الأربعاء ١٨ آذار (مارس) ٢٠٠٩
روبرت براونينغ وإليزابيث باريت
بقلم عمر يوسف سليمان

حيث يثمر الحب شعراً

حين نستعرض سيرة الشاعر روبرت براونينغ، تنقصنا لنكمل هذه السيرة أولنفسرها حياة الشاعرة إليزابيث باريت، والتي كانت مكملة ليس لحياته فقط، بل لشعره، فقد كانَت أجمل قصائد الشاعرين كأنها ردود أورسائل، فأكثر ما كتبه روبرت من القصائد نجد له جواباً في قصائد إليزابيث، مما يدخلنا في إثارةٍ تدفعنا إلى البحث عن كل قصيدة لأحدهما بعد أن نقرأ قصيدةً للآخر. . .
 
فكيف استطاع الشاعران أن يتكاملا في الحب والشعر؟، ولماذا كان زواجهما سرياً؟، ولمَ انتقلا للعيش في إيطاليا؟
روبرت براونينغ شاعر بريطاني، (1812-1889)، ولد في مدينة كامبرويل شمالي لندن، ولم يتابع تعليمه في المدارس الرسمية، بل كان معظم ما تعلمه من مكتبة والده المنزلية، حيث تعلم اللاتينية
واليونانية والإيطالية والفرنسية وهوابن أربعة عشر عاماً، بسبب تلك المكتبة الضخمة التي أتاحت له الاطلاع، وأول ما قرأ من الشعر لبايرون وجون كيتس.
 
كانت أمه عازفة بيانوشهيرة، أما والده فكان يعمل كاتباً في بنك، إضافةً إلى أنه
عالم آثار وله اهتمام بالفن.
 
بدأ روبرت بكتابة الشعر في سن مبكرة جداً، الثانية عشر، وتأثر على الرغم من سنه بشيللي وبمذهبه في الحياة أيضاً، فأعلن نفسه نباتياً وملحداً، ثم انقطع عن كتابة الشعر حتى العشرين من العمر.
 
بين الرابعة عشر والسادسة عشر تعلم روبرت فنون الموسيقى والرسم والرقص والفروسية.
 
عام 1828 (وكان عمره ستة عشر عاماً)سجلَ بجامعة لندن، ولكنه غادرها بعد فصل واحد ليتفرغ لقراءته الحرة وغير المنظمة، والتي ظهرت آثارها لاحقاً في قصائده وأسلوبه.
 
نشر روبرت أول أعماله الشعرية بعنوان(بولين) عام 1833، والثاني بعنوان (سورديللو) عام 1840، و(الأجراس والرمانات) عام 1844 ولكنه لم يلق نجاحاً بعد كل هذه الكتب بل عُدَّ فاشلاً في الوسط الثقافي آنذاك.
كما حاول في هذه الفترة أن يكتب المسرح، ولكنه فشل أيضاً، ولكن على الرغم من ذلك، فإن ما كتبه روبرت في تلك الفترة وما أدخله من التطوير في بنية القصيدة وإيقاعها كان يضم كثيراً مما جاء به كبار الشعراء فيما بعد، كباون عزرا، وتي إس إليوت، وروبرت فروست.
 
حتى هذا التاريخ كان روبرت معتمداً بشكلٍ كاملٍ على عائلته، التي هيئت له بثرائها التفرغ للتعلم والكتابة، ولم يغادر لندن باستثناء زيارة قام بها إلى إيطاليا عام 1838.
 
عام 1844 بدأ روبرت بقراءة قصائد لشاعرة معاصرة له، هي إليزابيث بارِّيت، التي قام بمراسلتها ثم قابلها، حتى تم زواجهما عام 1846، دون موافقة والد باريت الذي لم يقتنع
بروبرت لأسبابٍ لم تُذكر، وهذا سبب سرية زواجهما.
 
انتقل الزوجان عام 1846 إلى إيطاليا، ولم يغادراها إلا في أوقات العطل التي كانا يقضيانها في باريس أوإنكلترا، وقد رزقا بأول طفل لهما عام 1849وسمياه(pen) (قلم)، كما كان معظم إنتاجهما الأدبي في هذه الفترة، فقد ألهمت إليزابيث زوجها مجموعته الشعرية الأفضل(قصائد الرجال والنساء) عام 1955، وقد كان يُعرف روبرت في تلك الفترة بـ(زوج إليزابيث باريت)!.
 
إذاً لم يستطع روبرت براونينغ أن يصبح شاعراً مهماً إلا باقترانه بإليزابيث، الملهمة والمعلمة، ولكن يبدوأن مُلهمة روبرت لم يتسن لها البقاء. . . فقد توفيت عام 1861(أي بعد ست سنوات من الزواج كتب خلالها روبرت أفضل إنتاجاته الإبداعية)، ليرجع إلى إنكلترا مع ولده الوحيد، وهنا يتضح أن سبب المغادرة لم يكن إلا خوفاً من والد زوجته.
 
