفَّت المقاعد والتصقت في شكل عبثي، ودار الحديث وطال النِقاش، وكثر المزاح والضحك والجِدال، كانت جلسة دافئة يغمرها الود واللطف، ولكن ثمّة قلق دبّ في صدره عندما لمح وجهًا غريبًا، كان رجلًا أربعينيًا أصلع الرأس، ذو أنف مُدبّب وعينين تشعّان خُبثًا ومكرًا، هذا ليس وجهًا فلسطينيًا، علم أنه جاسوسًا جاء يتلصّص عن قُرب، ساوره الشكّ ونبت في قلبه خوفاً طفيفًا، لم يشعر بالراحة أمام نظرات الرجل الكريهة، قام وانصرف بعد استئذان غير مُقنع، وخرج يتجوّل في الشوارع بخطى سريعة قلقة، وفجأة وجده أمامه, ذلك الرجل كئيب الوجه وكريه المنظر, وأدرك بأنه لا مفرّ من المواجهة.
وقف أمامه غسّان بثباتٍ وشموخ، تحلّى بالعزّة والجُرأة وظلّ ناظرًا في عينيّ الرجل في تحدٍّ. ابتسم الرجل ابتسامة صفراء خبيثة يداري بها ضعفه واهتزازه، ثم كسر الصمت وسأل غسّان بلهجة ساخرة: ما فائدة ما تفعلونه؟
ابتسم غسّان ابتسامة واثقة، وأجابه بصوتٍ قويّ وبنبرة واثقة وساخرة: لو كان ما نفعله بلا فائدة لما جِئت تتجسّس علينا، ولما قُمتم باغتيال غسّان كنفاني، تعلمون بأن المُقاومة بالقلم والفِكر أخطر من المقاومة بالقنابل والبنادق، ونحن شعب لا يستسلم ولن يخضع، وبأننا سنقاوم بكل ما نملكه، يرعبكم أننا لا نخشاكم ولا نخشى الموت، وأنكم أوهن من بيوت العناكب، وأن تفرقة العرب هي سبب بقائكم حتى الآن، لستم سوى بيت عنكبوت تحميه الدبّابات والطائرات وقبّة حديدية، لكن كل ذلك سينهار يومًا ما، وأنتم تدركون جيدًا بأن زوالكم قريب جدًا، وتأكّد من أننا لن نترك أرضنا أبدًا.
يفتخر بنفسه كلّما تذكر هذا الموقف، لكم أحبّ هذا الشعور، ارتدى عباءة غسّان كنفاني وتحلى بروحه، قام بتقليده في طريقة الحديث الواثقة والنظرات الحادة والشرسة، هو يُحبّ كنفاني كما يُحب فلسطين.
يسحب غسّان نفسًا طويلًا ويُعبّئ رئتيه بالهواء والغبار، ينظر إلى قطع السُحُب المتناثرة في السماء، يتخيّل قطع السُحُب البيضاء وجوه أصدقائه الذين استشهدوا، صالح الذي ارتقَى وهو يُدافع عن فتاة كان يُضايقها جندي حقير، تلقى رصاصة غادرة من جندي آخر جبان، وياسين الذي شارك في عملية الطعن منذ سنوات، استشهد بعد طعنه لجنديين، وسيلين الجميلة، الفتاة التي كانت تحلم بأن تكون صحافية، صدمتها سيارة من سياراتهم وتركوها مُلقاة على الطريق تنزف حتى الموت.
يضغط على مسدّسه، يتمنى لو يمتلك جحيمًا كبيرًا ليُلقي فيه ذلك المُحتلّ الغاشم والفاجر والمُنحطّ، الغضب بداخله بركانًا ينفجر كل يوم، كل لحظة.
يتذكّر لقائه الأخير مع صديقه صالح، صوته يتردّد على أذنه وكلماته مازالت في ذاكرته، لم ينسَ أبدًا ما دار بينهما في تلك الليلة، ولم تنطفئ جذوة الحماسة التي أشعلتها كلمات صالح
"سنفعلها يا صديقي، هذا البلد سيتحرّر، وستعود فلسطين لنا كما كانت دائمًا، علينا أن نتكاتف جميعًا ونكون يدًا واحدة، سنحرّرها؛ بالصبر والنضال؛ بالعلم والعمل؛ بالبندقيّة والقلم، سنفعلها، صدّقني؛ سنُحرّرها بعون الله وقدرته. "
يسمع صوت الدبّابات تقترب، يعود للداخل بين الجُدران المُتصدّعة، يمسك صورة والدة الموضوعة على الأرض، يمسح عنها الغبار ليرى ملامح والده؛ الرجل الذي استشهد قبل توقّف الانتفاضة الثانية.
يلتقط صورة أخرى لأمّه؛ المرأة الصابرة التي ماتت في هدوء منذ بضعة سنوات، ماتت حُزنًا وقهرًا.
وضع الصورتين على الأرض وجلس بينهما، أخرج هاتفه وفتح صفحته المعروفة، وكتب: لا تنسوا فلسطين، ولا تنسوني، اقرأوا لغسّان، واقرأوا لي.
وضع هاتفه على الأرض وهشّمه بحجر، ثم رفع الحجر والمسدس أمام عينيه،
"من أجل وطننا، حاربنا بالقلم والحجر والسلاح، وسنظل نحارب، الوطن أو الموت، النصر أو الاستشهاد"
ينتبه لأصوات في الخارج تنطق بالعبرية، يلقي الحجر ويتجه نحو باب الخروج بخطى واثقة، لطالما تمنى موتٌ مُشرّف كموت غسّان كنفاني؛ المناضل الذي اغتاله الملاعين بتفجير سيارته. يتجسّد أمام عينيه مشهد أبو الخيزران في رواية رجال في الشمس، يُتمتم بصوتٍ مسموع " لماذا لم يَدقّوا جُدران الخزّان؟"
يخرُج من البناية ويُصبح في مواجهة العدو، وحده أمام جيش صغير، لم يخف ولم تهتز في جسده شعرة، بل شعر بقوة لم يشعر بها من قبل، وقف شامخًا كجبل، كشجرة زيتون عمرها ألف عام، رفع يده وصوّب مسدّسه نحو أعداء الزمن ولصوص الأرض والتاريخ، وأطلق الطلقات وهو يبتسم كأنه يلهو، وانشرح صدره بسعادة عظيمة عندما رأى ثلاثة أوغاد يسقطون، وكما أراد وتمنّى، تلقى بضع رصاصات في صدره، وسقط، ارتطم جسده بالأرض وهو مازال يبتسم، والتقت عينيه بقُرص الشمس الأصفر، ورأى وجه غسّان كنفاني باسمًا متوهّجًا، ينظر إليه باعتزاز وفخر، كأنه يُحيّيه ويُناديه، فبادله التحيّة في صمت، ابتسم له، وصعدت روحه إلى السماء دون أن يُغمِض عينيه.
تــــــمَّــــــــت