بعد العودة حقق روبرت براونينغ انتشاراً شعبياً واسعاً بسبب مسرحياته وكتبه الشعرية، ويبدوأن رحيل إليزابيث كان ملهماً أيضاً بما تركه في نفسه من الحزن والألم، حيث أنجز مسرحيته الأهم(الحلقة والكتاب)عام 1868، مستنداً على محاكمة قتلٍ وقعت في القرن السابع عشر.
 
لم يغادر لندن بعد ذلك، إلا بزيارات إلى كُلٍّ من اسكتلندا وسويسرا وفرنسا، كما كتب مسرحيات شعرية، كان أكثرها أهمية مسرحيات القصائد الرعوية التي كتبها بين عامي 1979 1980، إضافة إلى كتاب ضم مجموعة قصائده الكلاسيكية بعنوان (مغامرة بولوسِشِن) و(منقذ المجتمع) عام 1871، و(اعتذار أريسوفونس)، عام 1871، و(فيفين في المعرض)عام 1872.
 
بعد هذه الرحلة الطويلة منح روبرت براونينغ الدكتوراه الفخرية من جامعة أكسفورد عام 1882، ومن جامعة أدنبرة عام 1884.
 
طُبعت أعماله الكاملة عام 1889، وهوالعام الذي تُوفي فيه. . . ودُفن في دير (ويست مينستر).
 
حقيقة أكثر ما يهمنا من هذه السيرة هوطبيعة الدور الذي لعبه روبرت في قصائده، فحين نحاور هذه القصائد نجده الشخص المتطفل على الحبيب(إليزابيث)، ويبدولنا عاشقاً مغرماً وطائشاً أحياناً، وحين ننتقل إلى قصائد إليزابيث باريت نجدها الحبيبة العقلانية الهادئة، المقتربة من الواقع، والخاشية من كذب الناس، على أنها واقعة في غرام هذا العاشق المتهوِّر، الذي يتسلل إلى أحاسيسها الشفافة رغماً عنها، فقد كتبت إلى إحدى صديقاتها بعد رسالةٍ تلقتها من روبرت-وهي المُترجمة في هذه المادة-:لقد أوصلني برسالته حتى النشوة، هل هذه رومانسية؟!.
 
ولعل الخشية الأكبر التي تجعل إليزابيث إنسانة عقلانية، والدها، وما يؤكد صبيانية الشاعر الرائع بالنسبة لزوجته الكم الكبير من الرسائل وما احتوته من عباراته الغرامية، فقد جُمعت رسائله التي كتبها بين عامي 1845-1846 في كتاب مستقل -والرسالة التي قمتُ بترجمتها منه-وقد صدر بالإنكليزية عام 1969.
 
على أن الرسالة المُترجمة، والتي كتبها روبرت في إحدى أسفاره فوق مركبة النقل، تحوي من النقدِ ما نستشف منه الطريقة المُستخدمة من قبل النقاد في القرن التاسع عشر، والجدير بالالتفاتِ هوتطابق ما قام به براونينغ في نقده لقصائد إليزابيث مع النقد المتداول هذه الأيام، فالإيقاع الجديد، والانحرافات اللغوية، وأناقة الأسلوب، والفكرة غير المطروقة، أمور تطرق لها براونينغ.
 
ومن الطريف أن روبرت كان يختم رسائله هذه بشعار يحوي رسماً لشعر فرس أحمر وأسدا جالساً فوقَ درع، وتحتهما كلمة Virtue (الفضيلة) أما إليزابيث فكانت تختم ردودها إليه بكلمة (pet) (المُدللة).
 
هكذا اكتملت معادلة الحب بين الزوجين الشاعرين، اللعوب والمتعقلة، الخيالي والواقعية، باتحاد عالميهما الشعريين ليشكلا كوناً واحداً متكاملاً.
 
رسالة روبرت براونينغ لإليزابيث بارِّيت:
 
10 كانون الثاني 1845
الصليب الجديد، هاتشام، السَّرْية(*)
 
إنني أحب أشعارك من كل قلبي، يا عزيزتي الآنسة بارِّيت، وما سأكتبه ليس رسالة مرتجلة وكلاماً مجانياً، ولا أي شيء آخر أيضاً.
بالطبع، أنا لم أتعجل بالحكم على عبقريتِك، وهناك دلالةٌ جميلة على نجاحكِ أوأن أخبركِ به:منذ اليوم الذي بدأت فيه بقراءة قصائدك الأسبوع الماضي، وأنا أكثر الضحك مني حين أذكر كم مرة أعدت تهيئة ما سأقوله لأعبر لك عن تأثري بما قرأت!.
حين اعترتني البهجة لأول مرة اعتقدت أنني سأخرج هذه المرة عن عادتي تماماً في إعجابي السلبي، لذلك عندما أعجبتُ فعلاً، بررتُ إعجابي، ربما أيضاً، كنوعٍ من التأكيد على ذلك قلت:سأطلب من أحد زملائي في الكتابة أن يحاول ويجد الأخطاء التي تقع بها، ليكون فخوراً بها فيما بعد، ولكن دون جدوى.
 
هذه الحياة الشعرية الرائعة التي تملكينها، ليست زهرة مقتطفة من الحياة، ولكنها زهرة مستقلة تجذرت ونمت.
أستطيع أن أشرح سبب إيماني بشخص، وسبب تميزه:موسيقا قصائدك غير المطروقة والغريبة، لغتك الغنية، أسلوبك المتأنق، وأفكارك الرائعة، غير أني في جميع ما قلته أطرح انطباعاتي النفسية الخاصة، بعد أن امتزجت بنفسك.
لكنني حين قرأت لك أول مرة، شعرت بهمس صوتك فعلاً، كما قلت:إنني أحب كتبها من كل قلبي، وأحبك كثيراً، هل تعلمين أنني أستطيع رؤيتك؟، قال لي السيد كينيون في صباح إحدى الأيام:"هل تود رؤية الآنسة باريت؟"،
ثم ذهب، وحين عاد أخبرني بأنك مريضة، وها قد مرت سنوات، وأنا أشعر بأن ردهات الحياة تتجاوزني كلما أكثرت من السفر، ولكن حين آوي إلى مصلاي أشعر أنني قريب، قريبٌ جداً من عالمي الرائع.
 
فوق القبو، هناك صندوق للدفع، وهناك ذُل، وبار، ربما أدخل، ولكن سأذلني بدخولي، إن بابه نصف المفتوح يُغلَق، وأنا سأقطع آلاف الأميال لأعود إلى منزلي، ولكنني سأكون فاقداً للبصيرة.
 
حسناً، لقد كان ما كتبت آنفاً قصيدة، وأشكرك كثيراً على ما منحتني من شعور البهجة، إنني فخورٌ بهذا الشعور.
 
المخلص إلى الأبد:
روبرت براونينغ
 
(*)السَّرْية:مركبة ذات أربع عجلات ومقعدين.
 
قصيدتان للشاعرين:
 
(حياة في الحب)
روبرت براونينغ
 
ستهرب مني؟
أبداً. . .
 
أيها المحبوب:
بينما أنا أنا، وأنت أنت
طالما أن العالمَ يحتوي كلينا
فليكن لي الحب ولك البغض
حين يتملص أحد المحبوبين، فعلى الآخر أن يلاحقه.
 
إن حياتي عبارةٌ عن خطأ في نهايةِ الأمر
وحقيقةً أنا خائف:
إن هذا الخطأ يبدوكبيراً حتى أنه سيلازمني حتى نهايةِ الحياة.
 
وبينما أفعل الأفضل، نادراً ما أنجح
وإذا فشلتُ في الوقت الحاضر
لن يكون فشلي إلا لتُرهقَ أعصابي.
 
كي تجففَ عينيكَ وتسخرَ من السقوط، وتناضل
انهض من جديدٍ وابدأ ثانية
لذلك فإن تشيس يرضى بحياةٍ واحدة فقط، هذا كل شيء.
 
بينما ينظر المرء من اتجاهه الأبعد نظرةً بالغةَ العمقِ خلال الغبار والظلام
لن يفارقَ الأملُ القديمُ آخرَ جديداً ويختفي عاجلاً من الأرض
هكذا بطبيعةِ النفس
أختمني بطابعٍ لا يزول إلى الأبد.
 
(إذا كان عليك أن تحبني)
إليزابيث باريت
 
إذا كان عليك أن تحبَّنيْ
فبح بغايتك
ودع كل ما دون ذلك.
 
لا تقل:"أحبها من أجلِ بسمتها، نظرتها، طريقتِها اللطيفة في الكلام"
لتخدع فكري الذي ينهار فوق ألغامك الجذابة!.
 
لا ريبَ أن جلبَ الإحساسِ السار للناسِ سهلٌ اليوم
من أجلِ أن يحققوا الأشياء التي في نفوسهم
المحبوب، ربما يتغير، بل يتغير بالنسبة لك
الحب منمَّقٌ جداً
ربما لا يكون منمقاً
لا تحبَّني لأكونَ مملوكاً عزيزاً تشفق عليه وتمسح خدوده المليئة بالدموع.
قد ينسى المخلوقُ البكاء
البكاءَ الذي جعله يرتاح طويلاً
هكذا يخسر الناس حبهم!
أحبَّني لأجل الحب.

مشاركة منتدى

  • قرات ماكتبه الأستاذ عمر يوسف سليمان وأنا كنت أعد دراسة عن الشاعر روبرت برواننغ وبصدق سعدت جدا بالمقال فهورائع واسلوب عذب وسلس واقدم شكرى العميق للكاتب وانا اعد الطبعة الثانية من كتابي أعلام في الأدب العالمي وهذه الطبعة متوفرة على النت لم يريدها دون حظر
    والان اعد الطبعة الثانية تحتوى على 200 كاتب وشاعر عالمي من مختلف البلاد الأجنبية
    اشكرك ايها الأديب
    وتحياتي
    على عبد الفتاح القاهرة
    01220863815

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى